مع وصول الرئيس الجديد إبراهيم رئيسي إلى الحكم، تقوم إيران بمراجعة التوجهات الجديدة لسياستها الخارجية، لا سيما بشأن علاقاتها مع جيرانها العرب. وهي سياسة ستتراوح بين الدفاع عن المصالح الوطنية والتطرف الإيديولوجي.
* *
شكّل الاتفاق النووي منذ إبرامه في 14 تموز (يوليو) 2015 شرطا ضروريا، وإنما غير كاف، للتهدئة العسكرية في الشرق الأوسط. وقد لعب انسحاب الولايات المتحدة الأميركية من هذا الاتفاق في أيار (مايو) 2018 دورا مهما في إفشال تطبيع الجمهورية الإسلامية لعلاقاتها الدولية. ولكن، تجدر الإشارة أيضا إلى أن صعود الجهاز الأمني في إيران منذ العام 2009 وأزمة الشرعية التي يعيشها النظام هناك تحولان دون تحسن العلاقات بين إيران وجيرانها العرب في منطقة الخليج.
هناك مسبقاً توتر قائم بين الدفاع عن المصالح الوطنية الإيرانية (أي الاستقرار الحدودي والدفاع عن الأقليات الشيعية)، ومصالح الجهاز الأمني الذي ينادي بالعداء للولايات المتحدة الأميركية. وعلى سبل المثال، يصعب على طهران اليوم إرساء سياسة متناغمة تجاه أفغانستان من دون معارضة الاختيارات الإيديولوجية التي تبناها النظام. وبعبارات أخرى، فإن التحالف مع طائفة الهزارة التي استفادت من التدخل الأميركي في العام 2001 يتعارض مع سياسة التقرب من طالبان التي انتهجها النظام في الأشهر الأخيرة، والتي تعود في الوقت نفسه إلى سياسة طهران الواقعية والبعد الإيديولوجي للجمهورية الإسلامية المعادي للولايات المتحدة.
صوت واحد في طهران
قد يفتح وصول إبراهيم رئيسي إلى الرئاسة في الخامس من آب (أغسطس) 2021 فصلا جديدا في العلاقات بين إيران وجيرانها. فالدولة الموازية التي عادة ما يسميها الإعلام الغربي “المحافظون” أصبحت هي الدولة الرسمية، والمؤسسات المنتخبة صارت تعمل لصالح جهاز الأمن. وقد يمكّن ذلك جيران إيران من التواصل مع شريك دبلوماسي وحيد عوض الدبلوماسية متعددة الأصوات التي واجهوها حتى الآن.
من جهة أخرى، قد تساهم المشاركة المباشرة للفاعلين الأمنيين في إدارة البلاد في تعزيز توجّس الجمهورية الإسلامية مما تعتبره النظام الأميركي المهيمن على الشرق الأوسط. ويعتزم الرئيس الجديد إعطاء الأولوية لتحسين العلاقات مع البلدان المجاورة، بالتوازي مع تعزيز قدرة الردع الإيرانية في الخليج، ما من شأنه أن يضع الرياض وأبو ظبي أمام خيار صعب: إما تطبيع العلاقات مع طهران أو مواصلة التحالف مع واشنطن. ويشكل هذا المأزق الأمني الذي تجد فيه البلدان العربية الخليجية نفسها أحد الأسباب الرئيسية التي تفسر فشل المحاولات الدبلوماسية الساعية لإرساء مشروع أمني إقليمي.
وتواجه فكرة إدماج المسائل الإقليمية والصواريخ البالستية ضمن المفاوضات حول الاتفاق النووي عقبات عدة، أولاها رفض طهران التفاوض مع القوى الكبرى حول علاقتها ببلدان الجوار. ويمكن إيجاد حل في إطار تفاوض بين القوى الإقليمية حصرا، لكن ذلك يفترض أن تقبل الرياض -وعلى مستوى أقل أبو ظبي- بأن تستعمل طهران نفوذها الإقليمي لا كقوة ردع، وإنما كقوة بناءة. وعلاوة على ذلك، فإن اختيار طهران تأسيس عقيدتها العسكرية على استخدام الصواريخ البالستية لتعويض ضعفها في مجال الطيران العسكري العصري يحول دون التوصل إلى أي اتفاق موسّع حول هذه المسائل، والذي قد يتجاوز النقاش غير الرسمي حول عدم تجاوز الصواريخ الإيرانية مدى ألفي كيلومتر.
