ثمة إجماع سائد في واشنطن وخارجها مفاده أن الصين تنطلق بقوة متجاوزةً الولايات المتحدة. وفي ذلك السياق، ذكر الرئيس جو بايدن أنه “إذا لم نتحرك، فسيأكلون غداءنا [أي سيتفوقون علينا]”. لذا، تستعد الدول في كل مكان وفق تعبير دبلوماسي آسيوي، لأن تحتل الصين “المركز الأول”.
في الواقع، تدعم ذلك الرأي أدلة كثيرة. فقد ارتفع الناتج المحلي الإجمالي الصيني بمقدار 40 ضعفاً منذ 1978، كذلك تمتلك الصين أكبر احتياطيات مالية في العالم، وفائضاً تجارياً، واقتصاداً يقاس من خلال التعادل في القوة الشرائية، وقوة بحرية تقاس بعدد السفن. وبينما تترنح الولايات المتحدة بسبب خروجها المخزي من أفغانستان، تتحرك الصين بشراسة لتشكيل آسيا متمحورة حول الصين، والحلول، بدلاً من واشنطن في قمة التسلسل الهرمي العالمي.
ولكن، إذا بدت بكين على عجلة من أمرها، فلأن نهوضها شارف على نهايته، إذ لقي صعود الصين طيلة عقود عدة دعماً من رياح خلفية قوية أصبحت الآن رياحاً معاكسة. في الحقيقة، تخفي حكومة الصين تباطؤاً اقتصادياً خطيراً، وتنزلق مرة أخرى إلى نظام شمولي هش. كذلك، تعاني البلاد ندرة حادة في الموارد وتواجه أسوأ انهيار ديموغرافي في زمن السلم عبر التاريخ. وليس آخر الأسباب أن الصين تفقد إمكانية الوصول إلى ذلك العالم الذي رحب بها ومكّنها من التقدم.
إذاً، نرحب بكم في عصر “ذروة الصين”. وبشكل قوي، تمثل بكين قوة تعديل قوامه إعادة النظر في الأشياء، وتريد إعادة تشكيل العالم، لكن وقتها لفعل ذلك قد بدأ ينفد. وفي المقابل، لا ينبغي لذلك الإدراك أن يحفز واشنطن على الرضا عن النفس، بل العكس تماماً، إذ إن القوى التي حققت نهضة في يوم من الأيام تصبح عدوانية في كثير من الأحيان حينما تتلاشى ثرواتها، ويتضاعف أعداؤها. وتتبع الصين مساراً غالباً ما ينتهي بمأساة، وقوامه نهوض مذهل يتبعه شبح السقوط الشديد.
صنع معجزة
شرعت الصين في النهوض منذ فترة طويلة إلى حد أن عديداً من المراقبين يعتقدون أن صعودها أمر لا مفر منه. في الواقع، تعتبر العقود القليلة الماضية من السلام والازدهار، شذوذاً تاريخياً نتج عن عدة نزعات عابرة.
في البداية، تمتعت الصين ببيئة جيوسياسية آمنة إلى حد كبير وعلاقات ودية مع الولايات المتحدة. وخلال معظم تاريخها الحديث، حكم عليها موقعها الضعيف على مفصل أوراسيا والمحيط الهادي، بالصراع والمصاعب. ومنذ حرب الأفيون الأولى سنة 1839، وحتى نهاية الحرب الأهلية الصينية في 1949، مزقت القوى الإمبريالية البلاد. وبعد أن توحدت الصين تحت الحكم الشيوعي في 1949، واجهت عدائية أميركية شديدة، وعانت بكين عداوة القوتين العظميين بعد انهيار التحالف الصيني – السوفياتي في ستينيات القرن العشرين. وتحت وطأة العزل والحصار، سقطت الصين ضحية الفقر والنزاع.
إذا بدت بكين على عجلة من أمرها، فلأن نهوضها شارف على نهايته.
بعد ذلك، أدى الانفتاح على الولايات المتحدة في 1971 إلى كسر ذلك النمط، وأصبح لدى بكين فجأة حليف من القوى العظمى. وحذرت واشنطن موسكو من مهاجمة الصين، وسرعت اندماج بكين في العالم الأوسع. ومع حلول منتصف السبعينيات من القرن العشرين، تمتعت الصين بوطن آمن وإمكانية الوصول إلى الأسواق ورؤوس الأموال الأجنبية، وقد حدث ذلك في توقيت مثالي. وبين عامي 1970 و2007 قفزت التجارة العالمية ستة أضعاف. وركبت الصين زخم العولمة كي تصبح مشغلاً عالمياً.
