تفاقمت أزمة غلاء المنتجات الغذائية المحلية في العراق بشكل حاد في الآونة الأخيرة، فما بين الأزمة الاقتصادية الخانقة وجشع التجار تصاعدت هموم المواطن العراقي.
وسجل السوق المحلي ارتفاعا غير مسبوق في أسعار السلع الغذائية المنتجة محليا كمحاصيل الطماطم والخضروات الرئيسية ومنتجات الدواجن كالبيض واللحوم، مما أجبر المواطنين على الانتفاض ضد حملة دعم المنتج الوطني.
وكانت حملة دعم المنتج الوطني قد لاقت صدى واسعا بين مختلف فئات الشعب إبان الاحتجاجات الشعبية التي اجتاحت العديد من المحافظات العراقية منذ أكتوبر/تشرين الأول 2019 لتحفيز الصناعات المحلية والحد من استيراد السلع الأجنبية المنافسة.
وعلى مدى السنتين الماضيتين ساهم الكثير من الناشطين والمنظمات المدنية في حملة “صنع في العراق” حتى تحوّل هذا الدعم إلى انتقاد واسع بسبب الغلاء غير المبرر، حسب تصريح الناشط المدني أحمد العمري.
أسباب غلاء المنتجات الوطنية
يعتقد الأستاذ في جامعة بغداد الدكتور محمد صالح أن هناك خللا في السياسة التجارية في البلاد، إذ يتم استيراد كميات كبيرة من المواد الأولية المستخدمة في الصناعة المحلية بأكثر من قدرتها الإنتاجية.
ويوضح أنه كلما ارتفعت كمية المواد الأولية المشتراة، انخفض سعرها، وهو ما لا تستطيع المصانع العراقية القيام به لضعف قدرتها الاستيعابية، وبالتالي إدخالها في الصناعة، ومن ثم استحالة تخفيض سعر المنتج اعتمادا على “كلما زاد الإنتاج قل السعر”.
وأضاف محمد صالح: لذلك تضطر معظم المصانع لزيادة الأسعار في سبيل استعادة أموالها أو إغلاق أبوابها جراء صعوبة منافسة المنتجات المستوردة الرخيصة.
ويشير إلى أن هناك عدة عوامل تسهم في زيادة الأسعار، من أبرزها البيع غير المباشر من المنتج إلى المستهلك، حيث يتم تداول البضائع بين العديد من التجار قبيل طرحها في الأسواق، إضافة إلى ارتفاع تكاليف النقل وغلاء اليد العاملة وإيجار العقارات.
تأثير المنافسة
اعتبر المختص بالاقتصاد الزراعي الدكتور صباح السعدون أن انعدام المنافسة في سوق المنتجات الزراعية ساهم في رفع سعر المنتج المحلي.
وأوضح أن الإيقاف المفاجئ للاستيراد محا دور المنافسة بين البضائع المستوردة ونظيرتها الوطنية، مما دفع بالعديد من المنتجين المحليين لاستغلال الأمر ورفع الأسعار.
ويشير السعدون إلى أن هذه الأريحية لدى المنتجين المحليين أثرت أيضا على مستوى جودة المنتجات الوطنية المطروحة حاليا من حيث عدم صلاحية بعضها للاستخدام، ووصف ذلك بكونه تصرفا ينم عن عدم المسؤولية للمصانع الوطنية.
كما يرى أن منع الاستيراد أضر ببعض المستوردين، ودفعهم إلى احتكار السلع وإعادة طرحها بمبالغ باهظة بهدف دفع السلطات لفتح الباب للاستيراد في سبيل استعادة أعمالهم التجارية، “وهو ما حصل بالفعل مؤخرا”.
ولا يعتقد السعدون بوجود علاقة بين ارتفاع أسعار الدولار وغلاء المنتجات المحلية، حيث لا يتم التعامل بالعملة الأجنبية في التجارة المحلية.
