منذ عام 1975 وحتى اليوم اختزنت الذاكرة البشرية، لمن عاصر تلك الأيام، أو لمن رآها كصور في ما بعد، ذلك المشهد الذي وثّق الهزيمة الأمريكية النكراء في فيتنام، حين تصور الغزاة أنهم باقون، لكن دخول مقاتلي الشعب الفيتنامي لسايغون، أجبر الولايات المتحدة الأمريكية على إجلاء رعاياها ودبلوماسييها وعملائها بالطائرات السمتية، من على سطوح مباني سفارتهم في المدينة، بعد أن فاجأتها إرادة الشعب الفيتنامي. كان مشهدا مهينا وهم يتراكضون للحصول على فرصة التعلق بالطائرات، قبل أن يلقي الثوار القبض عليهم.
واليوم يتكرر المشهد عينه في أفغانستان، فقد كان الخط البياني لتوقعات الجيش الأمريكي والأجهزة الاستخباراتية يوم 10 أغسطس/ آب الجاري، يشير إلى أن مقاتلي طالبان قد يكونون قادرين على دخول العاصمة كابل خلال ثلاثة أشهر، ثم انحدر هذا الخط سريعا يوم 14 من الشهر نفسه لتصبح توقعات الدخول خلال 72 ساعة. لكن يبدو أن مقاتلي طالبان أرادوها أن تكون مفاجأة من العيار الثقيل، فدخلوا كابل في أقل من 24 ساعة يوم 15 من هذا الشهر، بعد أن هرب الرئيس بطائرة أمريكية إلى طاجكستان، تاركا البلاد بلا حكومة ولا مؤسسات، وبذلك تحققت المعادلة التي تقول إن الغزاة والذيول والأتباع والعملاء معا في مزبلة التاريخ، وأن إرادة الشعوب لا تُقهر.
ولأن الغزاة لا يمكن أن يعترفوا بهزائمهم، ولا بالإهانة التي يتلقوها على أيدي الشعوب، التي لا تقبل بالاحتلال، فقد راح الرئيس الأمريكي بايدن يُفنّد مقارنة الهروب الأمريكي من أفغانستان بالهروب من فيتنام قائلا «لن يكون هنالك من يجب إجلاؤه جوا من على سطح السفارة الأمريكية في أفغانستان. لا يمكن المقارنة على الإطلاق» ثم لحق به وزير خارجيته أنتوني بلينكن، رافضا المقارنة أيضا، وبذلك تكون أطول حرب أمريكية قد أُسدل الستار عليها بهزيمة منكرة. لكن لماذا تصر الولايات المتحدة الامريكية أن تبقى شرطي العالم؟ لقد كان هذا المآل معروفا منذ عقدين من الزمن، وكانت الأصوات ترتفع في الكونغرس وفي داخل المجتمع الأمريكي والمجتمعات الغربية، مطالبة بالانسحاب من أفغانستان، لكن الأمريكيين اعتادوا أن ينظروا إلى أنفسهم كأمة استثنائية، وكمثال يجب أن يُحتذى من قبل الآخرين، ولهم الحق الحصري في خلق دول ديمقراطية، واختراع دول جديدة وإسقاط حكومات قائمة. لكن الفشل السياسي والعسكري الذريع في العراق وأفغانستان، فتح الباب على تساؤلات مهمة مثل، ماذا فعلنا بتلك البلدان؟ ولماذا أنفقنا كل تلك الاموال وأزهقنا أرواح جنودنا؟ غير أن العنجهية والغرور يجعلان من الصعب على الساسة الأمريكيين، ديمقراطيين وجمهوريين، أن يوضحوا أن نتائج حروبهم هزائم. علة عقل صانع القرار السياسي الأمريكي، أنه دائما يفكر بأن الحرب كالزكام، ستنتهي من تلقاء نفسها، وأن الشعوب يمكن أن تستكين أمام عناصر القوة التي يمتلكها هو، وفي كل مرة يكتشفون أنهم على خطأ لكنهم لا يتراجعون بإرادتهم أبداً. كانوا يرون ويلمسون الفشل السياسي والعسكري في أفغانستان يوميا، لكنهم كانوا يراهنون على حكومة عميلة لا تحكم.. كانوا يأملون في أن تقوم باكستان باحتواء طالبان، مقابل الدعم الذي يقدمونه لها، لكن إسلام آباد كانت تلعب عليهم، ولم تكن مهتمة بمساعدة الأمريكيين لتعزيز الاستقرار في كابل، لأنهم تعودوا على التعامل مع أفغانستان غير مستقرة، بل على العكس كانت باكستان ترى أن الحفاظ على النفوذ الاستخباراتي في دول الاضطراب أسهل. كما حاول أوباما الاعتماد على الصين والهند وإيران لمساعدتهم في أفغانستان، وتحدثت هيلاري كلينتون آنذاك عن مشروع اقتصادي يمر بأفغانستان، وتعم فائدته دول المنطقة جميعا، لكن كل ذلك لم يأتِ بنتيجة تجاه أصرار الشعب الأفغاني على التحرر.
