الدخول الثاني لـ”طالبان” إلى كابول… خطوة للأمام واثنتان للوراء

الدخول الثاني لـ”طالبان” إلى كابول… خطوة للأمام واثنتان للوراء

لا يشبه انسحاب السوفييت من أفغانستان عام 1989 الانسحاب الأميركي، الذي يشهد العالم فصوله الأخيرة منذ أوائل الشهر الحالي. بعد الانسحاب الأول اندلعت الحرب الأهلية في البلاد، وتأسست حركة “طالبان” في 1994، التي نجحت، خلال عامين، في السيطرة على الحكم، وأعلنت تأسيس “الإمارة الإسلامية”، التي استمرت في السلطة خمس سنوات. وبسبب نهجها المتشدد في تجربة الحكم حينذاك، هناك قلق عام اليوم من تكرار التجربة الأولى، مع سيطرة الحركة على الغالبية العظمى من التراب الأفغاني. وأثار دخول مقاتلي “طالبان” إلى العاصمة، في 15 أغسطس/آب الحالي، استنفاراً سياسياً وإعلامياً دولياً، لا يضاهيه إلا ذاك الذي رافق حرب تقويض حكم الحركة في 13 نوفمبر/تشرين الثاني 2001.

من المفترض أن التجربة التي مرت بها “طالبان” تركت أثرها على تفكير قيادة الحركة

ودامت حرب المجاهدين الأفغان ضد الغزو السوفييتي قرابة 14 سنة (1978-1992)، وانتهت بهزيمة ساحقة، كانت أحد الأسباب التي عجلت بسقوط الاتحاد السوفييتي، وتركت البلد للحرب الأهلية التي دامت أربع سنوات حتى حصدت “طالبان” النتائج، وسيطرت على كابول في 1996، وذلك بعد نحو عامين من تأسيسها في سبتمبر/أيلول 1994 من قبل الملا محمد عمر في مدينة قندهار، وبمشاركة مجموعة من طلبة المدارس الدينية الدارسين للشريعة الإسلامية. وكان نصب أعين هذه المجموعة إقامة الشريعة الإسلامية، والقضاء على حكم أمراء الحرب. وهناك مسألة تستحق التوقف عندها في سياق تطورات الموقف في أفغانستان، وهي توظيف التشدد الديني. وأول من لعب هذه الورقة هي الولايات المتحدة التي عملت على تعبئة المجاهدين الأفغان دينياً ضد السوفييت، ودخلت على هذا الخط العديد من الدول منها السعودية، وباكستان، والإمارات، الأمر الذي عكس نفسه في اعتراف الدول الثلاث دون غيرها بـ”إمارة أفغانستان الإسلامية”، التي أعلنتها “طالبان” بعد دخولها كابول في سبتمبر 1996، ومن هناك ذهبت في خط تصاعدي للتطرف حتى وصل إلى هجمات 11 سبتمبر 2001، التي تبناها تنظيم “القاعدة” بقيادة الراحل أسامة بن لادن.

أفغانستان
تقارير دولية
كابول تحت حكم عسكر “طالبان”: اعتقالات وغموض بشأن السلطة الانتقالية
حين بدأت “طالبان” الزحف إلى كابول في 15 أغسطس الحالي، حصلت حركة نزوح مضادة باتجاه المطار، مكونة من آلاف الأفغان الذين لا تزال ماثلة أمامهم صور الرعب الذي بثته الحركة خلال السنوات القليلة من حكمها، حيث حرمت الفتيات من الالتحاق بالمدارس، والنساء من العمل خارج الرعاية الصحية، ومنعت الأطباء الذكور من علاج النساء. ومنعت النساء الخروج من البيت إلا برفقة قريب ذكر، وارتداء البرقع في كل الأوقات في الأماكن العامة، وفي حال مخالفة قواعد معينة، يتم جلدهن أو إعدامهن علانية. كما تعرضت الأقليات الدينية والعرقية للتمييز الشديد، فيما قامت الحركة بحظر الأنشطة ووسائل الإعلام، بما في ذلك الرسومات والتصوير الفوتوغرافي والأفلام التي تصور الأشخاص أو الكائنات الحية الأخرى. كما حرمت الموسيقى التي تستخدم الآلات باستثناء الدف.

وانخرطت “طالبان” في الإبادة الثقافية، إذ دمرت العديد من المعالم، بما في ذلك تمثال بوذا الشهير، الذي يبلغ من العمر 1500 سنة، في باميان. وعادت الكثير من وسائل الإعلام الدولية إلى فتح ملفات ذلك الماضي الأسود، في الوقت الذي بدأ فيه بعض زعماء “طالبان” يتوافدون على البلد من الخارج، استعداداً لإعلان “إمارة أفغانستان الإسلامية”.

