هل توقظ طالبان الأفغانية أشباح التطرف في باكستان؟

هل توقظ طالبان الأفغانية أشباح التطرف في باكستان؟

نزل خبر سيطرة طالبان على أفغانستان كالصاعقة على كثيرين ممن يتذكرون نظام رعب فرضته قبل 2001. وقد كان لبعض أجهزة أمن باكستان علاقة وثيقة مع طالبان، فهل ينقلب السحر على الساحر وماذا تأمل القيادة الباكستانية؟ وكيف تتأثر باكستان بل والصين وروسيا والهند وإيران بذلك؟ الباحث محمد لقمان يجيب لموقع قنطرة.

* *
توالت الأحداث المقبلة من أفغانستان خلال أسابيع آب (أغسطس) 2021 على مدار الساعة بعد أن اجتاحت طالبان الولايات الأفغانية الواحدة تلو الأخرى، وتمكّنت من السيطرة على العاصمة كابول بلا مقاومة تذكر، الأمر الذي فاجأ الجهات الفاعلة الرئيسة على الساحة الأفغانية، فقد انحلت قوات الأمن الأفغانية بصورة فعلية، وكان الفشل الذي مني به الجيش الأفغاني صادمًا لكل المراقبين؛ فهو الجيش الذي أُنفقت مليارات الدولارات على تشكليه وتسلحيه خلال السنوات العشرين المنصرمة، وكان وقع ذلك أشد على الأفغان قبل غيرهم. وفرّ الرئيس الأفغاني أشرف غني من البلاد تاركًا الطريق مفتوحةً أمام المتطرفين للاستيلاء على السلطة.
صحيح أنه من المبكر التنبؤ بعواقب هذه التطورات على المنطقة، إلا أنه من الواضح أن باكستان هي المنتصر الثاني في هذا الصراع إلى جانب حركة طالبان، على الأقل في الوقت الحاضر. وتصعب حاليًا الإجابة على سؤال حول الكيفية التي سيؤثر بها استيلاء طالبان على السلطة على المجتمع الباكستاني- هذا السؤال هو بيت القصيد.
فقبل بضعة أشهر، اتهم أعضاء في الحكومة الأفغانية باكستان بدعم تقدم طالبان بصورة حثيثة، كما شهد مؤتمر إقليمي عقد في أوزبكستان تراشقا علنيا غير مألوف للاتهامات بين الرئيس الأفغاني غني ورئيس الوزراء الباكستاني عمران خان.
وجاء رد فعل خان غاضبًا بصورة واضحة على اتهام غني باكستان بأنها تقف وراء تهريب الآلاف من مقاتلي طالبان إلى أفغانستان، وأكد خان أن بلاده لا علاقة لها بالتطورات الأخيرة في أفغانستان، وأنها مهتمة بالتوصل إلى حل سلمي للصراع فيها، وأن الحرب الأهلية في أفغانستان المجاورة والتدفق الجديد للاجئين الأفغان من شأنهما أيضًا زعزعة استقرار باكستان في نهاية المطاف.
وقد يكون هذا التقييم صحيحًا جزئيًا، فمن المؤكد أن باكستان لم تقم بتهرّيب آلاف المقاتلين من طالبان عبر حدودها، ولكن ذلك لا يعني إنكار أن المؤسسة الباكستانية تقيم علاقات وثيقة مع طالبان، حتى وإن كان نفوذها في أفغانستان متدنّيًا.
فسيطرة طالبان على كابول تعني تولي نظام “موالٍ لباكستان” مقاليد السلطة في أفغانستان مجددًا بعد عشرين سنة. وخلافًا لما حدث في الماضي، تشارك جهات إقليمية فاعلة أخرى، بالإضافة إلى باكستان، بنشاط هذه المرة في تشكيل “أفغانستان ما بعد أميركا”.
طالبان ودول الجوار
ومنذ أن بدأت الولايات المتحدة التفاوض المباشر مع طالبان، وأعلنت أنها ستنسحب من أفغانستان، بات من الواضح حتى لأكبر المتشككين أن طالبان لاعب رئيسي في أفغانستان، وأن الصراع لا يمكن حله بالوسائل العسكرية.
