شبح السباق النووي يطل برأسه حول العالم فهل ينجرف إليه بايدن؟

شبح السباق النووي يطل برأسه حول العالم فهل ينجرف إليه بايدن؟

تعزز روسيا والصين وكوريا الشمالية ودول أخرى ترسانتها النووية وتطوّر أسلحة قادرة على ردع الولايات المتحدة ومنعها من حماية حلفائها، لكن الرئيس الأميركي جو بايدن يتعرّض لضغوط داخل حزبه الديمقراطي بعدم الانزلاق إلى هذا السباق والتركيز بدلاً من ذلك على مشاريع حماية المناخ والتنمية والخدمات الاجتماعية. وفي المقابل، هناك ضغوط أخرى من قادة البنتاغون وغالبية الجمهوريين تطالبه بسرعة تعزيز القدرات النووية الأميركية للحفاظ على ردع الخصوم قبل فوات الأوان، فإلى أي جانب يتجه الرئيس بايدن؟

شفافية أو تكتيك

قبل أيام قليلة، كشفت الولايات المتحدة عن عدد الرؤوس الحربية في ترسانتها النووية للمرة الأولى منذ أربعة أعوام، منهية بذلك تعتيماً فرضه الرئيس السابق دونالد ترمب، وهو ما وصفته الخارجية الأميركية بأن زيادة شفافية المخزونات النووية للدول يساعد في جهود منع الانتشار ونزع السلاح، في وقت يسعى الرئيس بايدن إلى استئناف حوار الحد من التسلح مع روسيا بعد المماطلة التي شهدها عهد ترمب، بينما تعمل الإدارة الحالية على مراجعة سياستها النووية التي يُنتظر أن تكتمل في أوائل عام 2022.

وعلى الرغم من ذلك، ظهرت في الأفق مؤشرات عدة إلى صراع بين تيارين يتنازعان داخل النخبة السياسية والعسكرية الأميركية، إذ يشهد الكونغرس انقسامات ساخنة بشأن ما هو التوجه الأفضل لمواجهة السلوك النووي لروسيا والصين، فضلاً عن الخلاف بشأن التكلفة المتزايدة لبرنامج التحديث النووي الأميركي. كما يعارض عدد من كبار القادة العسكريين الحاليين والسابقين أي تقليص في القوة النووية الأميركية.
وفي حين بلغ عدد الأسلحة النووية النشيطة وغير النشيطة في مخزون الجيش الأميركي 3750 رأساً نووياً حتى 30 سبتمبر (أيلول) 2020، بتراجع يصل إلى الثلثين مقارنةً بالمخزون عام 2003 الذي سجل نحو 10000 رأس نووي، إلا أن الموازنة الأميركية للأعوام العشرة المقبلة خصصت 634 مليار دولار لدعم القدرات النووية في زيادة ملحوظة عن الأعوام السابقة. وأعلنت الولايات المتحدة أنها ستزوّد أستراليا بـ8 غواصات نووية في إطار تحالف “إيكوس” الذي يضم بريطانيا أيضاً لمواجهة الصين، فيما تواجه واشنطن توترات متفاوتة مع روسيا، فضلاً عن قلقها من استمرار تطوير كوريا الشمالية لقدراتها النووية وصواريخها الباليستية.

سباق نووي

وفقاً لمعهد استكهولم لبحوث السلام الدولي، وهو مؤسسة مستقلة متخصصة في بحوث الأمن الدولي والصراعات، كانت واشنطن وموسكو وباريس فقط، التي خفّضت ترساناتها النووية خلال عام 2020 في حين زادت الهند ترسانتها 11 رأساً نووياً لتصل إلى 150، وأضافت المملكة المتحدة 8 رؤوس نووية إلى مخزونها ليصل إلى 215، بينما زادت إسرائيل 6 رؤوس نووية لتصل إلى 90، كما زادت باكستان 3 رؤوس نووية ليصل مجموع ما تمتلكه إلى 160 رأساً نووياً، بينما سجلت كوريا الشمالية زيادة بلغت 40 في المئة من إنتاج رؤوسها النووية لتصل إلى 35 رأساً نووياً على الرغم من أن هذه الأرقام تقديرية وليست مؤكدة، لكن هذه الزيادات تعني أن سباق التسلح النووي مستمر.
غير أنه في شهر أغسطس (آب) الماضي، بدا أن الصين التي تمتلك 320 رأساً نووياً، تبني ما بين 100 إلى 200 صومعة لتخزين وإطلاق صواريخ عابرة للقارات برؤوس نووية، ما رجّح معه أن بكين في عهد الرئيس شي جينبينغ عازمةً على بناء ترسانتها النووية بشكل أسرع مما تظن واشنطن. وافترضت وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) أن الصين ستضاعف مخزونها من الأسلحة النووية خلال هذا العقد، وقد تصل الزيادة إلى خمسة أضعاف، حسبما تشير إليه الصوامع الجديدة التي قد يكون غيرها مخفياً في الأراضي الصينية.
ووفق تحليل الخبراء العسكريين الأميركيين، سيؤدي ذلك إلى اقتراب بكين من القوتين النوويتين العظميين الحاليتين، الولايات المتحدة وروسيا، اللتين تمتلك كل منهما حوالى 1600 قنبلة نووية جاهزة للاستخدام، مع الوضع في الحسبان أن لدى البلدين آلاف الرؤوس النووية الأخرى في مخازن عميقة.