في الواقع، تمكنت الصين من فعل ذلك لأن حكومتها التزمت إلى حد كبير بالإصلاح. وبعد وفاة ماو تسي تونغ في 1976، وضع “الحزب الشيوعي الصيني” حدوداً زمنية لفترة الولاية الرئاسية، إضافة إلى قيود أخرى على كبار قادته. وبدأ يكافئ الجدارة التكنوقراطية والأداء الاقتصادي الجيد، وكذلك سمح للمجتمعات الريفية بإقامة مشاريع ضمن قوانين مرنة. وتوسعت المناطق الاقتصادية الخاصة في جميع أنحاء البلاد. وسمح للشركات الأجنبية بالعمل بحرية. واستعداداً للانضمام إلى “منظمة التجارة العالمية” في 2001، تبنت بكين أنظمة قانونية معاصرة وجباية ضريبية حديثة. إذاً، فقد امتلكت الصين الحزمة الصحيحة من السياسات كي تزدهر في عالم مفتوح.
إضافة إلى ذلك، حازت الصين النوع المناسب من السكان. فقد شهدت أكبر عائد ديموغرافي في التاريخ الحديث. في العقد الأول من القرن العشرين، شغلت الصين ما معدله عشرة أشخاص بالغين في سن العمل مقابل مواطن واحد مسن. وبالمقارنة، يصل متوسط ذلك الرقم في معظم الاقتصادات الكبرى إلى قرابة الخمسة.
جاءت تلك الميزة الديموغرافية نتيجة عفوية من تقلبات السياسة الجامحة. في الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين، شجع “الحزب الشيوعي الصيني” النساء على إنجاب عدة أطفال بهدف زيادة عدد السكان الذين أهلكتهم الحرب والمجاعة. وارتفع عدد السكان بنسبة 80 في المئة خلال 30 عاماً، لكن في أواخر سبعينيات ذلك القرن، ضغطت بكين على المكابح، ومنعت إنجاب أكثر من طفل في كل أسرة. نتيجة لذلك، أصبحت الصين في تسعينيات القرن العشرين وفي السنوات الأولى من القرن 21، تتميز بقوة عاملة ضخمة مع عدد قليل نسبياً من كبار السن أو الأطفال المحتاجين للرعاية. بالتالي، لم يكن هناك أي شعب آخر أكثر استعداداً للإنتاجية.
لم تكن الصين بحاجة إلى كثير من المساعدة الخارجية كي تزود مواطنيها بالغذاء والماء، إضافة إلى توفير معظم المواد الخام لصناعاتها. والجدير بالذكر أن سهولة الوصول إلى تلك الموارد، إضافة إلى العمالة الرخيصة والحماية البيئية الضعيفة، حولت البلاد إلى قوة صناعية.
تأتي الثروات مرة واحدة في العمر، لكنها لا تدوم إلى الأبد. وفي العقد الماضي، تحولت المزايا التي ساعدت الصين ذات مرة على الارتفاع عالياً، التزامات تجرها إلى الأسفل.
وبدايةً، إن موارد الصين تنفد. لقد اختفى نصف أنهارها، وترك التلوث 60 في المئة من مياهها الجوفية “غير صالح للاستعمال البشري”، باعتراف الحكومة نفسها. كذلك جعلها التطور الذي حدث بسرعة خطيرة، أكبر مستورد صافٍ للطاقة عالمياً. في المقابل، يشهد الأمن الغذائي تدهوراً. في الحقيقة، دمرت الصين 40 في المئة من أراضيها الزراعية من خلال الإفراط في الاستخدام، وأصبحت أكبر مستورد للمنتجات الزراعية في العالم. وبسبب ندرة الموارد، صار النمو مكلفاً للغاية، إذ بات تحقيقه يستلزم من الصين أن تستثمر ثلاثة أضعاف رأس المال الذي استثمرته في السنوات الأولى من القرن العشرين، ما يشكل زيادة تفوق بكثير ما يكون متوقعاً لدى نضوج أي اقتصاد.
