على مدى سنوات، عمل المرشد الإيراني علي خامنئي على دعوة أفغانستان إلى إنشاء نظام حكم مستقل وإسلامي إلى حدٍّ كبير. وفي السنوات الأخيرة حرص على تشجيع الأفغان على مقاومة “الشر” الأمريكي، مكرراً الحديث عن أوجه التشابه بين “المقاومة” الأفغانية، والسورية، والعراقية، واليمنية. وقبل سقوط كابول أشار المسؤولون الإيرانيون إلى الكيفية التي يمكنهم بموجبها استخدام انتصار “طالبان” لتعزيز أهدافهم في الشرق الأوسط، على الرغم من أنهم ما زالوا قلقين بشأن مصير الشيعة الأفغان.
بناءً على البيانات والتصريحات الرسمية والتغطية الإعلامية الصادرة حتى الآن، يبدو أن الانهيار المفاجئ للنظام الديمقراطي الليبرالي الناشئ في أفغانستان جاء مفاجأةً سارّة للنظام الإيراني، حيث أعرب المعلّقون عن سرورٍ حذر من استيلاء حركة “طالبان” على الحكم ومن الأيام الأخيرة الفوضوية للحكومة المدعومة من الغرب. هذا، وفي عام 1998، كادت إيران أن تخوض حرباً مع “طالبان” بعد سنوات من قيام طهران بتسليح وتمويل [القوة الأفغانية المعروفة بـ] “التحالف الشمالي”، الخصم المحلي للحركة. وحتى أواخر عام 2015، كان المرشد الأعلى علي خامنئي لا يزال يشير إلى “طالبان” على أنها “مجموعة من المرتزقة المتعصبين الذين لا يعرفون شيئاً عن الإسلام أو المعايير الدولية”.
ومع ذلك، فاليوم هناك شخصيات إيرانية بارزة مثل مسؤول وزارة الخارجية رسول موسوي، الذين يطلقون بسهولة على الجماعة اسم “الإمارة الإسلامية”، الإسم المفضل لـ “طالبان”، وتقوم وسائل الإعلام الحكومية بتصويرها على أنها حركة متجددة. وفي غضون ذلك، لم يذرف الرئيس الجديد إبراهيم رئيسي دموعاً للحكومة المخلوعة، بل وصف “الهزيمة العسكرية” للولايات المتحدة و”انسحابها” كفرصة لجميع الأفغان لتحقيق سلام دائم. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا، ما هو سبب هذا التحوّل، وما تداعياته على سياسة إيران على المدى القريب في أفغانستان وخارجها؟
الإضرار بالمصالح الأمريكية مع حماية مصالح إيران
قبل أشهر طويلة من هذا التغيّر العلني الأخير في صورة الحركة، يبدو أن إيران كانت تعمل وراء الكواليس لجني الفوائد من هذه الحلقة الأخيرة من الحرب الطويلة، ومن بينها الحصول على ضمانات بالحفاظ على سلامة المسلمين الشيعة في أفغانستان. على سبيل المثال، لم تعرب طهران عن قلقها عندما سقطت هرات ومجتمعها الشيعي الكبير في أيدي مقاتلي “طالبان” السنة الراديكاليين في 15 آب/أغسطس، وربما يشير ذلك إلى أنه تم مسبقاً إبرام صفقة مع الحركة [حول هذا المجتمع]. ووفقاً لـ “وكالة تسنيم للأنباء” التابعة للدولة الإيرانية، طمأن مسؤولو “طالبان” طهران مؤخراً بأن الشيعة الأفغان يمكنهم ممارسة تقاليدهم الدينية بحرية وأمان، بما في ذلك الاحتفالات المستمرة لشهر محرم التي تتوج بيوم عاشوراء. ومع ذلك، أظهرت مقاطع فيديو جديدة نُشرت على مواقع التواصل الاجتماعي من مدينة هرات أن مقاتلي “طالبان” يعرقلون مثل هذه المساعي.
