في عام 2005، قمت بزيارة فرع البنك الوطني الأفغاني في قندهار للقيام بإيداع. كنت في طور إطلاق تعاونية لتصنيع منتجات العناية بالبشرة بهدف التصدير، وذلك باستخدام الزيوت المستخرجة من اللوز المحلي وبذور المشمش والنباتات العطرية التي تجمع من الصحراء أو التلال الصخرية شمال المدينة. ومن أجل التسجيل لدى السلطات والعمل بشكل قانوني، كان علينا إيداع مبلغ في البنك الوطني.
كان كبير الموظفين الماليين في التعاونية، وهو أفغاني، يحاول القيام بهذا الإجراء الرسمي طيلة الأشهر التسعة الماضية – من دون دفع رشوة، وفي هذه المرة وافقت على مرافقته، وأنا أعلم أننا معاً سنحقق نتيجة أفضل. (لا أريد ذكر اسمه لأنه كان، حتى قبل بضعة أسابيع، وزيراً في الحكومة الأفغانية وعائلته أصبحت الآن مستهدفة في عمليات ثأر “طالبان”، كما هي الحال مع جميع الأفغان الذين يرفضون تحويل ولائهم من جمهورية أفغانستان الإسلامية إلى الإمارة الإسلامية المُعلنة حديثاً).
صرخ موظف قائلاً “ارجعوا غداً،” ثم أدار رأسه، تماماً كما دأب الموظفون على القول لزميلي خلال الأشهر التسعة الماضية. كان قصده واضحاً، أي “ارجعوا غداً بالمال”. فجأة، وجدت نفسي جالسة ومتربعة على مكتب الموظف، وسط كل المستندات والأوراق. قلت له “حسناً، خذ وقتك كما تشاء، لكنني سأبقى هنا حتى تنجز استماراتنا”. وعندما نظرت إليه شزراً، تحرك الموظف للعمل.
هكذا كانت الحياة بالنسبة إلى الأفغان أمام أنظار الولايات المتحدة. كان كل تعامل مع مسؤول حكومي تقريباً، بما في ذلك المعلمون والأطباء، ينطوي على ابتزاز. لم يكن معظم الأفغان قادرين على المجازفة التي قمت بها بإثارة الانتباه بتلك الطريقة. كان سينتهي بهم الأمر في السجن. وبدلاً من فعل ذلك، كانوا فقط يدفعون الأموال – ويضمدونها في قلوبهم.
بعد بضع سنوات، اشتكى عضو آخر في التعاونية، وهو ضابط شرطة سابق، قائلاً “من المفترض أن تلتزم الشرطة القانون. إنهم من يخالف القانون”. ولم يبتز هؤلاء المسؤولون – الشرطة والموظفون – الناس بأدب حتى. لذا فإن الأفغان لم يدفعوا أموالهم فحسب، بل دفعوا أيضاً ما هو أكثر قيمة من المال، ألا وهو كرامتهم.
في أعقاب انسحاب القوات الأميركية من أفغانستان، وغزو “طالبان” السريع للبلاد، وما تلاه من نزوح دموي وفوضوي، أعرب المسؤولون الأميركيون عن أسفهم لإحجام الأفغان عن القتال ضد “طالبان”. لكن كيف توقع الأميركيون أن يخاطر الأفغان بحياتهم دفاعاً عن حكومة أساءت إليهم – بموافقة من واشنطن – على مدى عقود؟
هناك أيضاً حقيقة أخرى أعمق يتعين إدراكها، وهي أن الكارثة التي حدثت في أفغانستان – وتواطؤ الولايات المتحدة من خلال السماح للفساد بأن يشل دواليب الدولة الأفغانية وجعلها مبغوضة عند شعبها – ليست فقط فشلاً في صنع السياسة الخارجية الأميركية. إنها أيضاً مرآة تعكس نسخة أكثر وضوحاً عن نوع الفساد الذي طالما كان يقوض الديمقراطية الأميركية هي الأخرى.