وتجدر الإشارة إلى أن عدد الناس في الصين يتضاءل بسبب سياسة الطفل الواحد. وبين عامي 2020 و2035، ستفقد الصين ما يقرب من 70 مليون بالغ في سن العمل، وسيصبح لديها 130 مليوناً من كبار السن. ويعادل ذلك عدد السكان المستهلكين ودافعي الضرائب والعاملين في فرنسا، وكذلك عدد سكان اليابان من المتقاعدين، في 15 عاماً. بين 2035 و2050، ستفقد الصين 105 ملايين عامل إضافي، وستحظى بـ64 مليوناً من كبار السن. وستكون العواقب الاقتصادية وخيمة. وفي ذلك الإطار، تشير التوقعات الحالية إلى أن الإنفاق المرتبط بالعمر يجب أن يتضاعف ثلاث مرات مع حلول سنة 2050، بمعنى أن يرتفع من عشرة إلى 30 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي. ومن أجل تكوين وجهة نظر واضحة، يبلغ إجمالي الإنفاق الحكومي الصيني حالياً نحو 30 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي.
في العقد الماضي، تحولت المزايا التي ساعدت الصين ذات مرة على الارتفاع عالياً، التزامات تجرها إلى الأسفل.
وسيكون التعامل مع هذه المشكلات صعباً بشكل خاص لأن الصين يحكمها الآن ديكتاتور يستمر في التضحية بالكفاءة الاقتصادية من أجل السلطة السياسية، إذ تولد الشركات الخاصة معظم ثروة البلاد، لكنها في ظل حكم الرئيس شي جينبينغ، باتت محرومة من رأس المال. في المقابل، تحصل الشركات غير الفاعلة المملوكة للدولة على 80 في المئة من القروض والإعانات الحكومية. كذلك قاد رواد الأعمال المحليون ازدهار الصين، لكن حملة الرئيس شي لمكافحة الفساد أخافت القادة المحليين من الانخراط في التجارب الاقتصادية. لقد حظرت حكومته بشكل أساسي الأخبار الاقتصادية السلبية، ما جعل الإصلاحات الذكية شبه مستحيلة، بينما أدت موجة من القوانين التنظيمية ذات الدوافع السياسية إلى كبح الابتكار.
نظراً لأن الصين صارت أكثر حزماً واستبداداً، فقد أصبح العالم أقل تشجيعاً للنمو الصيني. ونتيجة لذلك، واجهت بكين آلاف الحواجز التجارية الجديدة منذ الأزمة المالية سنة 2008. واستطراداً، تعمل معظم الاقتصادات الكبرى في العالم على عزل شبكات اتصالاتها عن النفوذ الصيني. وكذلك، تتطلع أستراليا والهند واليابان ودول أخرى إلى استبعاد الصين من سلاسل التوريد الخاصة بها.
ورطة اقتصادية
مع نهاية الإجازة التي أخذتها الصين من التاريخ على مدار أربعة عقود، تواجه الآن اتجاهين يمثلان نهاية نهوضها، هما تباطؤ النمو والتطويق الاستراتيجي.
وبسبب مشكلات متراكمة، دخل الاقتصاد الصيني في فترة التباطؤ الأطول أمداً في حقبة ما بعد ماو. أولاً، انخفض معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي الرسمي للصين من 15 في المئة سنة 2007 إلى ستة في المئة سنة 2019، قبل أن يؤدي فيروس كورونا إلى انخفاض النمو إلى ما يزيد قليلاً على 2 في المئة سنة 2020، ولكن حتى هذه الأرقام مبالغ فيها، إذ تظهر الدراسات الدقيقة أن معدل النمو الفعلي للصين يمكن أن يكون بمقدار نصف الرقم الذي صرحت الحكومة عنه.
والأسوأ من ذلك، أن معظم نمو الناتج المحلي الإجمالي للصين منذ 2008 نتج عن تغذية الحكومة القسرية لرأس المال من خلال الاقتصاد. وإذا أخرجنا الإنفاق التحفيزي من الحساب، نرى أن اقتصاد الصين بالكاد ينمو. كذلك انخفضت الإنتاجية التي تشكل العنصر الرئيس في تكوين الثروة، بنسبة 10 في المئة بين عامي 2010 و2019، ما يمثل أسوأ تراجع تشهده قوة عظمى منذ الاتحاد السوفياتي في ثمانينيات القرن العشرين.
