اختلف العالم جذرياً بين القرنين السابع عشر والحادي والعشرين. ولكن صراعات أوروبا وحروبها قبل أربعة قرون حافلة بدروس تشتد حاجة العرب اليوم إلى استيعابها، وفي مقدمتها درس العلاقة بين وقف التدهور وتوفير عوامل النهوض من ناحية، وترسيخ مبدأ التسامح الديني والمذهبي من ناحية ثانية.
غرقت أوروبا في النصف الأول من القرن السابع عشر، وخاصة في الأعوام الثلاثين «الكبيسة» من 1618 إلى 1648 في حروب دينية ومذهبية وسياسية. ولا تخلو الصورة العامة في العالم العربي الآن من أوجه تشبه بعض ما كانت عليه أوروبا في تلك المرحلة، على رغم اختلاف الظروف والتفاصيل كلياً وتغير العالم جذرياً. وربما يكون الفرق الأساسي في الصورة العامة هو الإرهاب الذي لم يكن ضمن تجليات صراعات أوروبا وحروبها. غير أن مختلف التجليات العنيفة والمدمرة الأخرى للتعصب والتطرف غمرت أوروبا في القرن السابع عشر على النحو الذي يعاني العرب من مثله بعد أربعة قرون.
كان التعصب والتطرف هما جذر الأزمة التي بدأ الأوروبيون طريقهم إلى الخلاص منها عبر إرساء مبدأ التسامح الديني والمذهبي وترسيخه. واقترن ذلك بتغيير البيئة المتخلفة حضارياً، على نحو فتح الباب أمام النهوض التاريخي لأوروبا وأزال العوائق التي عطلت إرهاصات النهضة الفنية والأدبية التي بدأت تلوح في بعض الإمارات الإيطالية منذ القرن الخامس عشر، ولكنها بقيت محدودة التأثير ومحتجزة نحو ثلاثة قرون. ولم يكن ممكناً فتح الطريق التي بقيت مغلقة أمامها طول تلك الفترة إلا عبر استيعاب دروس صراعات القرن السابع عشر وحروب نصفه الأول الضارية.
وكان الدرس الأول والأهم هو أنه لا سبيل لوقف نزيف الدماء إلا عبر إحلال التسامح محل التعصب. وعندئذ بدأ الإصغاء إلى مبدأ التسامح الذي حمل رايته المنيرة عدد من المفكرين والفلاسفة كان في مقدمتهم جون لوك، وجون آدون، وروبرت فرجسون، ووليم بين، وجون همفري، وبيير بيل وغيرهم، وصولاً إلى فولتير في القرن الثامن عشر.
ولا تختلف ركائز مبدأ التسامح التي بلورها هؤلاء في النصف الثاني من القرن السابع عشر من حيث جوهرها عن الأسس التي تقوم عليها دعوة المستنيرين العرب منذ عقود إلى مواجهة التطرف والإرهاب بلا جدوى حتى الآن.
فعندما نعود مثلاً إلى كتاب جون آدون الصادر عام 1669، والذي يمكن ترجمة عنوانه Truth and innocency vindicated بشيء من التصرف إلى «إنصاف الحق والبراءة»، يبدو مضمونه منطبقاً على ما يحدث في العالم العربي الآن. فهو ينبّه إلى أخطار التعصب الديني والمذهبي، ويحذر من العنف المترتب على هذا التعصب وما يؤدي إليه من حروب أهلية وبينية، ويدعو إلى قبول الآخر والتوقف عن شيطنته والامتناع عن اضطهاد المخالفين، ويحث على تقدير قيمة العقل الإنساني والاستناد إلى أحكامه.
وقل مثل ذلك عن كتاب روبرت فرجسون «تحديد الأخطار والتهديدات» الصادر عام 1688، والذي ناقش فيه قضية العلاقة بين العقل والدين، وسعى إلى إثبات عدم وجود تعارض بينهما. وكم يبدو ما كتبه عن الإكراه في الايمان قريباً مما ينبه إليه المستنيرون العرب منذ سنوات طويلة، وهو أن هذا الإكراه يؤدى إلى وجود تدين شكلي أو طقوسي، ولكنه يخلق -حسب تعبيره- «منافقين وجهلاء في أمور الدين».
وينطبق هذا التشابه أيضاً على ما طرحه بيير بيل في كتابه «نقد عام لتاريخ الكلفانية» الصادر عام 1681، عندما انتقد الازدواج المريع في معايير المتعصبين والمتطرفين دينياً ومذهبياً. فقد ذهب إلى أن الدين الحق لا يجيز لأي من أتباعه ادعاء أن الآثام التي ترتكبها جماعته تعتبر بريئة، ولكنها تصبح جرائم إذا ارتكبها آخرون.
كما نجد في تلك الفترة مناقشات لدحض تأويلات متطرفة لبعض ما ورد في الإنجيل، على النحو الذي يحدث مثله الآن بشأن تأويل المتطرفين لبعض الآيات القرآنية والأحاديث المنسوبة إلى الرسول عليه الصلاة والسلام. فعلى سبيل المثال، أدى إرساء مبدأ التسامح إلى إعادة النظر في تفسير كان شائعاً لعبارة منسوبة إلى عيسى عليه السلام، وهي «أكرهوهم على الدخول»، عبر إثبات تعارضها مع روح الإنجيل ومع ما يطلق عليه تاريخ الكنيسة الأولى.
فكان التسامح هو الدرس الأول الذي تعلمه الأوروبيون من صراعاتهم وحروبهم، ولكن بعد خسائر مهولة. فمتى سنتعلم هذا الدرس، وهل نستوعبه قبل أن تتضاعف خسائرنا؟
د.وحيد عبدالمجيد
صحيفة الحياة الاتحادية