إن ميل إيران نحو “طالبان” وابتعادها عن الحكومة الأفغانية الموالية للغرب ليس بالأمر الجديد. فعلى مدى العقدَين الماضيين، حرص خامنئي على تناسي دور أمريكا في الهزيمة الأولى للحركة عام 2001، بينما دعا البلاد إلى إنشاء نظام حكم مستقل وإسلامي إلى حدٍّ كبير – وهو ما يبدو أن حركة “طالبان” عازمة على القيام به اليوم مجدداً. ثم، بعد سنوات من نبذ شرعية “طالبان”، توقّف المرشد الأعلى فجأة عن انتقاد الحركة في عام 2015. ومهما كانت أسبابه، أخذ يركّز منذ ذلك الحين على التشجيع على مقاومة “الشر” الأمريكي في أفغانستان، مكرراً الحديث عن أوجه التشابه بين “المقاومة” الأفغانية، والسورية، والعراقية، واليمنية.
وعلى مستوى المنطقة، يأتي الوضع الناشئ في أفغانستان ليضفي قدراً كبيراً من عدم اليقين من سياسة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، ومن المرجح أن تستغل إيران ذلك من خلال تشجيعها العديد من وكلائها المحليين على زيادة نشاطهم في الأسابيع والأشهر المقبلة. وقد تحاول حتى تجنيد “طالبان” في “محور المقاومة”، والذي من الناحية العملية يمكن أن يخوّل الحركة الحصول على شحنات الوقود، والأموال، والأسلحة المتطورة الإيرانية الصنع. وسبق أن قدمت طهران بعض الأسلحة – عندما زار الأمين العام لـ “المجلس الأعلى للأمن القومي” الإيراني علي شمخاني كابول في كانون الأول/ديسمبر 2018، وأفادت بعض التقارير أنه أخبر الحكومة الأفغانية أن إيران كانت تزوّد “طالبان” بالأسلحة الخفيفة.
وخلال هجومها في جميع أنحاء البلاد، استولت الحركة أيضاً على مخابئ كبيرة للأسلحة الأمريكية المتقدمة التي تبلغ قيمتها مليارات الدولارات. وقد ينتهي الأمر ببعض هذه الأسلحة الآن في أيدي القوات الإيرانية أو الميليشيات التي تعمل بالوكالة أو الجماعات الإرهابية. وفي المقابل، قد تَعرض طهران مساعدة “طالبان” في الحفاظ على ترسانتها التي استولت عليها في حالة تشغيلية.
ما هو الدور المقرر لميليشيا إيران الأفغانية؟
قبل التطورات الدراماتيكية الأخيرة، كان من المتوقع أن تقوم ميليشيا “لواء فاطميون”، العاملة بالوكالة عن إيران – والتي تضم آلاف المقاتلين الأفغان المتمرسين الذين ساعدوا في دعم نظام الأسد السوري منذ عام 2012 – دوراً فاعلاً في مواجهة استيلاء “طالبان” المحتمل على الحكم، على الأقل في المناطق الشيعية. ولكن في 12 آب/أغسطس، نفت الميليشيا شائعات عن نشر أيٍّ من قواتها في أفغانستان أو سيتم نشرها مستقبلاً؛ كما أشاد البيان بالانسحاب الأمريكي وسخر من الديمقراطيين الليبراليين الأفغان.
ومع ذلك، لا يجدر تصديق هذا الإنكار. فقد يكون لأعضاء “فاطميون” قيمة هائلة في جمع المعلومات الاستخباراتية لـ «فيلق القدس» الإيراني إذا ما قررت طهران إرسالهم إلى أفغانستان، لذلك يبدو من المعقول للغاية أن يعمل بعضهم هناك وسط الفوضى الحالية. ومع ذلك، فمن الجدير بالذكر أن مثل هذه الأنشطة ستظل تشكل ضبطاً كبيراً للنفس مقارنةً بالمعارضة الرئيسية التي نظمتها إيران في العراق قبل عدة سنوات لمواجهة تنظيم «الدولة الإسلامية» – وهي جماعة جهادية سنية تشترك في العديد من أوجه التشابه الأيديولوجي مع “طالبان”. وقد يكون عدم نشر “فاطميون” على نطاق واسع أيضاً وسيلة إيران للحفاظ على اللواء باعتباره قوة عسكرية وسياسية تستطيع استخدامها لاحقاً في الخطط المستقبلية لأفغانستان.
