على الرغم من أن الصراع الذي شهدته سوريا منذ تفجر انتفاضة مارس 2011 ضمن انتفاضات موجة الثورات العربية ظل ضمن إطار صراع القوى الإقليمية والدولية في سوريا، أو صراع بالوكالة على مدى أكثر من عام منذ ذلك التاريخ، إلا أن التدخل الخارجي بات سافرًا وتحول إلى صراع على سوريا، وبالحرب التي تخوضها روسيا الآن في سوريا ضد تنظيم “الدولة الإسلامية” (داعش) من ناحية ولدعم نظام بشار الأسد من ناحية أخرى، فإن هذا الصراع على سوريا تحول إلى مشهد حقيقي خصوصًا في ظل ردود فعل القوى الدولية والإقليمية الرافضة لهذه الحرب الروسية.
يتمنى البعض بأن تكون سوريا بمثابة أفغانستان جديدة لروسيا، ومن ثم تكون نهاية مبكرة لحلم العودة والإفاقة الروسية من الغيبوبة السوفيتية في أفغانستان
أولا- هل هو مستنقع أفغاني لموسكو؟
روسيا التي قررت أن تخوض الحرب رسميًا وبقرار من البرلمان الروسي وبإجماع الأعضاء تؤكد أنها تخوض حربًا ضد الإرهاب ومنظماته في سوريا، لكن السؤال الذي يشغل الكثيرين الآن يتعلق بالمصير الذي ينتظر الدور الروسي الجديد في سوريا، وهو الدور الذي سوف يتحدد عليه مستقبل النفوذ الروسي في الشرق الأوسط وربما في العالم كله. البعض يرى، بل ويتمنى أن تكون سوريا بمثابة أفغانستان جديدة لروسيا، ومن ثم تكون نهاية مبكرة لحلم العودة والإفاقة الروسية من الغيبوبة السوفيتية في أفغانستان، وهؤلاء ينطلقون من إدراك مفاده أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لم يذهب إلى سوريا ليحارب الإرهاب وخاصة تنظيم “داعش” على نحو ما يروج، كما أنه لن يكتفي بالعمل على تثبيت أو إعادة تثبيت حكم حليفه الرئيس بشار الأسد في سوريا، ولكنه يطمح من خلال بوابة أو مزاعم الحرب ضد الإرهاب إلى إعادة تمكين حكم الأسد لسوريا، ومن خلال ذلك يتم تحقيق الهدف الأهم الذي يريده ويطمح إليه وهو “إقامة منطقة نفوذ روسية محصنة عسكريًا على الساحل السوري” لتكون الثالثة لهم في العالم على نحو ما يتوقع الجنرال الأمريكي فيليب بريدلوف قائد قوات حلف الأطلسي في أوربا.
هذا الجنرال استدل على ما يقوله بالتساؤل مستنكرًا: “لماذا استقدم الروس إلى سوريا بعض قطع الدفاع الجوي المتطور جدًا، ولماذا استقدموا بعض الطائرات المقاتلة المتطورة جدًا”، ويضيف ساخرًا: “لم أر داعش يحلق بأي طائرات تتطلب وجود صواريخ سام 15 وسام 22، أو وجود قدرات جو- جو.. هذه القدرات المتطورة ليست من أجل داعش ولكن لأهداف أخرى”. ويفصل في إجابته “أنهم (الروس) يريدون الحفاظ على ميناء في المياه الدافئة، وعلى قاعدة جوية في شرق المتوسط”، وهم من أجل ذلك يريدون بقوة إبقاء وتثبيت حكم بشار الأسد “لأن ذلك بابهم الشرعي لموانئهم وقاعدتهم الجوية”.
