تتسم العلاقات الروسية التركية بالهشاشة، إذ يحيط بتحالفاتهما كثير من التنافس والمخاوف المبنية على عدم ثقة الطرفين تجاه بعضهما بعضا؛ هذا ظهر في قمّة سوتشي، الأسبوع الماضي، بين الرئيسين، الروسي فلاديمير بوتين والتركي رجب طيب
أردوغان، والتي ناقشت قضايا عسكرية واقتصادية وسياسية. تستغل واشنطن هذا التحالف الهشّ بين تركيا وروسيا، الراغبتين في زيادة نفوذهما الإقليمي، لإرباك الطرفين، والإمساك بكل خيوط تحالفاتهما، لضمان تنفيذ الأجندة الأميركية في المنطقة، خصوصا بعد أن اتخذت واشنطن، ومنذ عهد الرئيس أوباما، استراتيجية جديدة لتخفيف حضورها في الشرق الأوسط وآسيا الوسطى، وتعزيز وجودها في الباسيفيك، على اعتبار أن مواجهة خطر الصين الاقتصادي باتت أولوية لها.
تطمح كل من روسيا وتركيا إلى استعادة أمجادهما الغابرة، حين كانتا إمبراطوريتين ذات نفوذ، وتستغلان فرصة الرغبة الأميركية في الانسحاب والانكفاء، لملء الفراغ، ما أوجد صراعاتٍ بين الطرفين، تديرها واشنطن، عبر تنسيق ثنائي مع كل طرف. تعترف واشنطن بأن سورية منطقة نفوذ روسي، ولم تمانع استعادة سيطرة النظام بدعم روسي، وحتى إيراني، على مناطق واسعة، وجديدها الجنوب، حيث كانت سياستها تقوم على إضعاف الدور التركي والمعارضة السورية، وامتلاك أوراقٍ للإمساك بقدرة روسيا على الانفراد بمستقبل سورية، وعدم جعلها منصّة للانطلاق إلى نفوذ أوسع في المنطقة غير مضبوط وفق الإيقاع الأميركي.
تحالف أستانة الثلاثي الخاص بسورية، بمشاركة إيران إلى جانب روسيا وتركيا، تم بمباركة أميركية
وبناءً على ذلك، تتمسّك السياسة الأميركية بمنع روسيا والنظام من الاستفادة من الثروات السورية في الشرق، والإبقاء على بعض الجنود قرب حقول النفط، ودعم “قوات سوريا الديمقراطية”. وكذلك تدعم واشنطن تركيا في بعض الملفات، للضغط على روسيا، حيث سمحت لها بعملية نبع السلام شرق الفرات، والسيطرة على جزء من الحدود وبعمق 32 كيلومتراً. ووقفت إدارة ترامب إلى جانب تركيا في منع توغل روسيا ومليشيات النظام وإيران في إدلب إلى شمال الطريق الدولي إم 4، ودفعت باتجاه اتفاق موسكو في مارس/ آذار 2020، لوقف إطلاق النار وتثبيت خطوط التماسّ. وتوصلت إدارة بايدن مع روسيا إلى صيغة في الأمم المتحدة بشأن تمديد العمل بقرار إدخال المساعدات الأممية عبر معبر باب الهوى فقط، وعبر دمشق مروراً بخطوط التماس، الأمر الذي أزعج تركيا الرافضة أي تطبيع مع نظام الأسد، كونه يُضعف دور المعارضة السورية التي تدعمها. وبالأصل، كان تحالف أستانة الثلاثي الخاص بسورية، بمشاركة إيران إلى جانب روسيا وتركيا، قد تم بمباركة أميركية، حيث كان هناك حضور أميركي بصفة مراقب، في مؤتمر أستانة الأول؛ والغرض تمكين روسيا والنظام من السيطرة على مناطق المعارضة.
من الأوراق التي تحاول روسيا امتلاكها هي زيادة التنسيق مع “قوات سوريا الديمقراطية”، بتوجيه أميركي
يمكن القول إن لروسيا اليد العليا على تركيا في الملف السوري، وقد تعمّدت موسكو التصعيد في الشمال الغربي لسورية، والذي شمل لأول مرة الفصائل المعارضة المدعومة من تركيا، وذلك قبيل قمة سوتشي أخيرا مع أنقرة؛ فروسيا تتضايق من مطامح تركيا لتوسيع نفوذها في ليبيا، ومن زيادة التنسيق التركي المصري الذي أدّى إلى تقارب طرفي الصراع في ليبيا، وكذلك تتلاقى تركيا ومصر في منافسة روسيا على سوق الطاقة الأوروبية. وفي آسيا الوسطى، نجحت أنقرة في دعم حكومة أذربيجان، مستغلّة العامل الديني، سعياً إلى السيطرة على طرق نقل الطاقة إلى أوروبا، أو بالتواصل مع حركة طالبان، وتحاول فتح مطار كابول، بالتنسيق مع واشنطن، إضافة إلى إنشاء المجلس التركي الذي يضم دولاً تتشارك مع تركيا في الدين والقومية، وتشكل طوقاً يحيط بروسيا، وكذلك محاولات أنقرة التنقيب عن الطاقة في البحرين، المتوسط والأسود، ما يثير مخاوف موسكو، ويدعوها إلى البحث عن أوراق ضغط إضافية على تركيا.