أخذ الرشى
لم يكن الفساد في أفغانستان تحت الاحتلال الأميركي مجرد عمليات ابتزاز متواصلة على مستوى الشارع، بل كان نظاماً. لم يكن بمقدور أي من رجال الشرطة أو رجال الجمارك وضع كل مكاسبهم غير المشروعة في جيوبهم. كانت تتدفق بعض هذه الأموال إلى مستويات عليا، في شكل قطرات تتجمع لتشكل نهراً هائلاً من الأموال. في عام 2010، قدرت دراستان إجمالي المبلغ المدفوع رشى كل عام في أفغانستان بما يتراوح بين ملياري دولار و5 مليارات دولار – وهو مبلغ يساوي 13 في المائة على الأقل من الناتج المحلي الإجمالي للبلاد. في مقابل العمولات، وفر المسؤولون في القمة الحماية إلى من هم في أسفل الهرم.
كانت الشبكات التي تدير أفغانستان مرنة ونشطة، تكتنفها خصومات داخلية وتحالفات أيضاً. كانت تمتد إلى ما يسيء فهمه الغربيون في كثير من الأحيان على أنه جدار يصعب اختراقه بين القطاع العام ورجال الأعمال المفترضين ورؤساء “المنظمات غير الربحية” المحلية التي جمعت معظم المساعدات الدولية التي وجدت طريقها إلى أفغانستان. كانت هذه الشبكات تعمل غالباً كشركات عائلية متنوعة: سيحصل ابن شقيق حاكم إحدى المقاطعات على عقد إعادة إعمار كبير، وسيحصل ابن صهر الحاكم على وظيفة رائعة كمترجم للمسؤولين الأميركيين، وسينقل ابن عم الحاكم شحنات الأفيون إلى الحدود الإيرانية، وجميع الثلاثة جزء من نفس المشروع في النهاية.
كان الغربيون يعجزون غالباً عن فهم سبب الضعف المستمر في مؤسسات الحكم الأفغانية. لكن الشبكات المتطورة التي تتحكم في تلك المؤسسات لم تكن لديها يوماً نية أن تحكم. كان هدفها هو الاغتناء [مراكمة الثروات] فحسب. وفي هذه المهمة، أثبتوا نجاحهم بشكل مذهل.
الكارثة في أفغانستان مرآة تعكس الفساد الذي يقوض الديمقراطية الأميركية.
تعود الأخطاء التي رسخت هذا النوع من الحكومة إلى بداية التدخل الذي قادته الولايات المتحدة، عندما قامت القوات الأميركية بتسليح ميليشيات شعثاء بالوكالة، لتعمل كقوات برية مبتذلة في القتال ضد “طالبان”. ولقد تلقت الميليشيات بزات قتالية جديدة وأنيقة وبنادق آلية، لكن من دون تدريب أو إشراف عليهم. في الأسابيع الأخيرة، أفزعت العالم صور مقاتلي “طالبان” وهم يشهرون الهراوات ضد حشود يائسة في مطار كابول. لكن في صيف عام 2002، حدثت مشاهد مماثلة من دون أن تثير كثيراً من الغضب، عندما أقامت الميليشيات المدعومة من الولايات المتحدة نقاط تفتيش حول قندهار، وضربت الأفغان العاديين الذين رفضوا دفع رشى – كانوا سائقي شاحنات وعائلات في طريقهم إلى حفلات أعراس، وحتى الأطفال على الدراجات ذاقوا طعم تلك الهراوات.
بمرور الوقت، رسم ضباط المخابرات العسكرية الأميركية خرائط الشبكات الاجتماعية لقادة “طالبان” الصغار. لكنهم لم يستكشفوا أبداً الروابط بين المسؤولين المحليين ورؤساء شركات البناء أو الخدمات اللوجستية التي شاركت في مناقصات العقود الممولة من الولايات المتحدة. لم يكن أحد يقارن الجودة الفعلية للمواد الخام المستخدمة مع ما تم تحديده في الميزانية. لم يكن لدينا نحن الأميركيين أي فكرة عمن كنا نتعامل معهم.
لكن الأفغان العاديين كان بإمكانهم رؤية من كان يغتني، ولاحظوا أياً من القرى حصلت على مشاريع تنموية سخية. وعزز المسؤولون المدنيون والعسكريون الغربيون مكانة المسؤولين الأفغان الفاسدين من خلال الشراكة معهم بتباه ومن دون شروط، حيث كانوا يقفون إلى جانبهم عند التدشين ويستشيرنوهم في شأن التكتيكات العسكرية. وكان بإمكان هؤلاء المسؤولين الأفغان أن يهددوا فعلاً بطلب شن هجوم أو غارة جوية أميركية على أي شخص يخرج عن طاعتهم.