أخيرا، ترفض طهران انضمام الدول العربية المجاورة إلى المفاوضات حول الاتفاق النووي، وكانت إدارة بايدن قد التزمت بالتشاور مع حلفاء واشنطن حول هذا الموضوع للوصول إلى “اتفاق موسع” أكثر نجاعة من ذلك الذي وصلت إليه إدارة أوباما في 2015.
أربعة عشر تفجيراً غامضاً
من وجهة النظر الإسرائيلية، تبقى الأولوية منع إيران من أن تصبح دولة على العتبة النووية، أي أن تمتلك التكنولوجيا اللازمة لصنع أسلحة نووية بمجرد أن تتخذ قرارا سياسيا. وهو ما يفسر تعدد العمليات السرية ورغبة “الصقور” الإسرائيليون في إعادة وضع الخيار العسكري على الطاولة. فخلال العام 2020 وحده، تعرضت إيران لما لا يقل عن 14 تفجيرا غامضا وحريقا مجهول السبب في مواقعها النووية وقواعدها العسكرية وقدراتها الصناعية وأنابيبها النفطية ومحطاتها لتوليد الطاقة وغيرها من المنشآت الاستراتيجية. كذلك، ووفق مصادر إيرانية، تعرضت 11 سفينة تجارية إيرانية لهجمات إسرائيلية خلال العام المنصرم.
من وجهة نظر الرياض وأبو ظبي، تذهب الأولوية للمسائل الإقليمية والصواريخ البالستية، وكذلك برنامج الطائرات من دون طيار التي تهدد مباشرة أمنها القومي. وعلى الرغم من الاختلافات التكتيكية، نلاحظ تقاربا بين هذه الدول الثلاث حول ضرورة مواجهة “الخطر الإيراني”متعدد الأبعاد. وبطريقة ما، يمثل صعود الجهاز الأمني والترويج للمحافظين المتشددين نوعا من التوضيح حول طبيعة نظام الجمهورية الإسلامية وحول الإيديولوجيا العابرة للدول التي يحملها. وهي توجهات لطالما سيطرت على النظام المؤسسي وفق المنافسين الإقليميين لإيران. وقد جعلت نهاية الحكومة “المعتدلة” مواقف مساندي التفاوض مع الغرب ودول الجوار أكثر هشاشة، كما رفعت الستار عن الطموحات الإيديولوجية الإقليمية لطهران. وهذا صحيح بشكل خاص إذا نظرنا إلى العراق، حيث تتواصل المواجهة العسكرية بين طهران وواشنطن. ويقع هذا الملف تحت رقابة الحرس الثوري والمشاركة المتزايدة لحسين طائب، رئيس جهاز استخبارات الحرس الثوري، ما يشير إلى أهمية هذا الملف بالنسبة لطهران. كما يظهر ذلك أن الانقسام المؤسساتي الذي كان يتوخاه الصقور الأميركيون بعد اغتيال قاسم سليماني لم يحدث، وأن استمرارية المؤسسات انتصرت بالنسبة لإدارة النفوذ الإيراني في العراق.
إلى جانب ذلك، ومع عودة المحافظين إلى الرئاسة، انتهى مشروع “المعتدلين” بفتح مفاوضات طويلة حول المسائل الإقليمية، وهو ما كان يتمناه في 2015 الرئيس حسن روحاني. لكن على الرئيس الجديد الذي خاض الحملة الانتخابية تحت شعار “إيران قوية” أن يواجه تناقضات صعبة. فمن جهة، نلاحظ نفوذا إقليميا قويا يعتمد على شبكة نفوذ أمنية وإيديولوجية واقتصادية. ومن جهة أخرى، تواجه إيران أزمة اقتصادية حادة بعد عقد بلا نمو اقتصادي (2010-2020).