واضح مدى التحفز الأمريكي ضد الدور الروسي الجديد في سوريا، فقد رفض الأمريكيون مبكرًا الدعوة الروسية لهم بالمشاركة بإنشاء مركز في بغداد لتبادل المعلومات بشأن تنظيم “داعش” من أجل التنسيق في القتال ضد هذا التنظيم الإرهابي، لم يكن الرفض الأمريكي لهذه الدعوة رفضًا عاديًا بل كان رفضًا حادًا على درجة استنكار الدعوة على نحو ما جاء على لسان المتحدث باسم قيادة المهمات المشتركة لعمليات ما يسمى بـ “العزيمة الصلبة” أي عمليات التحالف الذي تقوده واشنطن ضد الإرهاب في العراق وسوريا خلال مؤتمر صحفي بمقر وزارة الدفاع الأمريكية الذي شدد في إظهار أسباب هذا الرفض بقوله “أريد أن أذكركم أن الأسد مغتسل بالدماء.. يداه ملطختين بدماء المدنيين من شعبه”، مضيفًا “نحن قيادة المهام المشتركة لن نتصل بالحكومة السورية على الإطلاق، فليس لدينا أي شيء نقوله للحكومة السورية” ما يعني أن السبب المباشر للرفض هو أن سوريا طرف مشارك في غرفة معلومات بغداد الاستخباراتية مع روسيا وإيران والعراق، لكن الموقف الأمريكي لم يقتصر على هذا الرفض للمشاركة في تنسيق المعلومات مع الروس عبر “غرفة بغداد” ولكن امتد للتنديد بالضربات التي وجهتها الطائرات الروسية ضد مواقع معارضة موالية لواشنطن.
فقد وصف البيت الأبيض الغارات الجوية الروسية التي نفذتها فوق الأراضي السورية بـ “العمليات العسكرية العشوائية ضد المعارضة السورية” مشيرًا إلى أن “روسيا ستدفع ثمن هذه الضربات”. وأوضح جوش ارنست المتحدث باسم البيت الأبيض ما يعنيه بهذا القول بأن قيام روسيا باستهداف المعارضة سيؤدي إلى “إطالة الصراع الطائفي داخل سوريا ما لم يستمر إلى أجل غير مسمى، أو ستهدد بجر روسيا بشكل أعمق إلى داخل هذا الصراع” مؤكدًا أن “روسيا تتعمد توجيه ضربات إلى المعارضة السورية أكثر من استهدافها معاقل “داعش”.
هذا الاتهام تحول إلى تحذير مباشر وعلى لسان الرئيس الأمريكي باراك أوباما نفسه الذي حذر من أن العملية العسكرية الروسية في سوريا لدعم الرئيس بشار الأسد “تؤدي إلى كارثة مؤكدة” لكنه حرص على توضيح أن “واشنطن وموسكو لن تخوضا حربًا بالوكالة بسبب هذا الخلاف”. واتهم أوباما نظيره الروسي بأنه “لا يفرق بين عناصر تنظيم (داعش) والمعارضة السنية المعتدلة التي تريد رحيل الأسد” وأضاف أنه “من وجهة نظرهم (الروس) كل هؤلاء إرهابيون وهذا يؤدي إلى كارثة مؤكدة وستؤدي إلى سقوط الجميع في مستنقع”.
