بعد عقدين.. التحولات الفكرية للعدالة والتنمية التركي

بعد عقدين.. التحولات الفكرية للعدالة والتنمية التركي

يمثل حزب العدالة والتنمية ظاهرة فريدة في الحياة السياسية التركية، فهو الحزب الأطول حكما في تركيا على الإطلاق وبشكل مستمر منذ الانتخابات البرلمانية الأولى التي خاضها بعد تأسيسه مباشرة.

اليوم، وقد تحول العدالة والتنمية إلى حزب حاكم مهيمن على الحياة السياسية في البلاد، تغير الكثير في تركيا وفي الحزب نفسه، مما يستحق التوقف عنده بالبحث والتحليل، وفي مقدمة ذلك التحولات الفكرية التي مر بها الحزب على مدى 20 سنة مرت من عمره.

الحزب الذي أتى استجابة لحالة الانسداد السياسي في البلاد وكُفْرِ الشارع بالنخبة السياسية القائمة التزم بأجندة إصلاحية واضحة، حيث كان شعاره محاربة “الفساد والفقر والمحظورات” في البلاد، وهي المشاكل الرئيسة لتركيا مع بداية الألفية وفق تقييم الحزب نفسه، وهو أمر وافقه عليه كثيرون.

المنطلقات
النواة الرئيسة المؤسسة لحزب العدالة والتنمية في 14 أغسطس/آب 2001 كانت مجموعة من القيادات الشابة في حزب الفضيلة، آخر أحزاب تيار “الميللي غوروش” أو (الفكر الوطني) بقيادة رئيس الوزراء الراحل نجم الدين أربكان، الذين كان يطلق عليهم اسم التيار الإصلاحي. خسر مرشح هذا التيار الشاب عبد الله غل انتخابات رئاسة الحزب أمام مرشح الحرس القديم المدعوم من أربكان، فكانت تلك لحظة الفراق وقرار تأسيس حزب جديد.

لكن هذه المجموعة أرادت تغييرا جذريا في التفكير والأسلوب والخطاب، فقدمت العدالة والتنمية “حزبا لكل تركيا” وممثلا لمختلف الشرائح، إذ اجتمع في قائمة مؤسسيه وفي هيئاته القيادية إسلاميون وقوميون وليبراليون ويساريون. وبالتالي، ابتعد الحزب الوليد عن الأيديولوجيا هوية وخطابا بشكل ملحوظ، وعرَّف نفسه على أنه حزب خدماتي تحت سقف الدستور التركي وملتزما بعلمانيته، وإن لم ينف يوما الخلفية المحافظة لمؤسسيه الكبار، وهي توليفة جعلت التعريف الأقرب له في سنواته الأولى “حزب ديمقراطي محافظ”.

الحزب الذي أتى استجابة لحالة الانسداد السياسي في البلاد وكُفْرِ الشارع بالنخبة السياسية القائمة التزم بأجندة إصلاحية واضحة، حيث كان شعاره محاربة “الفساد والفقر والمحظورات” في البلاد، وهي المشاكل الرئيسة لتركيا مع بداية الألفية وفق تقييم الحزب نفسه، وهو أمر وافقه عليه كثيرون.

ولسنوات طويلة، بقي العدالة والتنمية على نفس المسار، فكرا وخطابا وممارسة، لكن الحزب الذي يحكم منذ 19 عاما تعرض لاحقا لتغيرات جذرية في فكره وخطابه وتعريفه لنفسه، وانعكس ذلك على مساراته وسياساته.

أسباب التغيير
يقال إن التغيير هو الشيء الوحيد الثابت في السياسة، ولعل حزب العدالة والتنمية مثال جيد على ذلك، إذ ثمة اختلافات جلية في واقعه اليوم -وهو حزب حاكم- عن بداياته الأولى التي كان يسعى فيها للنجاح وتثبيت أقدامه.

أحد أهم أسباب التغيير هو طول الفترة التي حكمها الحزب -19 عاما- التي كانت كفيلة بتغيير الكثير، ابتداءً من الأسماء والأشخاص مرورا بالأولويات والإستراتيجيات وانتهاء بالهوية وتعريف الذات والآخر.

كما أن تحول العدالة والتنمية إلى حزب حاكم مهيمن على الحياة السياسية في البلاد لحوالي عقدين صبغ فيها تركيا بصبغته الخاصة ألقى بظلاله على طريقة تفكير الحزب وخطابه وسياساته؛ إذ ثمة فارق كبير بين العدالة والتنمية الذي كان يسعى للتعريف بنفسه والإقناع بأحقيته في ممارسة السياسة والحكم ثم تجنب الفشل والإفشال والحظر كما حصل ما سابقيه، والعدالة والتنمية الذي صاغ كل شيء تقريبا في السياسات التركية الداخلية والخارجية لما يقرب من عقدين من الزمن، لدرجة أن هناك ملايين من الشباب لا يعرفون تركيا ما قبل حكمه أصلا.

ومن العوامل المؤثرة في التغيير التحالفاتُ التي نسجها الحزب مع أحزاب وتيارات أخرى، وآخرها حزب الحركة القومية الذي شكّل معه “تحالف الجمهور” أو (الشعب) منذ 2017 بشكل غير رسمي وغير معلن وما زال قائما حتى الآن.

ومنها كذلك تفرد أردوغان برئاسة الحزب والدولة منذ 2014، الذي ألقى بظلاله على كليهما، وهو أمر مختلف عن البدايات التي تميزت بالتفكير الجمعي والمشهد القيادي التشاركي في ظل قيادة أردوغان.

