من الشائع أن الحرب العالمية الثانية اشتعلت شرارتها بسبب توسع بلدان المحور، لا سيما ألمانيا وإيطاليا واليابان، وسعي الحلفاء إلى صد هذا التوسع، لكن المؤرخ البريطاني المتخصص في هذا النزاع الذي دار بين 1939 و1945، ريتشارد أوفيري، في كتاب صدر أخيراً، يشكك في هذه النظرية ويطرح نظرية بديلة، لقد كانت السياسات التي اتبعتها الدول الثلاث من نتائج الأزمة بقدر ما كانت أسباباً لها. ويقول في كتابه، “دماء وأنقاض: الحرب الإمبريالية الكبرى، 1931-1945” (صدر عن ألن لاين للنشر في 1040 صفحة)، إن من المنطقي أكثر اعتبار أن الحرب بدأت في الصين مطلع ثلاثينيات القرن الـ 20 وانتهت هناك إلى جانب جنوب شرق آسيا وأوروبا الشرقية والشرق الأوسط بعد عقد من عام 1945.
ووفق مراجعة للعمل نشرتها مجلة “إيكونوميست”، يعزو السيد أوفيري أسباب هذه الحرب إلى ذروة الاستعمار الأوروبي في أواخر القرن الـ 19، وسرعان ما أصبحت الحرب السبب الأبرز لسقوط هذا الاستعمار، وهو يقتبس عنوان كتابه من ليونارد وولف، العضو في مجموعة “بلومزبيري” للمفكرين التي برزت في المملكة المتحدة خلال العقود الأولى من القرن الـ 20، فوولف كتب عام 1928 يقول، “لم تعد الإمبريالية كما عرفت في القرن الـ 19 ممكنة بعد الآن، والسؤال الوحيد المطروح هو هل ستُدفن بسلام أم في دماء وأنقاض”.
ومن أبرز الدوافع إلى الحرب العالمية الثانية، يشير السيد أوفيري إلى تسوية عام 1919 التي أبرمت بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى (1914-1918)، فقد اعتبرتها ألمانيا وإيطاليا واليابان غير منصفة لها، إذ اقتصرت عموماً على الحفاظ على الإمبراطورتين البريطانية والفرنسية وتوسيعهما. ويلفت إلى أن الأفكار المتعلقة بالتفوق العرقي التي راجت في البلدان الثلاثة ودفعت طموحاتها التوسعية لم تكن مختلفة كثيراً عن الأفكار الكامنة في الإمبراطوريتين، وهو يعتبر أن سياسة الترضية (هو يفضل “الاحتواء”) التي اتبعتها بريطانيا وفرنسا في الثلاثينيات في تعاملهما مع البلدان الثلاثة عكست تعاطفاً مع هذه الطموحات إلى جانب محاولة “لم تكن متماسكة أحياناً” للجم “الاضطراب الدولي المتزايد ورغبة الدولتين في حماية الوضع الإمبريالي القائم”.
لكن سياسة الترضية باءت بالفشل، على ما يرى السيد أوفيري، فالمشكلة كانت تكمن في طبيعة التوسعات الإمبريالية كلها، وفق “إيكونوميست”، فكل تسوية عززت الشهية إلى مزيد من التوسع، لا سيما مع اعتبار ألمانيا وإيطاليا واليابان أن بريطانيا وفرنسا دخلتا في تراجع نهائي. وتعززت هذه القناعة مع الانهيار الغربي إثر اجتياح ألمانيا النازية لبولندا وإبرام ألمانيا وإيطاليا واليابان في 27 سبتمبر (أيلول) 1940 الاتفاق الثلاثي الذي أسس “نظاماً جديداً” تكون فيه للبلدان الثلاثة إمبراطوريات في أوروبا، وحوض البحر المتوسط وأفريقيا، وشرق آسيا على التوالي، ولم تكترث البلدان الثلاثة في أوهامها إلى حقيقتين، أولاهما أن الإمبراطورية البريطانية لم تقر بالهزيمة وثانيهما أن الولايات المتحدة كانت تستعد للتدخل الاقتصادي من خلال برنامج الإعارة والتأجير الذي مدت به الحلفاء بالسلاح والمؤن قبل أن تشارك فعلياً في الحرب.