حافة الهاوية

ويؤكد ذلك النتيجة المرعبة وهي أن العالم بدأ سباق تسلح نووي آخر، ربما يعيد إلى الأذهان سياسة حافة الهاوية بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي خلال أزمة الصواريخ الكوبية في ستينيات القرن الماضي، وإمكانية تكرار هذا المشهد المفزع بين واشنطن وبكين ولكن فوق تايوان أو بحر الصين الجنوبي خلال أعوام قليلة.
ولا يُعدّ هذا التصور مبالغاً به بالنظر إلى أن الصوامع الصينية تكشف بوضوح كيف تنظر بكين إلى وضعها الاستراتيجي، ذلك أن أكثر ما يخشاه الصينيون هو هجوم أميركي استباقي يمكن أن ينهي يوماً ما قدرتهم على توجيه رد انتقامي، كما تؤدي التحسينات الأميركية الأخيرة في التكنولوجيا الدفاعية إلى تفاقم هذه المخاوف، لذلك يخشى الصينيون من سيناريو يشعر من خلاله الأميركيون، أثناء صراع متفاقم، أنهم محصنون ضد ضربة مضادة، ما يشجعهم على التفكير في توجيه الضربة الأولى، ولردع مثل هذا الإغراء، يريد الرئيس الصيني التأكد من أن لديه ما يكفي من الصواريخ الجاهزة للإطلاق من أماكن كافية، محملةً برؤوس نووية كافية لإرباك الإجراءات الأميركية المضادة.
ويشير أندرياس كلوث، الكاتب المتخصص في الأمن على موقع “بلومبيرغ” إلى أن الصينيين مقتنعون بشكل متزايد بأن شكلاً من أشكال الصراع مع الولايات المتحدة أمر لا مفر منه، وأنهم بحاجة إلى التسليح، ولهذا السبب من غير المرجح أن ينضموا إلى محادثات نزع السلاح الحالية مثل “نيو ستارت”، معاهدة الحد من التسلح الوحيدة المتبقية بين الولايات المتحدة وروسيا. ولكن هل الصين محقة في مخاوفها إزاء تصرفات الولايات المتحدة؟

مَن يضرب أولاً

خلال أيام الرئيس باراك أوباما الأخيرة في منصبه، بحث إمكانية إعلان سياسة “عدم الاستخدام الأول للأسلحة النووية”، ما يعني أن الولايات المتحدة لن تستخدم الأسلحة النووية إلا إذا تعرّضت أولاً لضربة نووية، لكن أوباما تخلى في النهاية عن هذه الفكرة بعد أن واجه معارضة شديدة داخل حكومته. لكن بايدن أشار إلى أنه ربما يؤيد مثل هذا الإعلان، إذ ألقى في يناير (كانون الثاني) 2017، خطاباً قال فيه إنه “من الصعب تصور سيناريو معقول يكون فيه أول استخدام للأسلحة النووية من قبل الولايات المتحدة ضرورياً أو منطقياً”، كما عبّر عن اعتقاده بأن ردع أي هجوم نووي أو الرد عليه يجب أن يكون هو “الغرض الوحيد” للترسانة النووية الأميركية.
لكن إدارة أوباما – بايدن لم تصل في نهاية المطاف إلى حد تبني هذا الاعتقاد كسياسة، ورفضته إدارة ترمب صراحةً في مراجعة الموقف النووي لعام 2018، بل زادت بشكل كبير الإنفاق على الأسلحة النووية وزوّدت الغواصات برؤوس حربية جديدة، رداً على التعزيزات النووية الروسية والصينية والجهود العدائية من قبل كوريا الشمالية لزيادة ترسانتها وتطوير صواريخ بعيدة المدى أكثر تقدماً.
غير أن بايدن وافق في أيام حكمه الأولى على تمديد آخر اتفاقية نووية متبقية مع روسيا، وهي معاهدة “نيو ستارت” لخفض الأسلحة الاستراتيجية، ودعا إلى مزيد من المفاوضات مع موسكو لوضع قيود جديدة على ترسانتها، التي تُعدّ الأكبر في العالم، ووظّف مجموعة خبراء للحد من التسلّح بهدف تنفيذ أجندته تتويجاً لحملة تقدمية استمرت عقوداً للتراجع عن سياسة حافة الهاوية النووية والسعي إلى إزالة الأسلحة النووية.