في هذا السياق المتوتر، سيكون الهدف الأول لإبراهيم رئيسي هو تحسين الوضع الاقتصادي من خلال تعزيز العلاقات الاقتصادية بين إيران ودول الجوار، من أجل التأسيس لنموذج يحمي الاقتصاد الإيراني من تداعيات الخيارات السياسية الأميركية. وبمعنى آخر، يبقى رفع العقوبات هو الأولوية، لا سيما من أجل استعادة حصص سوق النفط التي فقدتها إيران بسبب “الضغط الأقضى” لإدارة ترامب. لكن الهدف من ذلك هو تحسين جودة الاقتصاد وتنمية حجم المبادلات التجارية بين إيران وجيرانها ودول مثل الصين أو روسيا.
انفتاح على الرياض
يمكن تفسير تأجيل المفاوضات حول الاتفاق النووي إلى أيلول (سبتمبر) 2021 بضرورة تشكيل فريق جديد من المفاوضين الإيرانيين من قبل الحكومة الجديدة. أما السبب الآخر، فهو إظهار إيران عدم استعجالها. فبتمديد عملية التفاوض، يمكن للمسؤولين الإيرانيين أن يجعلوا من الملف النووي أمرا مستعجلا بالنسبة للعالم الغربي، وبذلك تفادي التفاوض على اتفاق أوسع قد يشمل ملف الصواريخ البالستية أو الملف الإقليمي. وأخيرا، تختلف المناهج المعتمدة بين الحكومة الحالية والسابقة، لا سيما حول موضوع رفع العقوبات. فبالنسبة لإبراهيم رئيسي والمرشد الأعلى، تستوجب العودة إلى الاتفاق “التثبت” من رفع العقوبات، وقد تدوم هذه العملية عدة أسابيع، أو حتى أشهر عدة، بينما كانت حكومة روحاني قد وافقت على مهلة لا تتعدى بضعة أيام. وستسهم هذه المهلة المطوّلة في تأخير امتثال البرنامج النووي الإيراني لالتزامات 2015.
لا ننسى كذلك الرهانات السياسية الداخلية ورغبة الحكومة المحافظة الجديدة في إظهار قدرتها على الحصول على اتفاق أفضل من ذلك الذي توصلت إليه الحكومة السابقة. ويشكل هذا البعد عائقا إضافيا أمام البحث والتوصل إلى حل توافقي على المدى القصير. يرافق هذه الرغبة في التفاوض حصريا على الملف النووي مع القوى العظمى خطاب دبلوماسي جديد في طهران، مفاده استعدادها لتطبيع العلاقات الدبلوماسية مع الرياض. وسيُعد هكذا اتفاق -إن حصل- نجاحا دبلوماسيا بارزا، كما سيمكّن إيران من التقارب مع جميع دول مجلس التعاون الخليجي. والرهان هنا هو الاعتراف بالدور الإقليمي لإيران كفاعل لا يمكن الاستغناء عنه في المنطقة.
كما تهدف هذه الاستراتيجية إلى تعزيز الشبكات الاقتصادية الإيرانية للحد من التداعيات السلبية للعقوبات الأميركية. ولكن، على الصعيد النفطي، يجب الإشارة إلى أن العلاقات الإيرانية السعودية إيجابية ولم تتأثر بالمشاكل الجيوسياسية. والفرق هنا مع الحكومة السابقة هو أن روحاني كان يرغب في استعمال الاتفاق النووي كمرحلة أولى نحو التصالح مع المملكة. أما مع الحكومة الحالية، فقد باتت السياسة الإقليمية مستقلة عن المفاوضات. صحيح أن الاتفاق النووي شرط ضروري للتخفيف من التوترات العسكرية في منطقة الخليج -بما أنه يخفّف من التوتر العسكري مع واشنطن- لكنه ليس شرطا كافيا.
الغد