لم تكن العلاقات الروسية التركية في أفضل حالاتها خلال الحرب الباردة في منتصف القرن الماضي، فقد اختارت تركيا الانضمام إلى الغرب، وحافظت على عضوية حلف شمال الأطلسي الذي نشأ في وجه المعسكر الشرقي، واستمرّ بعد انحلال الاتحاد السوفيتي .. حافظت تركيا على وضعها السياسي على مقربةٍ من الغرب في سياق نضالٍ مريرٍ للانضمام إلى أوروبا، ولكن مسار علاقاتها مع روسيا اتخذ منعطفا منذ العام 2016، فقد طوّر البلدان، وبشكل جاد، علاقاتٍ قوية، استطاعت أن تتجاوز مطبّات سياسية معقدة، منها المسألة السورية التي تقف فيها كل من روسيا وتركيا على طرفي نقيض. لكنّ رئيسي البلدين، على الرغم من تموضعهما المتناقض، وجدا نقاطا يمكن التوافق عليها، بما لا يضرّ بموقف كل بلد، ويحافظ على استراتيجيته العامة في سورية، كما استطاعا أيضا الالتفاف على أزمة ناغورني كاراباخ. وبدأ يلاحظ تحرّك سياسي تركي بعيدا عن أميركا، كانت أولى خطواته الواضحة استيراد الرئيس أردوغان منظومة صواريخ روسية حديثة، ما أغضب الولايات المتحدة التي أعلنت عدم موافقتها على الصفقة، ولكن الرئيس التركي مضى فيها حتى النهاية.
يأتي الاجتماع الذي جرى، أخيرا، في سوتشي قبل أيام ضمن جهود بوتين وأردوغان، في الحفاظ على هذه العلاقة الناشئة. ويبدو أن شخصية كل من الرئيسين قد ساهمت في القفز فوق بعض المطبّات، أو ربما كان بدافع من أردوغان لإجراء مزيد من الاختبارات للموقف الأميركي ومراقبة حدوده، خصوصا أنه سبق وطلب من بوتين دفعة جديدة من منظومة الصواريخ المتطوّرة، ما أثار حفيظة جو بايدن.
جاء اجتماع سوتشي بعد تصعيد عسكري في إدلب وعفرين، حيث نفذ الطيران الروسي هجمات مباشرة على أهداف في كل منهما، أوصلت رسائل سياسية روسية، لكنها بالطبع أوقعت خسائر مباشرة وضحايا مدنيين، لا تهتم موسكو لأمرهم كثيرا، بل اتبعت طريقتها المفضّلة في إيصال الرسائل، خصوصا في ظل تجاهل أميركي كامل لكل ما يحصل في المنطقة غرب الفرات… وللتذكير، عقب لقاء جمع بايدن وأردوغان على هامش قمة دول حلف شمال الأطلسي منتصف يونيو/ حزيران الماضي، أبدى أردوغان امتعاضه من نتيجة ذلك اللقاء، ووصفه بأنه مخيّب للآمال! وقد يسعى الآن إلى توثيق علاقته مع روسيا بشكل أكبر، وتكون نقطة الخلافات الأساسية بين بايدن وأردوغان دعم الولايات المتحدة المسلحين الأكراد الذين يسيطرون على مناطق شرق الفرات. وفي هذه النقطة، يبدي الروس شيئا من المرونة والتعاطف الظاهري، وقد يكون لدى بوتين ما يفعله حيالهم، في ما لو فكّرت الولايات المتحدة بمغادرة المنطقة، وترك الأكراد النظام وكفلاءه الروس.
يمكن التعامل مع اجتماع سوتشي الأسبوع الماضي أنه محطّة جديدة في تثبيت العلاقات القائمة. وقد يرغب أردوغان في إيصال رسالة مهمة بأن تركيا يمكن أن تخرج عن عباءة أميركا، وتستطيع أن تتبنّى سياسات منفردة بعيدة عن السيطرة الأميركية. ويمكنها أن تمضي بعيدا في الصفقة الجديدة للصواريخ إس 400، من دون أن يعني ذلك أن تركيا قد غادرت نهائيا الملعب الذي ألفته منذ زمن بعيد، على مقربةٍ من أميركا والتحالف الغربي .. يحاول أردوغان أن يكون في موقع اللاعب الحر الذي يضع المصالح التركية في المقام الأول، ويميل إلى الجانب الأقرب إليها، وفي الوقت ذاته، يريد أن يبقي بيده كل الأوراق الرابحة التي تؤهله للبقاء في موقف القوي، ومنها وجوده في سورية، فتركيا هي الجانب الذي يحافظ على مقولة لا حسم عسكريا للصراع في سورية.. ولم يبق عمليا إلا إدلب خارج سيطرة النظام، ليبقى هذا الشعار مرفوعا، وروسيا تحاور الجانب التركي لتبقيه على مسافةٍ كافيةٍ من دون إسقاط الشعار إياه، مع إبقاء عينٍ على الولايات المتحدة وانتظار اللحظة التي تغادر فيها الشمال السوري، وعندها قد تعاد المتوضعات، وتعاد صياغة العلاقات بين الجميع على أسس مختلفة.
العربي الجديد