يعيش لبنان أزمة مستعصية منذ سنوات، ما من مؤشر واضح إلى خلاص قريب منها، بل بالعكس الأزمة تزداد تعقيداً في جميع الحقول، والصراع على أشده بين أطراف سياسية عدّة.
لعلني، وغيري كثر، ممن يعتقدون أن لا حل للأزمة المزمنة في ظلِّ نظام المحاصصة الطائفية القائم، والمنظومة السياسية الهرمة التي تديره، غير أن ثمة ضغوطاً متعاظمة من الشعب المقهور بالفقر والغلاء والشح المتزايد في الأغذية والأدوية والكهرباء والوقود، والمستنزَف بهجرة العقول والكفاءات والاختصاصيين، ولاسيما الأطباء والممرضين. كل هذه المصائب والمصاعب دفعت قلّةً من المسؤولين وكثرةً من المواطنين إلى البحث عن مخارج آمنة من الأزمة.
بين هؤلاء الباحثين عن مخرج لائق يتبدّى موقفان، وتجري مداولة بخيارٍ استثنائي في هذا المجال. الموقف الأول قديم وتقليدي. إنه انتظار الترياق من الغرب عموماً ومن الولايات المتحدة خصوصاً. ثمة دافعان وراء هذا التوجّه: مصالح اقتصادية ونزعة ثقافية متجذّرة.. المصالح لها أهلها من محتكرين وأصحاب مصارف وتجار ومقاولين ووسطاء ووكلاء وعملاء. الثقافة قديمة راسخة، إنها ثقافة الغرب، الأوروبي والأمريكي، بثها منذ أواسط القرن التاسع عشر من خلال مدارس وجامعات ومؤسسات اقتصادية وثقافية أجنبية، انتجت أجيالاً من الطلاب والمتعلمين والمثقفين والمهنيين والسياسيين، الذين يعتبرون الغرب، بكل وجوهه، مصدر حضارة ورقي وإلهام. التطلّع إلى أمريكا، وجزئياً إلى فرنسا، التماساً لمخرجٍ من الأزمة لا يعني بالضرورة أن تقوم هاتان الدولتان بتوفير المال والوسائل اللازمة للإنقاذ والنهوض من مواردهما الذاتية، بل باستخدام نفوذهما وتأثيرهما في مؤسسات عالمية كالبنك الدولي، وصندوق النقد الدولي، ووكالات الأمم المتحدة، كما على شركات عملاقة خاصة معنية بالاستثمار في دول أجنبية. في هذا المجال، تضغط الولاياتُ المتحدة باستمرار من أجل أن يجد لبنان مخرجاً لأزمته من خلال التفاوض والاتفاق مع صندوق النقد الدولي.
مسؤولون وسياسيون وخبراء يقترحون مخرجا قوامه، تمكين لبنان من التعامل والتعاون مع أمريكا وإيران معاً لتسهيل خروجه من أزمته
الموقف الثاني من الأزمة وسبيل الخروج منها، تنادي به قوى سياسية وخبراء اقتصاديون معارضون للغرب عموماً، ولأمريكا خصوصاً، لأن الأخيرة لم تستطع، أو ربما ما أرادت توفير مخرجٍ لائق من الأزمة لدافعٍ سياسي فاقع هو عداؤها، بتحريض من الكيان الصهيوني، لحزب الله وحلفائه. هذه القوى المعادية لأمريكا وحلفائها المحليين ترى المخرج الآمن من الأزمة المستعصية بالتوجّه شرقاً والتعامل والتعاون مع الصين وروسيا وايران، كما مع الدول العربية الراغبة في ذلك. في هذا السياق، أقدم حزب المقاومة، بعد تفاقم أزمة الشحّ في الوقود، على استيراد مشتقات نفطية من إيران بالليرة اللبنانية، وقام بتوزيع كميات من المازوت على المستشفيات ودور الأيتام لتمكينها من تشغيل مرافقها. غير أن التطور الأبرز في هذا المجال تبدّى مؤخراً بزيارة قام بها وزير خارجية إيران حسين أمير عبد اللهيان إلى لبنان، وجال خلالها على رئيس الجمهورية ميشال عون، ورئيس مجلس النواب نبيه بري، ورئيس الحكومة نجيب ميقاتي، وختمها بمؤتمر صحافي أكد خلاله استعداد إيران لمساعدة لبنان للعبور من أزمته بالتدابير الآتية:
استثمارات إيرانية أو لبنانية – ايرانية مشتركة لبناء معملين لإنتاج الكهرباء، واحد في بيروت والآخر في الجنوب.