هذه المواقف الأمريكية لا تجد ما يدعمها أوروبيًا على الأقل، فالرأي الأوروبي الشائع أن قادة الدول الغربية اكتفوا بإلقاء الخطب عن رحيل الرئيس بشار الأسد واستبعاده من التسوية في الوقت الذي واصلت فيه روسيا وإيران استعداداتهما العسكرية في سوريا. فعلى مدى عام كامل لم يستطع التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة لا القضاء على “داعش” ولا إسقاط بشار الأسد ووجدت أوربا نفسها أمام مسئولية تحمل موجات المهاجرين السوريين. فضلًا عن ذلك فإن المواقف الأوربية شهدت انقسامًا حادًا حول الحرب التي تخوضها روسيا الآن في سوريا، ففي الوقت الذي أيدت فيه ألمانيا هذا الدور، بل أخذت المبادرة لدعوة روسيا للقيام بدور بارز في الحرب ضد داعش على نحو ما جاء على لسان المستشارة الألمانية، فإن فرنسا أخذت موقفًا معارضًا في حين ظل الموقف البريطاني مائعًا لكنه بات أميل إلى التدخل المباشر في الحرب ضد داعش اقتداءً بالدور الفرنسي الجديد. حيث حذر مالكون فالون وزير الدفاع البريطاني من أن ضربة جوية واحدة بين كل 20 ضربة روسية في سوريا تستهدف مواقع تنظيم “داعش” متهمًا الرئيس بوتين بقتل المدنيين السوريين، لكنه لم يكتف بذلك بل قال أن الحكومة البريطانية حققت تقدمًا في إقناع نواب من حزب العمال المعارض بدعم قرار يقضي بشن غارات جوية ضد مواقع الإرهابيين في سوريا، موضحًا أن “عدم شن ضربات سيكون أمرًا خاطئًا من الناحية الأخلاقية.. لا يمكننا أن ندفع للطائرات الفرنسية والأسترالية والأمريكية مهمة إبقاء شوارع بريطانيا آمنة”.
عادل الجبير: “لا يوجد في سوريا سوى خيارين: أما عملية سياسية وانتقال سلمي للسلطة دون الأسد، وألا فالخيار الآخر عسكري ينتهي بهزيمة الأسد
ثانيا- لموسكو رأي آخر
رؤى متباينة تعكس الإحباط الغربي وكذلك الانقسام الغربي حول الحرب التي تخوضها روسيا في سوريا التي تراها موسكو حربًا شرعية ترتكز على طلب رسمي من الحكومة الشرعية في دمشق، هدفها القضاء على الإرهاب في منابعه بدلًا من الانتظار لتلقي ضرباته داخل روسيا، وهدفها أيضًا وضع حد لتدفق نزوح السوريين وطلبهم للهجرة في الخارج الذي يرفضهم هربًا من مآسي الإرهاب الذي يتعرضون له. فالقضاء على الإرهاب في سوريا ودحر تنظيم “داعش”، من وجهة نظر روسيا، هو الوسيلة المثلى لمنع تدفق آلاف المهاجرين إلى خارج سوريا الأمر الذي يداعب مشاعر ملايين الأوربيين الرافضة لاستقبال مهاجرين سوريين، لكن يبقى السؤال: هل تستطيع روسيا أن تهزم داعش في سوريا، وأن تعدل موازين القوى لصالح النظام وأن تفرض المعادلة السياسية التي تريدها لحل الأزمة السورية؟
السؤال مهم لأن الإجابة لا تتوقف فقط لا على حسن النوايا الروسية، ولا على دقة الضربات العسكرية الروسية ضد مواقع الإرهاب، لكنها تتوقف بالأساس على مسألة أخرى أكثر أهمية هي: هل ستعطي موسكو هذه الفرصة؟ هل واشنطن والدول الحليفة على المستويين الدولي والإقليمي ستقبل بأن تفرض روسيا معادلة توازن إقليمي جديدة لا تخدم مصالحها بما في ذلك القضاء على تنظيم “داعش” الذي ظلت واشنطن تقاتله عامًا كاملًا من أجل عرقلته واحتوائه فقط دون إعلان صريح بأن ما تستهدفه هو القضاء نهائيًا على هذا التنظيم؟ وهل القضاء على “داعش” والقاعدة (النصرة) وحلفائها من التنظيمات السلفية الجهادية مصلحة أمريكية أو حتى مصلحة لأطراف إقليمية وعربية حليفة لواشنطن؟
أسئلة مهمة مفادها أن الظروف لن تكون مواتية أمام روسيا للنجاح فيما فشلت فيه واشنطن، خصوصًا في ظل التحالف الروسي مع نظام بشار الأسد وإيران، فواشنطن وحلفاؤها الإقليميين والعرب لن يسمحوا بأن تكون محصلة الحرب الروسية في سوريا لصالح نظام بشار الأسد وإيران، ولنا أن نتذكر قول وزير الخارجية السعودي عادل الجبير: “لا يوجد في سوريا سوى خيارين ممكنين لا ثالث لهما: أما عملية سياسية وانتقال سلمي للسلطة وصولًا إلى سوريا جديدة دون الأسد، وألا فالخيار الآخر عسكري ينتهي بهزيمة الأسد”.