نهاية حملة الدعم
حذر الناشط أحمد العمري من أن الغلاء الحالي سيوقف جماح الزخم الشعبي نحو المنتجات الوطنية إذا لم تعد الأسعار إلى طبيعتها، مؤكدا أن هناك تحركا شعبيا على منصات التواصل الاجتماعي باتجاه مقاطعة منتجات الدواجن والخضروات بعدما أتاحت الحكومة استيرادها من دول الجوار مؤخرا.
وكانت الحكومة العراقية قد سمحت باستيراد بعض المحاصيل الزراعية كالطماطم والخيار، إضافة إلى الدجاج والبيض، من المنافذ الحدودية البرية أواخر الشهر الماضي بعد ارتفاع أسعارها، حيث شهدت الخضروات زيادة في أسعارها للضعف، ففي حين وصلت أسعار البيض المحلي إلى 7 آلاف دينار (4.8 دولارات)، بلغ سعر البيض المستورد 5 آلاف دينار (3.4 دولارات) فقط.
وأضاف العمري: كنا نأمل أن نكون كالبلدان المجاورة التي تنتفع من خيرات بلدها ولكن جشع بعض التجار سيلغي إنجازات سنتين استطاع العراق خلالهما استعادة جزء من عافيته الإنتاجية.
وقال إن استمرار تصاعد الأسعار سيمحي الحلم العراقي بالتحول إلى تصدير المنتجات، ويبقيه بلدا مستهلكا بامتياز.
ووفق إحصائيات الجهاز المركزي للإحصاء، فقد بلغت نسبة استيراد المنتجات غير النفطية لعام 2020 نحو 18 مليار دولار، في حين بلغت قيمة واردات عام 2019 أكثر من 34 مليار دولار، و29 مليار دولار في عام 2018، وهي مفارقة كبيرة بحسب مختصين في الشأن الاقتصادي.
فقدان الحس الوطني
وترى الباحثة الاجتماعية سجى خالد أن التهديد بالمقاطعة هو رد فعل طبيعي إزاء سياسة رفع الأسعار التي يعتمدها التجار.
واعتبرت أن العراقي يُدفع إلى أن يفقد إحساسه الوطني يوما بعد آخر نتيجة للضغوط المتراكمة عليه، وأزمة الغلاء الحالية من أبرزها، فيضطر لنبذ خيرات ومنتجات بلده الغالية ويطالب باستيراد سلع أجنبية منافسة.
وانتقدت سجى الحكومة المسارعة في فتح باب الاستيراد قبل دراسة جوانب الأزمة ومعرفة أسباب ارتفاع الأسعار من خلال الوزارات المعنية.
حلول للأزمة
وبالعودة للدكتور محمد صالح، فإنه يرى ضرورة تفعيل الدور الرقابي ومتابعة الأسعار للحد من التلاعب واحتكار المنتجات وتفعيل قوانين اقتصادية تدعم المنتج الوطني، وتحافظ على ثبات سعره، إضافة إلى تطوير الواقع الإنتاجي في البلد من خلال زيادة القدرة الإنتاجية وإتاحة استفادة المنتجين من ميزات الإنتاج والبيع بالجملة.
أما السعدون فيرى أن السماح باستيراد البضائع ذات الاستهلاك العالي من شأنه أن يعيد التوازن ويدفع التجار والمزارعين المحليين إلى تثبيت سعر منتجاتهم، وبالتالي المحافظة على دعم الإنتاج المحلي والسيطرة على أزمة الغلاء في الوقت ذاته.
في حين يرى الناشط أحمد العمري أن على الحكومة إثبات دورها في دعم المنتج الوطني ماديا ومعنويا، سواء من خلال تسهيل تداول المنتوجات أو من خلال توفير مستلزمات إنتاجها، وهو ما سيحافظ على مستوى الإنتاج المحلي بالكمية والسعر المعقول ويشعر المواطن بقيمة خيرات بلاده.
ولا تزال أزمة الغلاء مستعرة وترتهن بها حياة 40 مليون مواطن عراقي يعانون من قلق عدم استقرار بلدهم اقتصاديا.
المصدر : الجزيرة