ويخدم استقرار أفغانستان مصالح جميع الدول المتاخمة لها، لما في ذلك من منع لامتداد الصراع إليها. وتحاول كل من إيران والصين وروسيا، بالإضافة إلى باكستان، ملأ فراغ السلطة في أفغانستان. وقد أجرى ممثلو حركة طالبان مفاوضات ثنائية مع هذه البلدان في الأشهر الأخيرة، ويبدو أنهم قد تمكنوا من التوصل إلى اتفاق بشأن الاعتراف بنظامهم.
وعليه، ترغب الصين بدمج جارتها أفغانستان، بوصفها محطة مهمة، في “مبادرة الحزام والطريق” وهي مبادرة اقتصادية صينية تقوم على أنقاض طريق الحرير، تهدف إلى ربط الصين بقارات آسيا وأوروبا وأفريقيا عبر تطوير البنى التحتية في عدة بلدان بما يكوّن في نهاية المطاف بنية تحتية مشتركة عملاقة. فوجود حكومة مستقرة في أفغانستان، حتى ولو شكلتها حركة طالبان المتطرفة، سيسهّل على الصين تنفيذ مشاريع البنى التحتية في هذا البلد. كما ترغب الصين أيضًا بالحصول على ضمانة من طالبان بعدم تمكين مقاتلي مقاومة الأويغور -في إقليم شينجيانغ الصيني ذاتي الحكم “تركستان الشرقية” المتاخم حدوديًا لأفغانستان- من ترسيخ وجودهم على الأراضي الأفغانية.
ويحتل الوضع الأمني في آسيا الوسطى واحتواء الجماعات الإرهابية المحلية أهمية مركزية بالنسبة لروسيا، إذ تخشى موسكو زعزعة استقرار جمهوريات آسيا الوسطى؛ ولذلك فقد أجرت موسكو محادثات مباشرة مع حركة طالبان، على الرغم من تصنيفها للجماعة رسميًا جماعةً إرهابيةً.
وينطبق الأمر كذلك على إيران، إذ تحارب التنظيمات السنية الإرهابية في شرق البلاد، وتريد منع تنظيم داعش من اكتساب القوة في أفغانستان، كما ترى إيران نفسها قوة حماية للشيعة الأفغان وتحرص على ضمان أمنهم.
أما موقف باكستان تجاه حركة طالبان فهو محكوم بعدة عوامل جيوسياسية ذات أهمية بالنسبة لها، إذ تريد إسلام أباد من حركة طالبان أن تبقي فرعها الباكستاني، المعروف اختصارًا بـTTB (حركة طالبان الباكستانية)، تحت السيطرة، وأن تمنعه من تنفيذ هجمات ضدها انطلاقًا من أفغانستان.
صحيح أن الجيش الباكستاني قد تمكن سابقًا من طرد مقاتلي حركة طالبان الباكستانية من المناطق القبلية في المنطقة الحدودية مع أفغانستان، إلا أن ذلك لم يتحقق إلا بعد عدة حملات عسكرية فاشلة؛ وبالتالي، فإن عودة مقاتلي حركة طالبان الباكستانية إلى سالف عهدهم سيكون له عواقب وخيمة على الوضع الأمني في باكستان.
كما يجد الانفصاليون من إقليم بلوشستان الباكستاني مأمن لهم في أفغانستان، وينشطون بحرية نسبيًا من هناك. وتشكّل الهجمات التي يشنّها مسلحو بلوشستان أكبر تهديد للممر الاقتصادي الصيني الباكستاني (CPEC)، وهو مشروع طموح ترغب إسلام أباد وبكين من خلاله تحسين تعاونهما في مجال تطوير البنية التحتية للنقل والطاقة، بما في ذلك طرق العبور عبر أفغانستان، ومن المقدر أن يتيح ميناء كل من جوادر وكراتشي إمكانية الوصول المباشر إلى خطوط التجارة العالمية. كل ذلك سيكون تنفيذه أسهل في ظل حكم طالبان.
ولكن الأهم من ذلك بالنسبة لباكستان هو حقيقة أن نفوذ الهند في أفغانستان قد تراجع إلى حد كبير عقب استيلاء طالبان على السلطة هناك. إذ تمكنت الهند في السنوات الأخيرة من توسيع نفوذها بشكل كبير في أفغانستان من خلال الاستثمارات والمشاريع، وهو الأمر الذي كانت إسلام أباد ترقبه بعين الارتياب باستمرار.
