بعد مطاردة استمرت ستة أيام، قبض الجيش الصهيوني على الفهد الأسود، زكريا الزبيدي، أحد الأسرى الأبطال الستة الذين حفروا من تحت المعتقل الأمني نفقا للحرية. قد لا يكون زكريا الزبيدي أكثر شجاعة أو ذكاء من رفاقه الخمسة، وقد لا يكون قائد العملية، لكن قصة الزبيدي بتفاصيلها وتعقيداتها، تجعله أسطورة ليس لبطولته، بل لمراحل حياته التي تختزل، بكثافتها وتنوعها، تجربته الفلسطينية/ الإسرائيلية، وتعبّر عن جوهر الفلسطيني تحت الاحتلال وواقعه وخياراته.
بدأ حياته طفلا مقاوما واعتقل في الخامسة عشرة من عمره، كان طفلا متمرّدا وبقي كذلك لا يستكين، لم يستطع الخضوع لأي سلطة فترة طويلة. لم يصمد في الأمن الوقائي الفلسطيني، بعد أن شاهد عن كثب غياب العدالة في التعيينات والترفيعات. اتجه فترة إلى سرقة السيارات الإسرائيلية وبيعها في الأراضي المحتلة. عمل مقاولا فترة قصيرة رفضا للفقر وسيطرة أي ظرف مفروض عليه. اختار الدراسة في جامعة بيرزيت في لحظة اتزان تفكير وأمل، وانخرط في كتائب شهداء الأقصى، القوة العسكرية لحركة فتح التي دافعت ببسالة عن جنين، في أوج الانتفاضة في عام 2002.
قصة أرنا اليهودية وأولادها ضرورية لفهم تجربة زكريا المعقدة
انضم منذ طفولته إلى مسرح الحرية الذي أسسته الناشطة اليهودية، أرنا مير خميس، أواخر الثمانينيات، والتي نذرت ما تبقى من حياتها، وهي مصابة بالسرطان، للنضال ضد الصهيونية، من خلال تعليم الفن والتمثيل لأطفال مخيم جنين. انجذب زكريا وأطفال مثله، بدعم من والدته سميرة، إلى عالم المسرح وما يوفره من متعة وخيال وعلم، إلى أن اقتحم الجيش الصهيوني المخيم وهدَم مسرح الحرية، ملجأ الأطفال ومتعتهم، فهبّ “أولاد أرنا”، كما أطلق على مجموعة الأطفال الذين التزموا بالمسرح، للدفاع عن المخيم في ملحمة بطولية استثنائية.
شكلت تجربة أولاد أرنا، مثالا فريدا، فعلى الرغم من بعض اتهامات للمسرح بزرع فكرة التطبيع، كانت أرنا تركز على ضرورة تعبير الأطفال عن غضبهم ورفضهم الاحتلال، فالسيدة أرنا لم تكن تعلّمهم، بل تؤكد أحقية غضبهم. حين بدأت الانتفاضة الأولى صرّحت إرنا إن “الانتفاضة علم وحرية”، وهي اليهودية والمتزوجة من المناضل الفلسطيني خميس صليبا الذي ناضل من أجل حق بقائه في فلسطين. وقصة أرنا وأولادها ضرورية لفهم تجربة زكريا المعقدة، إذ تعامل مع جندي مدجّج بالسلاح وعرف يهودية تمثل النقيض ما، تصدّى بالسلاح، هو وأولاد أرنا، لجيش الاحتلال، وسقط خمسة من رفاقه، منهم القائد الأبرز في كتائب شهداء الأقصى، علاء الصباغ، واستشهد أخ له، وقتل قناصٌ أمه، وهي على شرفة بيتها. وقد أمضى زكريا أغلب سنواته مطاردا، رفضت إسرائيل العفو عنه مثلما فعلت مع مطاردين آخرين، وقضى فترة موقوفا في مكتب الأمن الوقائي الفلسطيني، بدعوى الحفاظ على حياته من الجيش الإسرائيلي، فيما ذاعت ادّعاءات إن احتجازه كان عقابا له على تمرّده الدائم.
وإذا كنتُ أسرد جزءا من سيرة زكريا، فليس هذا هو الهدف. مواقفه المتناقضة تجسّد المشاعر التي يمرّ بها فلسطينيون كثيرون تحت الاحتلال. كان، أحيانا يعلن رفضه عملية السلام، ويدعو إلى التمسّك باستمرار الانتفاضة والمقاومة، ويتحدّى الاحتلال، بل يستمتع بفشل الجيش في القبض عليه، إذ نراه في فيديوهات مسرّبة يتجوّل ضاحكا ومسلحا في الشوارع. وثمة قصّة السيدة الإسرائيلية التي أرادت التعرّف عليه، وسُمح لها بالوصول إليه وهو مطارد، وانتهت إلى أن يتم سجنها فترة لأنها لم تدلّ الجيش على مكانه، وسط إشاعاتٍ عن حبٍّ بينهما لم يتأكد. وأطلق تصريحاتٍ إن الفن هو وسيلة المقاومة التي يؤمن بها. ومهما كانت آراء كثيرين بتناقضاته، لم يخضع زكريا، فبعد أن “عفا الجيش الإسرائيلي عنه” بدأ إعداد رسالة الماجستير في جامعة بيرزيت، ثم أُسِر ثانية في 1999، بتهم لم تثبت عليه، من تخطيط عمليات، واحتُجز من دون تقديمه إلى محاكمة.