يتبين من إدارة “طالبان” للمفاوضات مع الولايات المتحدة والأمم المتحدة أنها اكتسبت خبرة

الوضع اليوم يختلف عما كان عليه، ومن المفترض أن التجربة التي مرّت بها “طالبان” تركت أثرها على تفكير قيادة الحركة، لتصبح أقرب إلى البراغماتية، وتقيس الأمور وفق منطق حسابات مختلفة. وربما خيبت كافة الرهانات عليها، من جانب حركات إسلامية معتدلة ومتطرفة، تريد لها أن تعاود سيرتها السابقة. وهناك إشارات إلى أن الحركة، التي دخلت كابول الأسبوع الماضي، غير تلك التي دخلتها في 1996. في المرة الماضية كان هدفها القيام بـ”ثورة إسلامية” على طريقة المجاهدين القادمين من الحرب مع السوفييت، وفي هذه المرة تريد أن تحكم، مع الأخذ في عين الاعتبار عاملين مهمين. الأول هو، أن تركيبة الحركة تعددية، لأنها تمثل شرائح كبيرة من الأفغان، على امتداد الجغرافيا الأفغانية الشاسعة، والتي تبلغ مساحتها ضعفي مساحة بريطانيا. والعامل الثاني هو أن “طالبان” حركة دينية لا تؤمن بالديمقراطية والانتخابات والحريات الاجتماعية، ولكنها لا تستطيع أن تجاري عالم اليوم إذا استمرت على هذا المنوال، وستحكم على نفسها بالعزلة، ولن يتعامل معها المجتمع الدولي، القادر على تقديم الدعم المالي من أجل إعادة البناء.

ولو تم النظر إلى إدارة “طالبان” للمفاوضات مع الولايات المتحدة والأمم المتحدة منذ العام 2018، يتبين أنها اكتسبت خبرة، ترجمتها في الطريقة التي اتبعتها لسحب البساط من تحت أقدام حكم الرئيس أشرف غني، والسيطرة على الوضع تدريجياً في الأسابيع الأخيرة، ما يعني أن هناك قيادة محنكة تديرها. ومنذ دخول كابول يجري تداول عدة أسماء صارت في صدارة المشهد. وحسب صحيفة “ذا غارديان” البريطانية، فإن زعيم “طالبان” المقبل هو هيبة الله أخوند زادة (نائب زعيم مؤسس الحركة الملا محمد عمر الذي رحل عام 2013) ويساعده ثلاثة نواب، صنفتهم على نحو “السيئ والأسوأ والأشد خطراً”، وهم رئيس المكتب السياسي للحركة الملا عبد الغني برادر، الذي عاد إلى مدينة قندهار من الدوحة في اليوم الثاني لدخول كابول قبل أن ينتقل إلى العاصمة، والثاني رئيس اللجنة العسكرية للحركة الملا محمد يعقوب، وهو نجل الملا عمر، والثالث هو سراج الدين حقاني، نجل جلال الدين حقاني القريب من “القاعدة”. وهناك اثنان آخران سوف يكون لهما دور، هما عبد الحكيم حقاني ومحمد عباس ستانكازي. ومن المؤكد أن الحكومة التي يجري التفاوض حولها سوف تضم عدداً من هؤلاء، وفق ما سوف يرسو عليه الاتجاه العام. وما هو مطلوب من “طالبان” أن تثبت أنها تعلمت الدرس السابق ولن تكرر الأخطاء، وأن تظهر قدرة على التحكم بمناطق نائية أبعد من مطار كابول، وتحسن التعامل مع كافة مكونات البلد، وخصوصاً الأقليات والنساء.

تبدي الحركة مرونة من أجل تركيز وضعها بانتظار ما ستسفر عنه التطورات على الأرض

ويؤكد خبراء إعلاميون قريبون من خط الحركة داخل أفغانستان وخارجها، أن “طالبان” بحاجة لأن تؤسس نظام حكم جديد يقبله الداخل والخارج، وهذا يتطلب إمكانات مادية كبيرة واستقراراً لا يأتي إلا من خلال دعم دولي. وتدرك الحركة أن هناك مطالب دولية عليها تلبيتها، وكي يتم قبولها محلياً، عليها تغيير قراءتها المتشددة في تسعينيات القرن الماضي، والتي قادت إلى التدهور الكبير، وبالتالي عليها أن تتراجع إلى الوراء.

المؤتمر الصحافي الأول للناطق باسم الحركة ذبيح الله مجاهد، الذي عقده في كابول بعد يومين من دخول “طالبان” العاصمة، وجه من خلاله رسائل واضحة إلى المجتمع الدولي، أهمها أن بلاده “لن تستخدم ضد أحد أو تكون ملاذاً للإرهاب”، وستحترم حقوق المرأة وفق الشريعة الإسلامية، بالإضافة إلى حرية الإعلام. وثمة حدود يجري التفاوض عليها مع “طالبان” بوساطة أطراف إقليمية ودولية صديقة للحركة، من أجل تقديم نموذج مختلف، تعبر عنه تشكيلة الحكومة المقبلة. وفي هذا الوقت تبدي الحركة مرونة من أجل تركيز وضعها بانتظار ما تسفر عنه التطورات اللاحقة على الأرض. وعليه فإنها مستعدة لتقديم بعض التنازلات، ريثما تمر العاصفة، وتأتي الرياح بما تشتهي السفن. ويبدو من ذلك أن “طالبان” مجبرة على قبول الواقع، في الوقت لا تبدو فيه الصورة التي رسمها الرئيس الأميركي جو بايدن للموقف العام واضحة. وقال، في مقابلة مع شبكة “ايه بي سي” في الـ19 من الشهر الحالي، “أعتقد أنهم يمرون بنوع من الأزمة الوجودية بشأن هل يريدون أن يعترف بهم المجتمع الدولي على أنهم حكومة شرعية؟”. وأكد أن “طالبان” ستواجه ضغوطاً اقتصادية ودبلوماسية ودولية لتغيير سلوكها، في الوقت الذي يتوجب عليها كذلك أن تبذل جهداً لمعرفة إن كان بوسعها توفير الدعم للأفغان.

بشير البكر

العربي الجديد