رائحة عفنة
بحلول عام 2007، كان عديد من الأشخاص، بمن فيهم أنا، يحذرون بإصرار كبار المسؤولين الأميركيين والأوروبيين من أن هذا النهج يقوض جهود إعادة بناء أفغانستان. في عام 2009، بصفتي مستشارة خاصة لقائد القوات الدولية في أفغانستان، الجنرال ستانلي ماكريستال، ساعدت في إنشاء فريق عمل لمكافحة الفساد في مقر قوات المساعدة الدولية لإرساء الأمن في أفغانستان “إيساف”. (قام خليفة ماكريستال، ديفيد بتريوس بتوسيع المجموعة وإعادة تسميتها باسم “فريق عمل شفافيات”). لكن الفريق الأصلي وضع خططاً مفصلة لمعالجة الفساد على المستوى الإقليمي في جميع أنحاء البلاد.
لاحقاً، ساعدت في تطوير نهج أكثر انتظاماً، الذي كان من شأنه أن يجعل مكافحة الفساد عنصراً أساسياً في حملة الناتو الشاملة. كانت وحدات الاستخبارات سترسم خرائط الشبكات الاجتماعية للوزراء وحكام الولايات وارتباطاتهم. كان المسؤولون العسكريون والمدنيون الدوليون في كابول سيفرضون تدريجاً مجموعة من العقوبات على المسؤولين الأفغان الذين كان فسادهم يقوض بشكل جدي عمليات الناتو وثقة الأفغان بحكومتهم. وكان ضبط القادة العسكريين الأفغان وهم يسرقون العتاد أو الراتب الشهري لقواتهم سيحرمهم من الدعم الأميركي. في وقت لاحق، أثناء عملي مساعدة خاصة لرئيس هيئة الأركان المشتركة، الأدميرال مايك مولين، اقترحت سلسلة من الخطوات التي كان من شأنها استهداف على نحو خاص الرئيس الأفغاني حامد كرزاي، الذي كان يحمي المسؤولين الفاسدين قيد التدقيق، وكان أشقاؤه يكدسون ملايين الدولارات المسروقة في دبي – لصالح كرزاي نفسه، كما اشتبهنا.
لم يكن لدينا نحن الأميركيين أي فكرة عمن كنا نتعامل معهم.
لم يتم تنفيذ أي من هذه الخطط على الإطلاق. لقد استجبت لطلبات متتالية من بترايوس حتى أدركت أنه لا ينوي الأخذ بتوصياتي وأن طلباته كانت فقط لأجل العمل. من ناحية أخرى، وافقت اللجنة الرئيسة لمجلس الأمن القومي – وهي مجموعة تضم كل مسؤول في السياسة الخارجية والأمن على مستوى الحكومة – على التفكير في نهج بديل، لكن الخطة التي أرسلناها “ماتت” “أُهملت] في مكاتب مستشاري الرئيس باراك أوباما للأمن القومي جيمس جونز وتوم دونيلون. في حين، واصلت “فرقة عمل الشفافيات” عملها، لكنها كانت مجرد تزيين للواجهة يتم عرضها خلال زيارة أعضاء الكونغرس كدليل على أن الولايات المتحدة تحاول فعلاً فعل شيء حيال الفساد الأفغاني.
شكلت قوة إيساف والسفارة الأميركية في كابول أيضاً فرقة عمل أكثر تخصصاً أطلق عليها “خلية تمويل التهديد الأفغاني” لإجراء تحقيقات مالية. في عام 2010، أطلقت أول تحقيق مهم في مكافحة الفساد، وقاد مسار التحقيق إلى الدائرة المقربة من كرزاي، واعتقلت الشرطة محمد ضياء صالحي، أحد كبار مساعديه. ولكن بمكالمة هاتفية واحدة لمسؤولي الإصلاحيات، أفرج كرزاي عن المشتبه فيه. ثم قام كرزاي بتخفيض رتبة جميع المدعين العامين في الحكومة الأفغانية المتخصصين في مكافحة الفساد، والذين أسهم بعضهم في تحقيق لجنة مكافحة الفساد، وخفض رواتبهم بنحو 80 في المئة ومنع مسؤولي وزارة العدل الأميركية من إرشادهم. لم يصدر أي احتجاج من واشنطن، وكما قال عضو في خلية تمويل التهديد الأفغاني، فقد “هرولت الصراصير للاختباء في الزوايا”.