العنجهية والغرور يجعلان من الصعب على الساسة الأمريكيين ديمقراطيين وجمهوريين، أن يوضحوا أن نتائج حروبهم هزائم
ومع السنين التي كانت تمرّ، كان الوقت بالنسبة للأمريكيين وطالبان يسير بوتائر مختلفة، لم يكن الوقت يسير في صالح الولايات المتحدة في ظل الخسائر المادية الجسيمة، في حين كان الوقت يسير لصالح مقاتلي هذه الحركة، لأنهم يقاتلون منذ أكثر من 40 عاما، ولم يكن لديهم ما يخسرونه.. كما لم يعد يهمهم أن ينتظروا سنة أخرى أو أكثر حتى ينهزم الجيش الأمريكي، لكن المفارقة أن الأمريكيين وطالبان وصلوا إلى حقيقة مشتركة وهي، حتى لو تمكنت الولايات المتحدة الامريكية من القضاء على قادة طالبان، فإنهم لن يتمكنوا من القضاء على كل من يكره الولايات المتحدة في أفغانستان. كان كل يوم يمر على هذا البلد تزداد كراهيتهم فيه، فقد دعموا حكومات فاسدة متتالية، لم تستطع تقديم أي شيء يذكر لإنقاذ الأفغان من الوضع البائس الذي يعيشونه، كما أوغل الجيش الأمريكي في دماء الأبرياء وقتل الالاف منهم بالطائرات المسيرة، بحجة الخطأ في استهداف قادة طالبان، إلى أن وصلت الولايات المتحدة الامريكية إلى قناعة مفادها، أن المهمة العسكرية في هذا البلد قد تمتد إلى ما لا نهاية، فقررت مفاوضة من تتهمهم بالإرهاب، وجلست معهم حول طاولة واحدة. كما قررت أن لا تُطلع الحكومة التي نصبتها في كابل على ما يجري بينها وبين طالبان، لذلك بعد تحرير كابل وجدنا ممن كانوا في الحكومة يتهمون واشنطن بأنها قد غدرت بهم.
ومع فضيحة الهزيمة المُنكرة للقوات الأمريكية من هذا البلد، تصحو الولايات المتحدة اليوم على وقع الصدمة الكبرى، ويحار الجمهوريون والديمقراطيون في تفسير ما حدث، على الرغم من أنهم اتفقوا على مغادرة أفغانستان. قال البعض كان على إدارة بايدن أن تعطي جدولا زمنيا أطول للانسحاب. رأي آخر قال كان ينبغي التخطيط للانسحاب في نهاية الخريف وبداية الشتاء، لأن الصيف يعمل لصالح مقاتلي الحركة، الذين كانوا دائما يحققون انتصاراتهم في هذا الفصل. وصولا إلى ما قاله زعيم الجمهوريين في مجلس الشيوخ ميتش ماكونيل من أن «المحاولات غير الواقعية للإدارة للدفاع عن السياسات الخطيرة التي يتبعها الرئيس بايدن مهينة». وأضاف أن «قرارات الرئيس بايدن تدفعنا إلى نتيجة أسوأ حتى من السقوط المهين لسايغون في 1975». وعلى وقع الهروب الأمريكي الغربي من أفغانستان، تجدد الولايات المتحدة طلبها باستكمال المفاوضات مع حركة طالبان، التي بدأت منذ عهد الرئيس السابق دونالد ترامب، وعلى أساسها تم الاتفاق على الانسحاب. المفاوضات الجديدة تتعلق بمستقبل أفغانستان، حسب التصريحات الأمريكية، ويبدو أنهم يريدون فرض شروط أمريكية، كي يتم قبول أفغانستان في المجتمع الدولي بحكومة من طالبان. لكنهم ينسون أن الحركة اليوم هي من تفرض شروطها، حسب العرف الذي يقول بأن المنتصر هو من يفرض ما يريد.
في نوفمبر/ تشرين الثاني عام 2001، تغادر طالبان كابل تحت وقع ضربات التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة الامريكية.. وفي أغسطس 2021 تدخل طالبان كابل فيهرب الرئيس العميل، وتغادر طائرات التحالف المكان. فما الذي يوحيه هذا المشهد؟
القدس العربي