هذا الخيار ترفضه روسيا وترفض معه الانتقادات التي توجه إليها من الدول الغربية ومن تركيا بالذات في ظل تطورين؛ أولهما، إصرار هذه الدول على أن 20% فقط من ضربات الطيران الروسي تركز على مقارات “داعش” في حين أن باقي الضربات يوجه إلى المعارضة المعتدلة أي المعارضة الموالية للتحالف الغربي – الإقليمي التي تقاتل لإسقاط نظام الأسد. وثانيهما، دخول طائرة روسية الأجواء التركية شمال سوريا بطريق الخطأ حيث نبه وزير الخارجية الأمريكي جون كيري (5/10/2015) من أن “توغل مقاتلة روسية في الأجواء الجوية التركية كاد يتسبب بتصعيد خطير”، مضيفًا أنه “لو ردت تركيا بموجب حقوقها لكان ذلك تسبب بإسقاط الطائرة”. وأضاف كيري “هذا بالضبط ما حذرنا منه” في إشارة إلى محاولات البنتاجون الاتفاق مع القادة الروس على وضع آلية “تفادي الصدام” في الأجواء، وقال “إن هذه المحادثات أصبحت أكثر أهمية الآن وسنعمل بسرعة كبيرة لتجنب أي صدام”.
تحذيرات كيري لم تكن كافية بالنسبة لحلف شمال الأطلسي الذي حرص على توجيه إدانة للتوغل الروسي في الأجواء التركية ووصفه بأنه “بالغ الخطورة” وطالب موسكو بالوقف الفوري لجميع “هجماتها ضد المعارضة المسلحة والمدنيين”، وقال الحلف عقب اجتماع طارئ، بشأن الأزمة السورية أن “الحلفاء يحتجون بقوة على هذه الانتهاكات للأجواء السيادية التركية ويدينون هذه التوغلات والانتهاكات لأجواء حلف شمال الأطسي”، في حين هددت تركيا على لسان رئيس حكومتها أحمد داوود أوغلو بأنها “ستفعل قواعد الاشتباك في حال انتهك مجالها الجوي من قبل أي جهة كانت”، كما وصف رئيس الجمهورية التركية رجب طيب إردوغان الخطوات التي تقوم بها روسيا وحملة القصف في سوريا بأنها “غير مقبولة بأي شكل من الأشكال” معتبرًا أن روسيا ترتكب خطًا جسيمًا.
روسيا رفضت تلك الاتهامات التي اعتبرتها “تربصًا متعمدًا” بالدور المشروع الذي تقوم به في سوريا، وأكد المسؤول في رئاسة الأركان الروسية الجنرال اندريه كارتابولوف (3/10/2015) أن روسيا “لا تستهدف الإرهابيين في سوريا” وقال أن “سلاح الطيران الروسي نفذ أكثر من ستين ضربة في سوريا مستهدفًا أكثر من خمسين موقعًا لبنى تحتية لتنظيم الدولة الإسلامية الإرهابي، بينها مخازن ذخيرة ومتفجرات ومعسكرات تدريب” وتابع “لن نواصل الضربات فحسب، ولكننا سنزيد من كثافتها” موضحًا أن روسيا حذرت الولايات المتحدة قبل شن غاراتها، ونصحت الأمريكيين بوقف طلعاتهم الجوية في المناطق التي يعمل فيها سلاح الجو الروسي” وقال هذا المسؤول “قال لنا الأمريكيون خلال المناقشات إنه لا يوجد أحد في تلك المنطقة باستثناء الإرهابيين”. ولعل هذا ما دفع المتحدث باسم الكرملين ديمتري بيسكوف لإبداء الأسف لعدم تمكن الدول الغربية (حتى الآن) من أن تشرح لموسكو من هم المعنيون بـ “المعارضة المعتدلة” وقال للتليفزيون الروسي أن الرئيس فلاديمير بوتين، خلال لقائه الرئيسين الفرنسي والألماني في باريس “أعرب عن اهتمامه الكبير بهذه المسألة، وسأل عن الفرق بين المعارضة المعتدلة وغير المعتدلة، وحتى الآن، لم ينجح أحد في تفسير ما هي المعارضة المعتدلة”.