لطالما أنكر المسؤولون المدنيون في البنتاغون ونظراؤهم في وزارة الخارجية الأميركية وفي وكالات الاستخبارات أن يكون الفساد عاملاً مهماً في مهمة الولايات المتحدة في أفغانستان. اعتقد كثيرون بأن الفساد كان ببساطة جزءاً من الثقافة الأفغانية – كما لو أن أي شخص يقبل عن طيب خاطر أن يتعرض للإذلال والسرقة من قبل المسؤولين الحكوميين. خلال أكثر من عقد من العمل لفضح الفساد ومكافحته في أفغانستان، لم يكن لسان حال أي أفغاني التقيته أبداً، “لا نمانع الفساد في الحقيقة، إنه جزء من ثقافتنا”. كانت مثل هذه التعليقات حول أفغانستان تصدر دائماً من الغربيين فقط. ولقد جادل مسؤولون أميركيون آخرون بأن الفساد الصغير كان شائعاً لدرجة أن الأفغان اعتبروه أمراً مفروغاً منه وأن الفساد في المستويات العليا كان مشحوناً سياسياً لمواجهته. بالنسبة إلى الأفغان، كان التفسير أبسط، وهو أن “أميركا لابد أنها تريد الفساد،” كما لاحظ كبير المسؤولين الماليين في تعاونيتي.
لم تقترب أي من الإدارات الأربع التي خاضت الحرب من مواجهة الفساد.
ترسخت سابقة إفلات كرزاي من العقاب في أعقاب الانتخابات الرئاسية الأفغانية لعام 2009. وقد سرقها كرزاي بوقاحة عندما أعلن أن بعض المناطق الموبوءة بـ”طالبان” آمنة للتصويت، ثم تفاوض مع “طالبان” للسماح بإدخال صناديق الاقتراع وإخراجها منها، لكن من دون السماح للناخبين بالوصول بحرية إلى مراكز الاقتراع. وكانت النتيجة صناديق اقتراع فارغة أمكن بعد ذلك حشوها بالأصوات. ولقد روى لي أصدقائي الأفغان قصصاً جميلة عن موظفي الاقتراع في القرى الريفية، الذين شوهدوا وهم يطلقون النار في الهواء أثناء حديثهم عبر الهاتف مع المسؤولين في كابول. كان مسؤولو الانتخابات يصرخون في الهاتف، “إننا نمر بوقت عصيب هنا. هل يمكنك منحنا بضعة أيام أخرى حتى نأتيك بالصناديق؟” ثم يعودون لملء أوراق الاقتراع المزورة.
في بعض الحالات، وجد محققو الأمم المتحدة الذين فتحوا الصناديق المختومة مجموعات متماسكة من أوراق الاقتراع في الداخل، وكلها مملوءة بنفس الحبر. لكن واشنطن رفضت الدعوة لانتخابات جديدة. وبدلاً من ذلك، أرسلت إدارة أوباما جون كيري، السناتور الديمقراطي من ولاية ماساتشوستس، الذي كان حينها رئيساً للجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ، لمحاولة التفاهم مع كرزاي. في النهاية، ظهرت النتائج الرسمية من المفاوضات: سيظل كرزاي هو الفائز ولكن بأصوات أقل. كانت تلك هي الديمقراطية التي زرعها الأميركيون في أفغانستان في نهاية المطاف، ديمقراطية يضع قواعدَها بسرعة أولئك الذين يكدسون أكبر قدر من المال والسلطة، وحيث يتم حسم الانتخابات ليس في صناديق الاقتراع، ولكن من قبل أولئك الذين يشغلون المناصب سلفاً.
كانت هناك طريقة أخرى
كيف أخطأ المسؤولون الأميركيون عبر إدارات أربع في أفغانستان؟ كما هي الحال في أي ظاهرة معقدة، لعبت عديد من العوامل دوراً في ذلك.