GettyImages-56465292.jpg
جنود روس خلال نقلهم إلى ساحات القتال في الحرب العالمية الثانية ( غيتي)
ورأت دول المحور بحسب الكتاب مهمتها الإمبريالية مقتصرة على نهب الموارد والاستيطان على حساب السكان المحليين الذين اعتبرتهم في الأغلب أقل من البشر، لكن مواطنيها الذين تشجعوا على الاستيطان في البلدان المحتلة كانوا قلائل، كما أن استغلال الموارد في هذه البلدان كان صعباً بسبب ظروف الحرب، فعلى سبيل المثل، في حقول النفط في القوقاز، التي توقع الزعيم الألماني أدولف هتلر أن تمد آلته الحربية بالوقود، لم يُستخرج سوى قليل من النفط قبل أن يغادر الألمان المنطقة أوائل عام 1943.
وبرزت أوهام لدى الحلفاء أيضاً، وفق السيد أوفيري، فرئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرشل حذر عن حق من أن انتصار قوى المحور سيغرق العالم في عصر مظلم جديد، لكنه كان متمسكاً بالإمبراطوريات الأوروبية القديمة، في تناقض مع السياسة الدولية الليبرالية التي انتهجها الرئيس الأميركي فرانكلين روزفلت وعبر عنها عند توقيع ميثاق الأطلسي عام 1941. وبسبب تضمن الميثاق التزاماً بحق الشعوب في تقرير المصير، وقعه تشرشل متردداً. وفي حين كانت بريطانيا تعتقل عشرات آلاف القوميين في الهند عام 1942 ولا تتردد في إطلاق النار على المتظاهرين هناك، كانت الولايات المتحدة لا تفي بخطاب روزفلت، فالتمييز العنصري الذي كان يشوب البلاد وصل إلى صفوف القوات المسلحة، إذ ظل سلاح البحرية مقتصراً على البيض حتى عام 1942، ولم يزد عدد ضباط الجيش السود عن اثنين في المئة، في حين كان عمل الجنود السود مقتصراً على العمل اليدوي أو الخدمي.
ويلفت الكتاب إلى أن لندن وواشنطن لم تهتما كثيراً بإنقاذ يهود أوروبا، ففي هذا الشأن، يقول السيد أوفيري، أبدت الحكومة البريطانية ” قسوة كذبت تماماً الادعاء بأن البريطانيين كانوا يقاتلون من أجل قيم [مُثل عليا]”. ويهتم العمل بالمحيط الهادئ وشرق آسيا بقدر ما يهتم بأوروبا، ويتناول تكيف البلدان المتقاتلة اقتصادياً، وأثر الحرب في مواطنيها بصفتهم مشاركين فيها وضحايا لها. وتلفت “إيكونوميست” إلى وزن تقنيات القتال، فالتكنولوجيا والتصنيع في الولايات المتحدة وبريطانيا مكنا جيشي البلدين من معادلة التفوق الميداني الذي أبداه الجيش النازي.
وتقوّم “إيكونوميست” الكتاب بالقول إنه يفرط في التفاصيل أحياناً، لكن القارئ الأكثر تخصصاً ينتهي منه وقد اكتسب معلومات إضافية. وفي الفصل الأخير يستعرض المؤرخ جرائم الحرب وبشاعاتها، وهو فصل اعتبرت المجلة قراءته مرهقة، مشيرة إلى أن قدرة الناس العاديين على ارتكاب البشاعات ليست مفاجئة، لكن مقدار الوحشية في هذه البشاعات لا يزال عصياً على الاستيعاب.
ويكرس الكاتب الفصل الأخير للعقد التالي لعام 1945 وهو عقد شكل العالم كما نعرفه اليوم، فهل حلت الإمبراطوريتان الأميركية والسوفياتية محل البريطانية والفرنسية بكل بساطة؟ يجيب السيد أوفيري بلا، لكن المجلة ترى أن زعمه بأن الهيمنة السوفياتية على أوروبا الشرقية افتقرت إلى المواصفات التي تسم الإمبراطوريات غير مقنع كثيراً، بيد أنها تلفت إلى أن هذا النقد بسيط، فالعمل “رائع ويعكس القدرة البحثية والفهم الإنساني العميقين لدى مؤرخ وقور”.
اندبندت عربي