معسكران متناقضان

وكان كل ذلك متماشياً مع مسار حملته الانتخابية، فأعرب بايدن عن رغبته بتقليص دور الأسلحة النووية في استراتيجية الولايات المتحدة، وأوضح موقعه على الإنترنت أن “الغرض الوحيد منها” هو ردع هجوم نووي والانتقام من المعتدين إذا لزم الأمر.
وبدا واضحاً أن هناك معسكرين داخل إدارة بايدن، أحدهما يركز على الحد من التسلح، وهو متشكك في خطط التحديث النووي التي تُقدّر بمليارات الدولارات ويتركز هذا التيار بشكل أساسي في وزارة الخارجية، بينما يريد الطرف الآخر، المنافسة مع روسيا والصين، ويخشى بشدة أن يشعر الحلفاء تحت المظلة النووية الأميركية بالتخلي عنهم إذا خفضت الولايات المتحدة ترسانتها النووية أو لم تواكب التطوير والتحديث اللازمين للمنافسة.
وكان الطرفان يتنافسان وسط بعض التناقضات الواضحة من إدارة بايدن، ففي حين ذكر التوجيه الاستراتيجي الأول للأمن القومي المؤقت للرئيس الأميركي، أن واشنطن ستسعى إلى تجنّب سباقات التسلح المكلفة، وإعادة ترسيخ مصداقية الولايات المتحدة كدولة رائدة في مجال الحد من التسلح، فإن طلب الموازنة الذي قدمه بايدن أزعج دعاة عدم الانتشار من خلال الاستمرار في دعم الأسلحة النووية التوسعية وجهود التحديث الموروثة من إدارة ترمب.

إقالة مزعجة

ومنذ أن وصل الرئيس بايدن إلى البيت الأبيض، نصّب مسؤولي الأمن القومي العازمين على التفاوض على معاهدات جديدة للحد من الأسلحة وتقليص الإنفاق على الأسلحة النووية. وكانت ليونير توميرو، من أبرز الأصوات الرائدة لضبط النفس النووي في الكابيتول هيل وفي مجتمع المؤسسات البحثية، إذ عيّنها في يناير الماضي، للإشراف على مراجعة الوضع النووي في البنتاغون، التي ستحدد سياسة واستراتيجية الأسلحة النووية لإدارته، وهو تقليد تتبعه كل إدارة أميركية كل عامين منذ التسعينيات.
لكن المسؤولين في وزارة الدفاع الأميركية أصحاب وجهات النظر التقليدية بشأن الأسلحة النووية، الذين يروّجون لجدول أعمال نووي أكثر تشدداً يشمل تحديث الأسلحة البرية والبحرية والجوية في الترسانة النووية الأميركية، لم يتعاملوا بلطف مع أيديولوجيا توميرو التقدمية، وهو ما أدى إلى إقالتها قبل أسبوعين فقط، ما جعل خبراء كثراً يشعرون بالقلق من أن إقالتها تشير إلى أن مراجعة الوضع النووي المقرر إجراؤها في أوائل عام 2022، ستضع نهاية لخيارات بايدن وتهمل الخيارات البديلة لخفض تكاليف الحفاظ على الردع النووي الأميركي، أو تقييم طرق جديدة لتنفيذ الاستراتيجية النووية.

ناقوس الموت

وإذا كانت هذه هي الحال، فقد تكون إقالة توميرو بمثابة ناقوس الموت لآمال بايدن في تغيير السياسة النووية الأميركية في المستقبل المنظور، إذ وصف توم كولينا، الباحث في صندوق بلاوشيرز الذي يدعو إلى القضاء على الأسلحة النووية، إقالة توميرو بأنها إهانة لبايدن وسعيه وراء خيارات لضبط النفس النووي، بسبب استبعاد وجهات نظرها التي تحدّت الوضع الراهن بشأن الأسلحة النووية.
وما يعزز هذا الرأي هو أن الولايات المتحدة حددت خطط الأموال المخصصة للقوات النووية في طلبات موازنة العام المالي الحالي، بقيمة وصل مجموعها إلى 634 مليار دولار خلال الفترة 2021-2030 لكل من وزارة الدفاع ووزارة الطاقة، بمتوسط يزيد قليلاً على 60 مليار دولار سنوياً، وفق تقديرات مكتب الموازنة غير الحزبي في الكونغرس الأميركي.
وستحصد وزارة الدفاع حوالى ثلثي هذه التكاليف التي ستذهب أكبرها إلى تطوير وبناء غواصات قادرة على إطلاق الصواريخ النووية الباليستية وتحديث وزيادة منصات إطلاق الصواريخ الباليستية الأرضية العابرة للقارات، بينما ستذهب تكاليف وزارة الطاقة في المقام الأول إلى مختبرات الأسلحة النووية والأنشطة الداعمة لها.
ويعني ذلك أن الولايات المتحدة قد تتجه على الأرجح إلى سباق نووي جديد وهو ما يدعو معه المدافعون عن الحد من التسلح، إلى الانتباه إلى المخاطر التي تهدد إنسانيتنا المشتركة على كوكب الأرض، فالحرب النووية، سواء كانت عن قصد أو مصادفة، قد تكون الحرب العالمية الثالثة والأخيرة، وأن الوقت قد حان للتدخل ودق ناقوس الخطر.

طارق الشامي

ادبندت عربي