واحدةٌ من هذه الأوراق التي تحاول روسيا امتلاكها هي زيادة التنسيق مع “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد)، بتوجيه أميركي؛ وقد وعدت موسكو الإدارة الذاتية بإعطائهم لامركزية موسّعة، وذلك ضمن مساعيها الحثيثة أخيرا، لحسم مسألة تشكيل دستور جديد لسورية. هذا يعني أن بمقدور روسيا إزعاج تركيا متى شاءت، عبر تهديد أمنها القومي بعناصر حزبي الاتحاد الديمقراطي (الكردي) والعمال الكردستاني الموجودين ضمن تشكيل “قسد”. هذا غير التصعيد الذي ما زال مستمراً في إدلب، ويهدّد بموجة نزوح إضافية إلى الحدود التركية، ما يثير مخاوف أنقرة. وقد تحدّث أردوغان في مؤتمره الصحافي، بعد القمة، عن نية تركية لإعادة لاجئين إلى الأراضي السورية، لاستجداء دعم أوروبي وأميركي للموقف التركي في إدلب، بحجّة منع سيناريو التهجير.
لا تأمن تركيا الجانب الروسي لإنشاء تحالف قوي معه، خصوصا أن معظم مناطق النفوذ متنازع عليها بينهما
تسعى روسيا وتركيا، على الرغم من حالة المنافسة هذه، إلى زيادة حجم التبادل التجاري بينهما، والذي تجاوز، حسب تصريحات الرئيس أردوغان أخيرا، 21 مليار دولار، ضمن مساعٍ لوصوله إلى مائة مليار دولار، وهناك مشروع مدّ خطي الغاز الروسيين، إلى تركيا (ترك ستريم)، وإلى أوروبا عبر تركيا (السيل التركي)، وثلاث محطّات للطاقة النووية، وحوار حول كيفية بناء الطرق في ممر زانجيزور عبر الأراضي الأرمينية، حيث يعيق ذلك الخلاف حول إقليم كره باخ. الأهم المساعي الروسية إلى إبعاد تركيا عن حلف شمال الأطلسي (الناتو)، عبر المضي بصفقة صواريخ إس 400 الروسية لتركيا، وهناك حديث عن دفعة جديدة من هذه المنظومة الدفاعية؛ فأنقرة تشعر بخذلان “الناتو” لها، وغاضبة من دعم الولايات المتحدة والتحالف الدولي تنظيم حزب العمال الكردستاني والوحدات الكردية، وهي تبحث عن بدائل ممكنة، قدّمها لها العرض الروسي بصفقة المنظومة الدفاعية.
لا تأمن تركيا الجانب الروسي لإنشاء تحالف قوي معه، خصوصا أن معظم مناطق النفوذ متنازع عليها بينهما. وبالنسبة لها الحليف الأميركي مضمون أكثر، وهي لا تسعى إلى ترك حلف الناتو، وبالتالي ضربه، حيث يُعتبر الجيش التركي ثاني أقوى جيوش الحلف، بعد الأميركي؛ بل تريد تركيا من صفقات التسلح مع روسيا الضغط على الولايات المتحدة للنظر بعلاقتها بتركيا، والتي تشهد تراجعاً كبيراً في عهد الرئيس بايدن، وقد طالب الرئيس أردوغان واشنطن بإعادة المبالغ التي دفعتها بلاده على تطوير طائرة إف 35، في محاولة لتوجيه رسالةٍ إلى إدارة بايدن لاتخاذ موقف أكثر وضوحاً بشأن الحفاظ على تحالفها مع تركيا.
تريد واشنطن إلهاء كل من موسكو وأنقرة، وكذلك طهران، بالصراعات البينية على ملفاتٍ ذات أهمية أقل بالنسبة لها، مثل أفغانستان وليبيا وسورية والقوقاز، وهي تحقق بذلك غاية مزدوجة، بإجبار الطرفين على تنفيذ سياساتها في المنطقة، ولامتلاك أوراق لضرب أي تحالفاتٍ قويةٍ يمكن للصين أن تنشئها، وتهدّد بها المصالح الأميركية.
العربي الجديد