وفي الأمكنة كلها، تتوفر المؤشرات الدالة على ذلك النمو غير المنتج. في الواقع، تضم الصين أكثر من 50 مدينة أشباح، هي مراكز حضرية تحتوي طرقاً سريعة ومنازل، لكنها خالية من الناس. كذلك، لن تعوض نحو ثلثي مشاريع البنية التحتية في الصين تكاليف بنائها مطلقاً. ومن غير المستغرب أن تأتي النتيجة على هيئة ديون خارجة عن السيطرة. لقد قفز إجمالي ديون الصين ثمانية أضعاف بين عامي 2008 و2019. ونحن نعلم كيف تنتهي تلك القصة، فتظهر فقاعات مستندة إلى الاستثمارات، ثم تنزلق الأمور في منحدر طويل الأمد. في اليابان، أدى الإقراض المفرط إلى فقدان ثلاثة عقود من النمو الضئيل. وفي الولايات المتحدة، تسبب ذلك في “التباطؤ العظيم” [الأزمة المالية في 2008]. وبالنظر إلى حجم جبل ديون الصين، فإن التباطؤ قد يكون أسوأ [مما شهدته الولايات المتحدة]. وربما تعتبر المشكلات التي تواجهها الآن شركة “إيفرغراند” للتطوير العقاري الصيني المثقلة بالديون، مجرد إشارات إلى أشياء قادمة.
في المقابل، لا يعترف الحزب بالهزيمة، إذ يأمل الرئيس شي في تجديد النمو السريع من خلال الابتكار التكنولوجي، وقد تضاعف الإنفاق على البحث والتطوير ثلاث مرات منذ عام 2006. وعلى الرغم من ذلك، فشلت تلك الجهود في تعزيز الإنتاجية، ولا تزال الصين تمثل حصصاً صغيرة من الأسواق العالمية في معظم الصناعات ذات التقنيات المتقدمة. ويكمن السبب الرئيس في أن نظام البحث والتطوير الصيني يسير من أعلى إلى أسفل، على الرغم من أنه ممتاز في تعبئة الموارد، إلا أنه يخنق التدفق المفتوح للمعلومات ورؤوس الأموال اللازمة في الابتكار المستدام. كذلك سيزيد القمع السياسي المستمر، من خلال تحفيز الامتثال الفكري، في تعقيد المشكلة.
ومثلاً، أنفقت بكين عشرات المليارات من الدولارات على صناعة الرقاقات الإلكترونية الدقيقة المحلية، ومع ذلك لا تزال تعتمد على الواردات في 80 في المئة من احتياجات الحوسبة في البلاد. كذلك، خصصت عشرات المليارات من الدولارات في مجال التكنولوجيا الحيوية، لكن لقاحات كورونا لا تستطيع منافسة تلك المنتجة في البلدان الديمقراطية. بالتالي، لن يؤدي الابتكار إلى إنقاذ الصين من تباطؤ النمو. ومع حدوث ذلك الركود، سيهتز النظام مع اقتراب تهديد آخر يمثله التطويق الاستراتيجي.
قادة الصين مصممون على التحرك بسرعة لأن الوقت ينفد منهم.
حزام النار
لطالما اعتبرت أوراسيا بمثابة مصيدة موت للمهيمنين الطموحين، بسبب وجود عدد كبير جداً من الأعداء القريبين الذين يمكن أن يتعاونوا مع قوى خارجية عظمى. وعلى مدى 40 عاماً تقريباً، تجنبت الصين الصاعدة التطويق الاستراتيجي من خلال تقليل شأن طموحاتها العالمية والحفاظ على علاقات ودية مع الولايات المتحدة. ولقد انتهت تلك الفترة. وبالنظر إلى أن بكين أصبحت أكثر عدوانية في بحر الصين الجنوبي ومضيق تايوان، وأماكن أخرى، فقد ولدت العداء في كل مكان تقريباً.