أولاً، على الرغم من التكاليف الباهظة، كانت الحرب الأميركية طوال الوقت جهداً تعوزه الحماسة. في أعقاب هجمات الحادي عشر من سبتمبر، كان كبار مستشاري الرئيس الأميركي جورج دبليو بوش مهووسين بالعراق. لقد وضعوا على مضض أنظارهم على أفغانستان فقط عندما تبين من خلال معلومات استخبارية دامغة أن الهجمات نفذتها القاعدة. كان مقر التنظيم في ذلك الوقت في أفغانستان، حيث أقام أسامة بن لادن شراكات طويلة الأمد مع الجهاديين المحليين. ومع ذلك، في غضون بضعة أشهر من انهيار نظام “طالبان”، تلقى الدبلوماسيون الأميركيون والضباط العسكريون أوامر بالانتقال إلى العراق. هكذا وضعت الولايات المتحدة نفسها في موقف صعب لمحاولة خوض حربين معقدتين في آن واحد.
أوباما، من جانبه، أبدى دائماً تناقضاً بشأن المهمة في أفغانستان. وكنائب للرئيس، كان جو بايدن صريحاً في معارضته للتدخل. في حين، أشرف الرئيس دونالد ترمب على المفاوضات التي أجبرت الحكومة الأفغانية على تقديم تنازلات متتالية لـ”طالبان” حتى تتمكن القوات الأميركية من المغادرة – وتمكين حركة “طالبان” من تحقيق انتصارها السريع. وقد تمكن بايدن، بعد عودته إلى البيت الأبيض كرئيس، أخيراً من تحقيق الانسحاب الذي كان يبتغيه قبل 12 عاماً. لكن اليوم ليس قبل 12 عاماً.
خلال جميع الإدارات الأربع، لم يلتق المسؤولون الأميركيون أبداً بأشخاص عاديين في أماكن تجعل هؤلاء الأشخاص يشعرون بالأمان للتحدث بحرية. لذلك لم يستوعب الأميركيون أبداً المعلومات الهامة التي كانت واضحة للأفغان، مثل انتشار الفساد وما يولده من اشمئزاز. في غضون ذلك، كان كرزاي يعرف كيف يضع أفغانستان في عناوين الأخبار – وهو الأمر الذي لم يكن يريده أي من الرؤساء الأربعة الذين أشرفوا على الحرب. حتى خارج المنصب، يبدو كرزاي قادراً على التحايل على البيت الأبيض، ويمكن رؤية ذلك في دوره، بحسب التقارير، في تمهيد الطريق للنهاية المذلة للجهود الحربية الأميركية من خلال التفاوض مع القادة الإقليميين والمسؤولين الباكستانيين (أو وكلائهم) لتسهيل سيطرة “طالبان”.
مسؤولية القادة الأفغان
كان بإمكان الولايات المتحدة، بل كان وينبغي لها، أن تسلك نهجاً مختلفاً. كان يتعين عليها أن تقف حازمة في وجه نوبات غضب كرزاي، مستفيدة من حقيقة أن القادة الأفغان يحتاجون إلى واشنطن أكثر بكثير مما تحتاج واشنطن إليهم. كان ينبغي أن تجعل المساعدة الأميركية، المدنية والعسكرية، مشروطة بنزاهة المسؤولين الذين يتلقون دعمها. كان ينبغي على الولايات المتحدة أن توفر عدداً كبيراً من المرشدين لرؤساء البلديات الأفغان ورؤساء الإدارات الصحية كما فعلت مع عُقداء ونُقباء الجيش الوطني الأفغاني. وكان ينبغي أن تضمن رواتب كافية لموظفي الخدمة المدنية الأفغانية وقوات الأمن لإبقاء بما يلبي الحاجيات الأساسية لأسرهم حتى لا يستخدم الموظفون وضباط الشرطة ذريعة الأجور المنخفضة لإضفاء الشرعية على السرقة.
كان بإمكان قوة “إيساف” والسفارات الغربية إنشاء خطوط إرشادية ولجان تظلم، مثل تلك التي أنشأتها “طالبان” في مقاطعة قندهار، بحيث يمكن للمواطنين تقديم الشكاوى والتحقيق في الشكاوى. وكان على المؤسسات العسكرية والمدنية الأميركية تدريب مزيد من مبعوثيها على لغة الباشتو والداري لتقليل اعتمادهم على المترجمين الفوريين، الذين كانوا دائماً منسجمين في الشبكات الأفغانية وكانت لديهم غالباً مصالحهم الخاصة يسعون لتعزيزها.
لا أستطيع التأكيد أن مثل هذا النهج كان سينجح، لكن الولايات المتحدة لم تكلف نفسها حتى عناء المحاولة، ولم تقترب أي من الإدارات الأربع التي خاضت هذه الحرب من تبني أجندة مثل هذه.