إسرائيل عادت لتواجه الإجابة الصعبة لسؤال: أيهما أفضل لإسرائيل نظام بشار الأسد أم “داعش” والمنظمات الإرهابية
ثالثا- إسرائيل في المأزق
من بين كل القوى الإقليمية يمكن القول أن إسرائيل هي الطرف المعرَّض لأن يخسر أكثر رهاناته من الحرب الدائرة على سوريا. فالدعم الإسرائيلي للمنظمات الإرهابية خاصة تلك المنظمات التي نجحت أن تؤسس لها قواعد قوية في ريفي درعا والقنيطرة بالقرب من الحدود الإسرائيلية مع جبهة الجولان خاصة جبهة النصرة يدخل في متاهة ما بعد الانغماس الروسي غير المسبوق في الأزمة السورية، فإسرائيل عادت لتواجه الإجابة الصعبة لسؤال: أيهما أفضل لإسرائيل نظام بشار الأسد أم “داعش” والمنظمات الإرهابية. فرهان السقوط الكامل لسوريا وجيشها يتراجع الآن، ليس هذا فقط بل أن رهان إبعاد الخطر الإيراني عن الجوار الجغرافي المباشر لإسرائيل يتراجع هو الآخر في ظل التحالف الجديد الذي يجمع بين روسيا وإيران والعراق مع حزب اللـه في سوريا (تحالف 4+1). فقرار التدخل الروسي القوي في سوريا اتخذ بالتنسيق مع إيران والحديث عن دخول قوات برية إيرانية في سوريا بالتزامن مع الضربات الجوية الروسية لقواعد الإرهاب ستفرض حتمًا معادلات جديدة لتوازن القوى وهذا بالتحديد ما حرص بنيامين نتنياهو على أن يتجنبه عندما عجل بالسفر إلى موسكو للقاء الرئيس فلاديمير بوتين ليحقق هدفين؛ أولهما، أن يفرض إسرائيل طرفًا أساسيًا في المعادلة السياسية الجديدة في سوريا ويؤمن مصالح إسرائيل في سوريا من ناحية، وأن يحد من الخطر الإيراني في سوريا على هذه المصالح. فقد كان هاجس نتنياهو عند توجهه إلى موسكو (21/3/2015) هو كيف ستؤثر هذه التطورات على مصالح “إسرائيل” في سوريا، وكيف يمكن لـ “إسرائيل” أن تفرض نفسها لاعبًا معترفًا به في الحلول المطروحة للأزمة السورية بحيث تؤمن مصالحها في هذه الحلول.
فحسب تصورات مصادر “إسرائيلية” عديدة فقد أثارت الخطوات العسكرية الروسية قلقًا في تل أبيب من منظور أنها تنسجم مع الأهداف الإيرانية بالهيمنة على المنطقة وتقوية حزب الله وتشجيعه على تحويل هضبة الجولان إلى قاعدة لإطلاق الصواريخ على “إسرائيل”. ونقل على لسان العميد إيلي بن مئير مدير قسم البحوث في شعبة الاستخبارات العسكرية أن “زيادة الوجود الروسي في سوريا جاءت بدعوة من إيران، وهدفه ليس الحفاظ على نظام بشار الأسد فقط بل إعطاء شرعية للوجود الإيراني بهدف تحويل سوريا إلى نقطة انطلاق للتنظيمات المسلحة والإرهابية”. كما أوصى معهد الأمن القومي في تل أبيب رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو بسرعة التوجه إلى موسكو للتعرف على حقيقة النوايا الروسية من متطلبات الأمن “الإسرائيلي” وبالذات احتمالات منع “إسرائيل” من حرية العمل في سوريا.