خلال السنوات الخمس الماضية، تخلت الولايات المتحدة عن الانخراط [مع الصين] وتبنت سياسة “الاحتواء الجديد” [مثلاً، طبقت سياسة الاحتواء أثناء صراع أميركا مع الاتحاد السوفياتي]. كذلك نفذت واشنطن أكبر توسع بحري وصاروخي لها منذ جيل، ووضعت التعريفات الجمركية الأكثر تدخلية منذ الحرب العالمية الثانية، وفرضت قيودها الأشد على الاستثمار الأجنبي منذ الحرب الباردة، مع ملاحظة أن ذلك كله موجه ضد الصين. بطريقة موازية، ارتفع مبيع الأسلحة والدعم العسكري لدول خط المواجهة [مع الصين]، فيما تهدد العقوبات التكنولوجية الأميركية بتدمير شركة “هواوي” Huawei وشركات صينية أخرى. وفي 2021، اشتكى نائب وزير الخارجية الصيني من “شن حملة حكومية شاملة ومجتمعية كاملة لإسقاط الصين”.
واستطراداً، أسهم توجه الولايات المتحدة ضد الصين في ظهور رد فعل أوسع نطاقاً ضد قوة بكين. في شمال شرقي آسيا، أصبحت تايوان أكثر تصميماً من أي وقت مضى على الاحتفاظ باستقلالها الفعلي، وصادقت الحكومة على استراتيجية دفاعية جديدة جريئة يمكن أن تجعل من الصعب للغاية غزو الجزيرة. كذلك وافقت اليابان على التعاون الوثيق مع الولايات المتحدة بهدف صد العدوان الصيني في المنطقة. في المقابل، من خلال شراسة بكين وعدوانيتها، أعطت التحالف الأميركي الياباني نزعة صريحة معادية للصين.
كذلك، بدأت الدول المحيطة ببحر الصين الجنوبي في التحوط ضد الصين. ومثلاً، تعمل فيتنام على شراء صواريخ ساحلية متنقلة وغواصات هجومية روسية وطائرات مقاتلة جديدة وسفن سطحية مسلحة بصواريخ كروز متطورة. فيما أصبحت سنغافورة بشكل سري شريكاً عسكرياً مهماً للولايات المتحدة. وزادت إندونيسيا إنفاقها الدفاعي بـ20 في المئة سنة 2020، ثم 21 في المئة إضافية سنة 2021. حتى الفيليبين، التي توددت إلى الصين في معظم فترة ولاية الرئيس رودريغو دوتيرتي، تكرر الآن مطالبها في بحر الصين الجنوبي وتكثف الدوريات الجوية والبحرية.
وفي ذلك السياق، تثير طموحات الصين ردود فعل تتجاوز شرق آسيا أيضاً، من أستراليا إلى الهند، وصولاً إلى أوروبا. في كل مكان تضغط فيه بكين، تظهر مجموعة متزايدة من المنافسين الذين يعارضونها، إذ برز “الحوار الأمني الرباعي”، وهو شراكة استراتيجية تضم أستراليا والهند واليابان والولايات المتحدة، كنقطة محورية للتعاون المناهض للصين بين أقوى الديمقراطيات في منطقة المحيطين الهندي والهادي. كذلك، يوحد تحالف “أوكوس” AUKUS الجديد (أستراليا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة) قلب إطار الدول الناطقة بالإنجليزية ضد بكين. وبطريقة موازية، تعمل الولايات المتحدة على تشكيل ائتلافات صغيرة متداخلة بغية ضمان بقاء الديمقراطيات المتقدمة في طليعة التقنيات الرئيسة، بينما تتخذ مجموعة الدول الصناعية السبع وحلف شمال الأطلسي مواقف أكثر صرامة بشأن تايوان وقضايا أخرى. ومن المؤكد أن التعاون ضد الصين لا يزال عملاً في طور الإنجاز، لأن عدداً من الدول لا تزال تعتمد على التجارة مع بكين. وفي نهاية المطاف، يمكن أن تصبح تلك الشراكات المتشابكة حبل المشنقة حول عنق بكين.