بالطبع، لم يكن القادة الأفغان بمنأى عن اللوم – ليس فقط كرزاي، ولكن أيضاً أشرف غني، الذي شغل منصب الرئيس بعد كرزاي وهرب من البلاد عندما اقتربت “طالبان” من القصر الرئاسي. عندما تولى المدير المالي السابق لتعاونيتي منصبه في إدارة غني في وقت سابق من هذا العام، تحدثنا كثيراً. قال لي ذات يوم بصوت شاحب: “ليس لديك أدنى فكرة، لا أحد في هذه الوزارة يهتم بأي شيء سوى مكاسبه الشخصية”. لقد أصيب بالصدمة، حتى بعد كل ما عاناه. وأضاف قائلاً “لقد جئت إلى مكتبي ولم أجد شيئاً، لا توجد خطة استراتيجية، لا أحد يعرف حتى ما هي مهمة هذه الوكالة، ولا يوجد أحد في فريق العمل قادر حتى على كتابة خطة استراتيجية”. في غضون أسابيع من توليه وظيفته، اضطر إلى إلغاء عقد كبير منحته وزارته من خلال عملية مناقصة مزورة وتجنب خطة سلفه لإنشاء وزارة موازية كانت ستسيطر على الجزء الأكبر من ميزانيته.
حلم بعيد المنال
من المحتمل أن تنحسر أفغانستان قريباً من عناوين الأخبار الأميركية، حتى مع انتقال الوضع هناك من سيء إلى أسوأ. سيوجه السياسيون والمحللون أصابع الاتهام، وسيبحث العلماء والمحللون عن الدروس. سوف يركز كثيرون على حقيقة أن الأميركيين فشلوا في فهم أفغانستان. هذا صحيح بالتأكيد – ولكنه ربما أقل أهمية من مدى فشلنا نحن الأميركيين في فهم بلدنا.
ظاهرياً، تختلف أفغانستان عن الولايات المتحدة إلى حد بعيد، ولديهما مجتمعات وثقافات مختلفة. ومع ذلك، عندما يتعلق الأمر بالسماح للمستفيدين بالتأثير على السياسة والسماح للقادة الفاسدين الذين يخدمون مصالحهم الذاتية بشل الدولة وإغاظة مواطنيها، فإن البلدين لديهما كثير من القواسم المشتركة.
مع كل سوء الإدارة والفساد اللذين أفرغا الدولة الأفغانية من مضمونها، يجدر النظر إلى نجاعة حكم القادة الأميركيين في العقود الأخيرة. لقد بدأوا وخسروا حربين، وحولوا الأسواق الحرة إلى قطاع خدمات مالية بلا ضوابط بدأت تدمر الاقتصاد العالمي تقريباً، وتواطأوا في أزمة أفيونية مزدهرة، وأخفقوا في الاستجابة لوباء عالمي. ولقد صاغوا سياسات أدت إلى تسريع الكوارث البيئية، ما أثار التساؤل عن المدة التي ستستمر فيها الأرض في احتضان البشر.
وكيف حال مهندسي هذه الكوارث وأعوانهم؟ لم يشبعوا أبداً. يمكن النظر إلى الارتفاع الصاروخي في مداخيل وأصول المديرين التنفيذيين في صناعات الوقود الأحفوري والأدوية والمصرفيين الاستثماريين ومقاولي الدفاع، إضافة إلى المحامين وغيرهم من المهنيين الذين يقدمون لهم خدمات راقية. إن ثروتهم المذهلة والحماية المريحة التي يتمتعون بها من المصائب التي سببوها تشهد على نجاحهم. ليس النجاح في القيادة بالطبع. لكن ربما القيادة ليست هدفهم. ربما يكون هدفهم الأساسي، مثل نظرائهم الأفغان، هو كسب المال فقط.
سارة تشايس هي مؤلفة كتاب “حول الفساد في أمريكا – وما هو على المحك”. من عام 2002 إلى عام 2009، أدارت منظمات تنموية في قندهار، أفغانستان. في وقت لاحق، عملت مساعدة خاصة لقائدين من القوات العسكرية الدولية في أفغانستان ولرئيس هيئة الأركان المشتركة الأميركية.
اندبندت عربي