ويلعب تأمين الحدود الغربية دورًا مركزيًا في العقيدة الأمنية الباكستانية. فوجود عدو على الحدود الغربية لباكستان يعد بمثابة حصار مطبق عليها، نظرًا لوقوع عدوتها اللدودة الهند على حدودها الشرقية. وعليه، فإن عرقلة حدوث هذا يمثل أولوية قصوى في أروقة السلطة في إسلام أباد.
وقد استفادت طالبان بدورها من الدعم الباكستاني، وذلك رغم حقيقة أن العديد من قادتها كانوا محتجزين في باكستان بعد العام 2001. فقد وجد اللاجئون من كوادر طالبان وأسرهم مأوى في مدينتي كويتا أو كراتشي الباكستانيتين. كما كان هناك اتصال نشط بين المؤسسة الباكستانية وقيادة طالبان باستمرار، ما سمح لباكستان بحث قيادة طالبان على الجلوس إلى طاولة مفاوضات مشتركة مع الأميركيين. ولا يزال كلا الجانبين يستفيد من الآخر على الرغم من تراجع نفوذ إسلام أباد على الجماعة.
مخاوف تفشي التطرف في باكستان
بيد أن هناك أيضا رأيًا آخر في باكستان. ففي ضوء استيلاء طالبان على السلطة، يخشى كثير من الباكستانيين من تحول مجتمعهم تدريجيًا إلى التطرف. إذ تتعاطف الأحزاب الدينية وعناصر من المؤسسة الباكستانية صراحة مع حركة طالبان. ويرى هؤلاء جميعًا في انتصار حركة طالبان تأكيدًا لسياساتهم. ومن ذلك تهنئة فضل الرحمن، زعيم حزب علماء الإسلام الإسلامي (JUI)، لزعيم طالبان هبة الله آخوند زاده على انتصاره.
ومن الناحية الأيديولوجية، يمكن أن ننسب حركة طالبان وحزب علماء الإسلام الباكستاني إلى نفس المدرسة الفكرية، ألا وهي دار العلوم دیوبند، في مدينة ديوبند الهندية. وتعتقد حركة دیوبند اليوم أنها في ازدياد، وتأمل في اكتساب مزيد من النفوذ، لاسيما في حمأة تنافسها مع حركة بارلوي السنية الصوفية، وهي فرقة إسلامية صوفية نشأت في الهند أيام الاستعمار البريطاني.
ومن المرجّح أن يزداد التوتر بين هاتين المدرستين الدينيتين السنيتين مستقبلًا. وتخشى الأقليات الدينية والقوى الليبرالية بالفعل من تزايد العمليات الانتقامية حال ازدادت أهمية القوى الراديكالية في المجتمع ككل.
ويمكن أن تتعرض باكستان لدوامة جديدة من العنف، كتلك التي حدثت أوائل القرن الحادي والعشرين، والعلامات الأولى على ذلك موجودة بالفعل، إذ أعلنت حركة طالبان الباكستانية، التي تعد فرعًا منتكِسًا لحركة طالبان، عن عودتها إلى مسرح الأحداث بقوة بعد تنفيذها عدة هجمات نوعية في بداية العام 2021.
كما شنّت الجماعة في نيسان(أبريل) 2021 هجومًا استهدف السفير الصيني في فندق سيرينا في مدينة كويتا الباكستانية، رغم ما يتمتّع به هذا الفندق من حماية أمنية مشدّدة. ويبقى من المشكوك إمكانية سيطرة طالبان حقًا على حركة طالبان باكستان، وإلقاء نظرة عامة على الهيكل التنظيمي الفضفاض للجماعة الأخيرة كافٍ لإدراك ذلك.
وما يزال من السابق لأوانه التنبؤ بمضاعفات الحدث الأفغاني بصورة موثوقة، وستكون الأشهر القليلة المقبلة حافلة بالأحداث، والأمر المؤكد هو أن أشباح التطرف قد عادت بالفعل إلى منطقة تعاني أصلًا من عدم الاستقرار.
*دَرَس محمد لقمان دراسات العالم الإسلامي في مركز دراسات الشرق الأدنى والأوسط في جامعة ماربورغ الألمانية مع التركيز بصورة خاصة على الإسلام في جنوب آسيا، ويُعِدُّ حاليًا (2021) أطروحة الدكتوراه عن العلاقة بين الدين والنزعة القومية في باكستان.

الغد