فشل ذريع
إن الصين قوة صعدت فعلاً، وليست قوة صاعدة. وقد اكتسبت قدرات جيوسياسية هائلة، لكن أفضل أيامها قد ولّت. يشكل ذلك التمييز أمراً مهماً لأن الصين وضعت طموحات كبيرة قد لا تتمكن الآن من تحقيقها من دون اتخاذ إجراءات جذرية. ينوي الحزب الشيوعي الصيني استعادة تايوان، والسيطرة على غرب المحيط الهادي، وبسط نفوذه في جميع أنحاء العالم. وفي ذلك الإطار، أعلن الرئيس شي أن الصين تسعى إلى “مستقبل نربح فيه المبادرة ونحظى بالمركز المهيمن”. وعلى الرغم من ذلك، بدأ ذلك الحلم يتلاشى مع تباطؤ نمو الصين ومواجهتها عالماً معادياً بشكل متزايد.
قد يبدو الآتي بمثابة أخبار جيدة لواشنطن، إذ لا تملك الصين سوى فرص ضئيلة في تخطي الولايات المتحدة من دون بذلك جهد ضخم، لكن ليس ذلك مطمئناً تماماً. ومع تفاقم مشكلات الصين، سيبدو المستقبل مهدداً بالنسبة إلى بكين. وسيطارد شبح الركود مسؤولي “الحزب الشيوعي الصيني”. وسيتساءل شي جينبينغ عن مدى قدرته في الوفاء بتعهداته العظيمة. وحينئذٍ، يجب أن يشعر العالم بالقلق حقاً.
سيتساءل شي جينبينغ عن مدى قدرته في الوفاء بتعهداته العظيمة. وحينئذٍ، يجب أن يشعر العالم بالقلق حقاً.
وفي صورة عامة، تميل القوى التعديلية [التي تسعى إلى إعادة النظر بالأشياء] إلى أن تصبح أكثر خطورة حينما تبدأ في ملاحظة أن الفجوة بين طموحاتها وقدراتها، لا يمكن السيطرة عليها. وحينما يبدأ إغلاق النافذة الاستراتيجية في وجه قوة مستاءة، قد يبدو الاندفاع نحو نصر ضئيل الاحتمال أفضل من الانحدار المهين. وحينما يشعر القادة الاستبداديون بالقلق من أن التدهور الجيوسياسي سيدمر شرعيتهم السياسية، غالباً ما يتبع ذلك اليأس. ومثلاً، شنت ألمانيا الحرب العالمية الأولى كي تمنع الوفاق البريطاني – الروسي – الفرنسي من تحطيم طموحاتها في الهيمنة. وبدأت اليابان الحرب العالمية الثانية في آسيا بهدف ردع الولايات المتحدة من خنق إمبراطوريتها.
وحاضراً، تعمل الصين على التحقق من لائحة المواضيع المقلقة التي تنطبق على وضعها. تباطؤ في النمو؟ نعم. تطويق استراتيجي؟ نعم. نظام استبدادي وحشي مع مصادر قليلة للشرعية الأساسية؟ نعم. أهداف شخصية تاريخية وطموحات انتقامية؟ نعم، نعم. في الواقع، بدأت الصين تنخرط في الممارسات المتوقع تطبيقها من بلد في موقعها، على غرار التعزيز العسكري الذي لا هوادة فيه، والبحث عن مناطق النفوذ في آسيا وخارجها، والجهود المبذولة للسيطرة على التقنيات والموارد الحيوية. إذا وجدت صيغة للعدوان تعتمدها قوة عظمى، فإن الصين تستعرض العناصر الأساسية فيها.
وفي ذلك السياق، يعتقد عديد من المراقبين أن الصين تستغل موقعها ونفوذها اليوم لأنها واثقة جداً من صعودها المستمر. يبدو أن الرئيس شي يعتقد بالتأكيد أن كورونا وعدم الاستقرار السياسي في الولايات المتحدة قد خلقا إمكانات جديدة للتقدم. في المقابل، يتمثل الاحتمال الأكبر، والأكثر ترويعاً، في أن يكون قادة الصين مصممين على التحرك بسرعة لأن الوقت ينفد منهم. ماذا يحدث عندما تستنتج دولة تريد إعادة تنظيم العالم أنها قد لا تكون قادرة على فعل بذلك بشكل سلمي؟ يشير التاريخ والسلوك الصيني الحالي إلى أن الإجابة تمثل في أنها لن تفعل شيئاً جيداً.
اندبندت عربي