هذه المخاوف لم تأت من فراغ، ولكنها جاءت نتيجة تراكم معلومات وتحركات بين روسيا وأطراف إقليمية على رأسها إيران، وبالذات على ضوء الزيارة المفاجئة للجنرال قاسم سليماني قائد فيلق القدس بالحرس الثوري الإيراني لموسكو باعتباره المبعوث العسكري الخاص للمرشد الأعلى الإيراني علي خامنئي، وما أعقب هذه الزيارة السرية من مشاورات واجتماعات سرية أخرى شاركت فيها وفود من الأطقم العسكرية الإستراتيجية في روسيا وإيران وسوريا والعراق قبل أن تتطور إلى ما يمكن اعتباره صيغة لـ “تحالف جديد” لمواجهة الإرهاب في الشرق الأوسط، وهو التحالف الذي أعلنت عنه روسيا فيما بعد وعلى لسان المتحدث باسم الكرملين ديمتري بيسكوف تحت اسم “مركز بغداد” لتبادل المعلومات الاستخباراتية بين الدول الأربع، “والذي يمكن أن يكون الأساس لتحالف دولي واسع لمكافحة تنظيم (داعش)”.
كانت هذه هي حسابات نتنياهو وتخوفاته التي دفعته للتعجيل بالسفر إلى موسكو ولقاء الرئيس بوتين في محاولة لتأمين المصالح “الإسرائيلية” ومنع أي تداعيات سلبية على هذه المصالح من جراء التحركات العسكرية والمبادرات السياسية الروسية الجديدة بخصوص الأزمة السورية، وعاد وهو مطمئن بأن “البلدين سينسقان أعمالهما العسكرية في سوريا لتجنب تبادل إطلاق النار بشكل غير مقصود”.
فقد صرح نتنياهو للصحافيين عقب انتهاء لقائه مع بوتين “هدفي كان منع أي سوء فهم بين وحدات الجيش “الإسرائيلي” والقوات الروسية”. مضيفًا أنه “اتفق مع بوتين على آلية لمنع حدوث سوء تفاهم”. ونشر مكتبه بيانًا جاء فيه على لسان نتنياهو: “كان مهمًا جدًا أن آتي إلى هنا لإيضاح سياستنا والحرص على ألا يحصل سوء تفاهم بين قواتنا”. وشدد على أهمية توقف سوريا وإيران تسليم الأسلحة لحزب اللـه متهمًا هذين البلدين بأنهما “يريدان فتح جبهة ثانية ضد “إسرائيل” من الجولان”.
ما قاله نتنياهو ليس كل ما أراده أو كل ما كان يخطط له وبالذات أن يفرض مبكرًا مكانًا لدور “إسرائيلي” في تخطيط مستقبل سوريا، ومنع أي تحالف روسي مع سوريا يعيد تمكين عودتها كمصدر للتهديد بالنسبة لـ “إسرائيل”، ولعل هذا ما يمكن فهمه من التصريحات التي أدلى بها الرئيس بوتين والتي كشف فيها، وإن كان بشكل غير مباشر، النوايا الحقيقية التي تصارح بها نتنياهو معه، فقد أكد بوتين “استحالة أن تقوم سوريا بمهاجمة إسرائيل”، وأوضح أن سوريا “ليست في حاجة إلى مواجهة وفتح جبهة ثانية مع “إسرائيل.. إنها مشغولة أكثر بتأمين وجودها كدولة”.