ومن الأسباب، تبدُّل قوة الحزب في المشهد السياسي الداخلي وإنجازاته ومدى تماسك الحاضنة الشعبية حوله. ومنها أيضا جملة الأزمات التي مر بها الحزب والبلاد على مدى الـ20 سنة الأخيرة، وآخرها محاولة الانقلاب الفاشلة صيف 2016، التي دفعت الحزب لمسارات جديدة مختلفة. وهي أزمات تزامنت وتناغمت مع تطورات عديدة محليا وإقليميا ودوليا، حاول الحزب بقيادة أردوغان أن يوائم نفسه معها وأن يخرج منها بالمكاسب الأعظم ويتجنب الخسائر المحتملة قدر الإمكان ببراغماتيته المعهودة.

التغيير الفكري
دفع كلُّ ما سبق إلى تغيير الحزب وتطوير بعض أولوياته وسياساته وتوجهاته، لكن التغيير الأهم والأكثر تأثيرا هو تعديل الحزب أكثر من مرة تعريفه لنفسه وفكره وهويته، وهو ما انعكس بالتأكيد على المناحي الأخرى كافة. ولعل من اللافت أن التطورات السياسية في الداخل والخارج كان لها تأثير أكبر مما هو متوقع على هذا التغيير.

في البدايات، ومع حرص الحزب على نفي الأيديولوجيا عن نفسه وتأكيد افتراقه عن مسار الراحل أربكان من جهة، وسعيه من جهة أخرى لمسار الانضمام للاتحاد الأوروبي كأولية لسياسة تركيا الخارجية -باعتباره خيارا إستراتيجيا أو تكتيكيا، لا فرق- فقد عرف نفسه على أنه حزب “ديمقراطي محافظ”. وهي التسمية الأقرب للأحزاب المسيحية المحافظة في أوروبا في ذلك الوقت، مثل حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي الذي قادته المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل سنوات طويلة.

هذه المرحلة التي ساد فيها التركيز على العمل والابتعاد عن الاستقطاب وهدوء السياسة الخارجية استمرت حتى نهاية 2010 وبداية 2011. صادف حينها وصول الحزب لذروة قوته الداخلية وشعبيته بحصوله على %49.5 من أصوات الناخبين في الانتخابات البرلمانية مع التطور الأكبر والأكثر جذرية في المنطقة وهو الثورات العربية. دفع ذلك العدالة والتنمية لخطاب “الأمة” الذي كثر فيه استخدام مصطلح “نحن” للتعبير عن تركيا وجاراتها من الدول العربية، في مرحلة عادت فيها أنقرة للحديث عن الفضاء العثماني والمشتركات مع دول المنطقة وانتهجت خلالها سياسة خارجية نشطة مبادرة ومتدخلة في الأزمات.

منذ 2013 صعودا، تواترت وتزامنت في تركيا أزمات وتحديات عديدة داخلية وخارجية توِّجت بمحاولة الانقلاب الفاشل في 2016، مما دفع لتغيير جديد في فكر الحزب الحاكم وخطابه وسياساته، حيث رفع شعار “المحلي والقومي” في كل شيء تقريبا. ابتعد الحزب في هذه المرحلة كثيرا عن فكره وهويته وخطابه في البدايات وبات وكأنه حزب يميني قومي، يصل أحيانا لحدود الشعبوية، متأثرا بتحالفه مع حزب الحركة القومية الذي حرص على كسب أنصاره، ومتأثرا كذلك بتراجع شعبيته وأدائه الانتخابي بشكل نسبي وتدريجي.

خاتمة
خلاصة القول، طرأت على حزب العدالة والتنمية منذ تأسيسه قبل 20 عاما متغيرات كبيرة. فقد خرج أو أُخرج منه عدد من الشخصيات الوازنة من المؤسسين والقيادات التنفيذية ذات البصمات الواضحة في مسيرته ونجاحه، وخرج من عباءته أحزاب جديدة، ولم يعد بلا بديل بالنسبة لبعض الشرائح المجتمعية وجزء من أنصاره، وتشهد نتائجه الانتخابية مؤخرا تراجعا نسبيا وتدريجيا وإن كان ما زال الحزب الأول في البلاد بلا منافس حقيقي.

أحد أسباب هذه المتغيرات هو التحولات التي شهدها الحزب على صعيد الفكر والخطاب والممارسة، لكن من جهة أخرى فإن هذه التحولات قد تكون أحد أسباب استمرار الحزب -وأردوغان تحديدا- في الحكم حتى اللحظة رغم كم التطورات الداخلية والإقليمية والخارجية التي تدفع باتجاه آخر. كما أن كل ذلك يعني أن الانتخابات الرئاسية والبرلمانية المقبلة ستكون أصعب من سابقاتها بكثير، مما يجعلها أكثر أهمية وحساسية وتحديدا لمستقبل الحزب من جميع سابقاتها.

ويعني ذلك، من جهة ثالثة، أن الحزب مفتوح نظريا على تغيرات مستقبلية باتجاهات أخرى أو عودة لتوجهات ومراحل سابقة، لكن المعطيات الحالية والتحالفات القائمة تقول إن تغيرا من هذا النوع ليس مرجحا قريبا ولا بالسهولة المتوقعة أصلا، بل إن المتوقع أن يستمر العدالة والتنمية في مساره الحالي لمدة لا بأس بها، فكرا وخطابا وممارسة.

سعيد الحاج

الجزيرة