لا يختلف عن أي فلسطيني تحت الاحتلال، تنتابه حالات حزن تقترب من الإحباط ثم يعود متمردا ثائرا فدائيا يضع قلبه على كفه ويمشي
ما هو سرّ زكريا الزبيدي؟ هل هناك سرّ لهذه الشخصية المغامرة التي تسخر من الاحتلال، ولا تتردد بإطلاق تصريحات جريئة عن هذا الاحتلال، تجعله عرضةً للمطاردة تارة والاتهام بالتطبيع تارة أخرى. لا أعرف إذا كان هناك سرّ، لكنه لغز لمن لم يعش تجربته. لا يختلف زكريا عن أي فلسطيني تحت الاحتلال، تنتابه حالات حزن تقترب من الإحباط، ثم يعود متمرّدا ثائرا فدائيا يضع قلبه على كفه ويمشي، ثم يحدوه الأمل بتحقيق طموح شخصي مرتبط بنضاله من أجل الحرية، ومن خلال إصراره على كتابة بحث رسالة ماجستير يؤرّخ عمليات المطارة وقصص المطاردين ويحللها.
قال لي صديق عرفه إن زكريا الزبيدي إنسان بسيط، وهذه أهم سماته، أي يقول ويفعل ما يشعر به أحيانا من دون تفكير وتروّ. واختياره رسالة الماجستير التي بدأها قبل أسره، وعنوانها “الصياد والتنين”، يعكس فهماً مميزا لأهمية توثيق تجارب المطاردين والفارّين من السجون الإسرائيلية، وهو توثيق للتحدّي الدائم لسطوة الجيش الصهيوني، ولحدود ترسانتها المسلحة بكسر تطويع إرادة الفلسطيني ووحه. ويؤشّر تاريخ زكريا إلى اعتزازه بلعبة المطاردة، لأنها أقرب شيء إلى كسر السجان، ليس في السجن الإسمنتي فحسب، بل في السجن الكبير أيضا، فقد تستطيع إسرائيل، بجبروتها، التحكّم بالأرض والسماء وحركة الفلسطينيين من قادتهم إلى أصغرهم، ولكن ما يقوله زكريا للسلطة والاحتلال إن لا أحد يستطيع التحكّم بروحه، فالمطاردة تجعله حرّا، بل وندّا لجيشٍ ودولة، وهو بذلك يعبّر عن شعور المطاردين، حاضرا وماضيا ومستقبلا.
يقول ويفعل ما يشعر به، أحياناً، من دون تفكير وتريث، بل صدوراً عن غضب أو حزن أو فرح
ربما فوجئ بعض القراء بما ورد عن سرقة “الفهد الأسود” السيارات الإسرائيلية فترة. أرجوكم دعوكم من الأحكام المتعالية. أي شخصٍ احتكّ بشباب الانتفاضتين، الأولى والثانية، يعرف أن تلك الظاهرة كانت موجودة. وترفض الكاتبة هنا أن تؤثر على تقييم زكريا، فنحن نكتب، في صومعتنا ونُنَظر ونزاود، لكن ما يحدث من اختلاجات لدى من نشيد بهم أبطالا وننعاهم شهداء، هو جزء من غرابة المشهد وقسوته، مشهد احتلال، مشهد سلطة بلا سلطة، مشهد أحلام ضائعة. لقد صُدمت حين شهدت ذلك في أوائل التسعينات، لكني ما لبثت أن استنتجتُ أن أغلب من يؤيدون الثورات وحركات التحرّر لا يعرفون شيئا عنها، إذ نحن لا ننقذ هؤلاء الشباب من غياب الأمل ببناء مستقبل لهم، وكأن لا حلم أو طموحا شخصيا لهم. نعتبرهم أبطالا نتغنّى بهم، ونتركهم وحدهم.
قد لا يكون زكريا الزبيدي في ثقافة الشهيد باسل الأعرج ووعيه، لكنه، مثل رفاقه الخمسة، بطل حقيقي، فاقتحامهم جدار السجن حرّرنا وأعطانا اجنحة. ولا يغير ذلك نجاح الجيش الإسرائيلي في أسرهم ثانية، فهم انتصروا، بل وأعطونا أجنحة قوية، ومسؤوليتنا تعلم الطيران بها، والتحرّر من سجن إحباطنا وخنوعنا.
العربي الجديد