الخاتمة
حين تهدأ الأمور ويتّضح الوضع على الأرض، يمكن توقع قيام إيران بتغيير نهجها مع أفغانستان بأي طريقة تعتقد أنها ستُحقق لها أقصى استفادة من الانهيار. وإلى جانب العمل على إقامة علاقات مع “طالبان”، من المرجح أن يعني ذلك الضغط على الولايات المتحدة وشركائها بعزمٍ وثقة أكبر، لا سيما في العراق وسوريا واليمن.
ومن المفترض أيضاً أن تعيد طهران النظر في خططها القديمة المتعلقة بالعمل العسكري عبر الحدود في أفغانستان، وذلك لضمان استعداد قواتها لمحاربة “طالبان” إذا تعثرت الترتيبات الحالية أو الاتفاقات المستقبلية مع الحركة. فالإيرانيون لن يروا في “طالبان” أبداً حليفاً طبيعياً – فبغض النظر عن التقارب بينهما في معاداة أمريكا، يبقى الطرفان خصمَين إيديولوجيين مع استياء تاريخي تجاه بعضهما البعض. وفي سياق متصل، ستراقب إيران عن كثب سكانها السنة في المقاطعات المتاخمة لباكستان وأفغانستان، خاصة بعد أن هنّأ رجل الدين السني الإيراني الأعلى مولوي عبد الحميد إسماعيل زاهي حركة “طالبان” علناً في 17 آب/أغسطس. وقد يكون النظام قلقاً أيضاً من زيادة تهريب المخدرات من أفغانستان نظراً لانخراط “طالبان” المكثف في مثل هذا النشاط في الماضي.
وفي الوقت نفسه، هناك أسباب منطقية لتوقع تحالف بين إيران و”طالبان”، حتى لو كان محدوداً على المستوى التكتيكي. ففي النهاية، إن الخلافات الشيعية – السنية لم تمنع إيران من إقامة علاقات وثيقة مع جماعات مماثلة (على سبيل المثال، «حماس» و «الجهاد الإسلامي الفلسطيني»)، طالما أنها تشاطر أعداء مشتركين. ويمكن للشراكة مع حركة “طالبان” أن تلبّي العديد من المصالح الإيرانية، أي: إبقاء الجماعات الأكثر تطرفاً بعيدة [عن إيران] (على سبيل المثال، تنظيم «الدولة الإسلامية») ؛ وإقامة علاقات اقتصادية وسياسية أوثق مع أولئك الذين يحكمون أفغانستان؛ وربما تمكين إيران من الوصول إلى مناطق ذات أغلبية شيعية بعيدة مثل «جيلجيت بالتستان»، وهي جزء استراتيجي من كشمير يرتبط بأفغانستان والصين.
وبالنسبة لتنظيم «القاعدة»، يبقى أن نرى ما إذا كان النظام سيسمح لكبار أعضاء الحركة المقيمين حالياً في إيران بالانتقال إلى أفغانستان. وفي ضوء هذا الاحتمال والمخاطر الأمنية الأخرى، من الضروري أن تتأكد الولايات المتحدة من أن قدرات الاستخبارات والمراقبة والاستطلاع الكافية تركز على أفغانستان وحدودها مع إيران وباكستان على مدار الساعة – وهو مطلب من شأنه أن يعطي أهمية أكبر للقواعد الأمريكية في الشرق الأوسط.
فرزين نديمي
معهد واشنطن