الاستمرار في توريد المشتقات النفطية إلى لبنان، سواء من خلال اتفاقات بروتوكولية مع الحكومة اللبنانية، أو استجابة لطلبٍ من حزب الله.
تأمين حاجات لبنان من الأغذية والأدوية والمستحضرات الطبية.
إنشاء مترو الأنفاق
كما تَرَدد أن إيران مستعدة أيضاً للمشاركة في التنقيب عن النفط والغاز في مكامنهما بالمياه الإقليمية اللبنانية.
رئيس الحكومة نجيب ميقاتي لفت وزير الخارجية الإيراني، إلى أن لبنان يخشى من تفعيل الولايات المتحدة العقوبات الاقتصادية ضده إذا ما تعاون مع إيران اقتصادياً. لكن عبد اللهيان نصحه بأن يقوم لبنان بمطالبة أمريكا بإعفائه من أحكام «قانون قيصر» المتعلق بعقوبات ضد سوريا، كما فعلت مؤخراً عندما أجازت تمرير الغاز المصري والكهرباء الأردنية إلى لبنان عبر الأراضي السورية. إلى ذلك، فإن القوى السياسية المطالبة بالتوجّه شرقاً للتعاون مع الصين وروسيا وإيران أبدت، بلسان نائب الأمين العام لحزب الله الشيخ نعيم قاسم، عدم ممانعتها في التعاون مع أيّ دولة أو مؤسسة دولية، بما فيها صندوق النقد الدولي، شريطة عدم المساس باقتصاد لبنان ومصالحه. في ضوء هذه المعطيات والتطورات، برز ما يمكن تسميته خيار استثنائي للخروج من أزمة لبنان المستعصية، يتداوله مسؤولون وسياسيون وخبراء يستشعرون خطورة الأزمة، وضرورة الخروج منها أو، في الأقل، التخفيف من وطأتها بهندسة مخرجٍ قوامه، تمكين لبنان من التعامل والتعاون مع أمريكا وإيران معاً لتسهيل خروجه من أزمته. يُقدّم هؤلاء حججاً وأدلة لترجيح موافقة الولايات المتحدة وحلفائها المحليين على اعتماد هذا المسار، يقولون إن أمريكا تبدو، بعد خروجها المهين من أفغانستان، جادّة في انتهاج سياسة جديدة لتموضعها في دول غرب آسيا، وإنها في هذا السياق أقدمت على تعليق أحكام «قانون قيصر» لتسهيل نقل الغاز المصري والكهرباء الأردنية إلى لبنان عبر سوريا، بعدما أدركت أنها وسواها من دول الغرب الأطلسي غير قادرة على تقديم حل سريع لمشكلة شح الوقود والطاقة الكهربائية في لبنان. ويقول هؤلاء أيضا إن أمريكا وإيران تتجهان في مفاوضات فيينا للعودة إلى الاتفاق النووي، ما يمنح لبنان هامشاً أوسع لحرية الحركة في بحثه عن وسائل ومشاريع للخروج
من أزمته
صحيح أن دون هذا الخيار الاستثنائي عقبات شتى أبرزها تخوّف «إسرائيل» (ومثلها أمريكا) من تداعيات انعكاس تعاون لبنان مع إيران لمصلحة حزب الله واستقوائه تالياً على سائر أطراف المشهد السياسي، كما على الكيان الصهيوني. لكن أمريكا، كما «إسرائيل» تدركان أنه باعتماد هذا الخيار الاستثنائي أو من دونه ستبقى إيران قادرة على مساعدة لبنان بتزويده مشتقات نفطية بمجرد دعوةٍ من حزب الله، وقد أشار إلى ذلك بلا مواربة وزير خارجيتها عبد اللهيان خلال زيارته للبنان.
أليس الكحل خير من العمى؟
القدس العربي