الطمأنة التي عاد بها نتنياهو من موسكو تبددت على ضوء العديد من التطورات المهمة أبرزها تلك المكاشفة الروسية – الأمريكية حول جدية الدور الروسي في سوريا، والإقرار الأمريكي بأن “التعزيزات العسكرية الروسية في سوريا غير سلبية، وبعد تأكيد روسيا جدية التنسيق مع إيران بخصوص حل الأزمة السورية والحرب على “داعش”، إضافة إلى الإصرار الروسي، وعلى لسان الرئيس بوتين في لقائه مع الرئيس الأمريكي باراك أوباما على أن الحرب على “داعش” تستلزم التعاون مع الرئيس السوري بشار الأسد واعتباره أن عدم التعاون مع الرئيس السوري “خطأ جسيم”.
ففي أعقاب انتهاء قمة بوتين – أوباما في نيويورك يوم 28 سبتمبر/ أيلول الفائت قدم سيرجي لافروف وزير الخارجية الروسي مكاشفة شديدة الوضوح في حديث مع قناة “روسيا اليوم” أكد فيها أن “موسكو لن تسمح بتفكك سوريا”، وأن موسكو وواشنطن اتفقتا على أن “هدفنا هو الانتصار على (داعش) ومنعه من إنشاء الدولة التي يخطط لإقامتها على مساحة شاسعة”، وأن الرئيس بوتين أوضح لنظيره الأمريكي أن “تشكيل قيادة موحدة للقوات المناهضة لتنظيم (داعش) أمر غير واقعي” ما يعني أن روسيا تفضل العمل بشكل مستقل عن التحالف الذي تقوده واشنطن، ولكن ضمن تحالف ما يسمى الآن بـ “4+1” أي روسيا وإيران وسوريا والعراق مع حزب الله، مع أهمية مبدأ “التنسيق المشترك” مع التحالف الأمريكي ومع كل من يقرر محاربة “داعش” على أن يكون “مركز بغداد المعلوماتي” هو مركز هذا التنسيق. لكن الأهم هو الموقف الروسي الخاص بمستقبل الرئيس بشار الأسد ومستقبل الإصلاح السياسي في سوريا، فقد أكد لافروف أهمية التزامن بين الحرب على “داعش” وإجراء الإصلاح السياسي في سوريا “شرط ألا يفرض من الخارج، بل يجب أن يخرج من الداخل.. من الحكومة والمعارضة”، وهو هنا يكرر ما قاله الرئيس بوتين عقب انتهاء لقائه مع أوباما حيث لم يتردد بوتين في انتقاد كل من الرئيس الأمريكي باراك أوباما والرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند اللذين يدعوان باستمرار إلى رحيل الرئيس السوري وقال للصحفيين بعد اللقاء “أكن احترامًا كبيرًا لنظيري الأمريكي والفرنسي، لكنهما ليسا مواطنين سوريين، وعليهما ألا يشاركا في اختيار قادة دولة أخرى”، مشيرًا إلى أن “الشعب السوري هو من يقرر مصير الرئيس بشار الأسد وليس هولاند أو أوباما”.
موقف لا يقلق إسرائيل وحدها بل يقلق واشنطن وكل حلفاءها، ولعل هذا ما يفسر ما تتعرض له روسيا ودورها الجديد في سوريا من انتقادات بل وهجوم سياسي وإعلامي مكثف وصل إلى درجة إعلان جماعة الإخوان المسلمين السورية “الجهاد ضد الاحتلال الروسي- الإيراني” لسوريا ودعوة جماعات معارضة من بينها تنظيم “أحرار الشام” في بيان دول المنطقة إلى “تشكيل تحالف ضد روسيا وإيران في سوريا”، وهو البيان الذي وقعته 41 جماعة ليس من بينها جبهة “النصرة” جناح تنظيم |”القاعدة” في سوريا، دون أن يحدد هذا البيان ما هي بالضبط الدول التي يجب أن تشارك في هذا التحالف في ظل انخراط معظم الدول الحليفة لواشنطن في تحالف تقوده الولايات المتحدة كان آخرها تونس.
د. محمد السعيد إدريس
المركز العربي للبحوث والدراسات