منذ سنوات خلت والعلاقات الأمريكية التركية في انحدار واضح، وما يطفو على السطح هذه الأيام إنما جذوره تمتد إلى ما قبل ولاية بايدن. صحيح كانت العلاقة أفضل بكثير في عهد الرئيس الأسبق دونالد ترامب، لكنها كانت سيئة أيضا في عهد أوباما.. ففي عهده تلقت تركيا ضربة موجعة برفض طلبها لشراء صواريخ الباتريوت، على وقع الخلاف مع واشنطن حول المسألة السورية، لكن المشكلة اليوم تبدو أعمق من قبل، بسبب تفاقم الخلافات التي يرافقها انعدام الود الشخصي بين أردوغان وبايدن، فالأخير بعث رسائل غير إيجابية تجاه الأول، أثناء الحملة الانتخابية.. كما لم تنس أنقرة موقفه البارد من محاولة الانقلاب الفاشل، الذي افتقر إلى حماسة التضامن المعهودة بين الحلفاء.
يساعد دفع هذا المسار لمزيد من تعقيد الموقف الداخلي الأمريكي من تركيا وزعيمها شخصيا، حيث توجد حالة من العداء الشديد لأنقرة، مردها إلى فواعل كُثر، فهنالك اللوبي الصهيوني واللوبي الأرمني واللوبي اليوناني، وكذلك لوبي رابع يتلقى الدعم من دول عربية خليجية، كل هذه تعمل بشكل يكاد يكون متضامنا ضد العلاقة مع تركيا، فهل المقبل أسوأ؟
أعلن الرئيس التركي أن العمل مع إدارة بايدن هو الأسوأ من بين الإدارات الأمريكية السابقة، وقد مهد هذا القول إلى خطوة أخرى بإعلانه أنه ماض لشراء دفعة جديدة من الصواريخ الروسية أس 400، ورافعا نبرة التهديد إلى مستوى أعلى بالقول (في المستقبل لا أحد سيكون قادرا على التدخل بما يتعلق بأنظمة الدفاع التي نمتلكها، من أي دولة كانت وعلى أي مستوى كان). لكن الخطوة هذه لن تكون بلا كُلف سياسية واقتصادية، ستدفعها أنقرة إن مضت في هذا الأمر، وستتعمق الخلافات بعد أن ترد واشنطن بشكل مؤكد بمزيد من العقوبات على أنقرة، وستتعزز الأزمة بين الطرفين، التي لم يكن سببها خذلان تركيا من قبل الولايات المتحدة، في تعثر صفقة شراء طائرات أف 35، والعقوبات التي فرضتها وزارة الخزانة الأمريكية أواخر العام الماضي على مؤسسات ومسؤولين أتراك فحسب، بل كذلك الموقف من الأزمة السورية، واتهامات أنقرة لواشنطن بدعم الأكراد في شمال سوريا. وعندما حاول الجانب التركي تهدئة الأمور مع الأمريكيين، وعرض خزن الصواريخ وعدم استعمالها إن كان ذلك يرضي واشنطن مقابل تسليح تركيا، تم رفض العرض وأصرت واشنطن على خروجها من تركيا بشكل كامل، فواشنطن تعتبر منظومة الصواريخ هذه تمثل تهديدا مباشرا لطائراتها المقاتلة أف 35، ولأنظمة الدفاع التابعة لحلف شمال الأطلسي، فما هي أوراق أنقرة في مواجهة هذا التدهور في العلاقات؟
هناك مراكز قوى في واشنطن ترددت في حقب ماضية في التخلي عن أنقرة، وعادت لإصلاح ذات البين، والإمساك بزمام الأمور بين الطرفين
تدرك تركيا تماما أن موقعها المتميز داخل حلف الناتو، من حيث خريطتها الجغرافية، وتصنيفها كقوة ثانية فيه، يعطيها ورقة ضغط كبيرة على الولايات المتحدة الأمريكية. كما أنها تستخدم الملفين السوري والعراقي، أدوات ضغط أخرى، لمعرفتها أن الوجود الأمريكي في هذين البلدين بحاجة إلى دعمها الاستراتيجي والاستخباراتي. أما الورقة الروسية فهي الأكثر إزعاجا لواشنطن، فأنقرة تحاول اللعب على الطرفين الأمريكي والروسي، في ما يتعلق بإتمام صفقات الأسلحة التي أوقفت بعضها واشنطن، وكذلك إيجاد توازن بينهما في منطقة الشرق الأوسط، تحديدا في شمال شرق وشمال غرب سوريا، تبقى هي فيه في موقع الضغط عليهما معا، وتحصل من خلاله على مكاسب في ملفات المنطقة. يضاف إلى ذلك كله، أن أنقرة بدأت تزيد من وجودها في مناطق متعددة كوسيلة ضغط أيضا، وهذا التوسع في النفوذ غير مرحب به في واشنطن، لأن فيه إضرارا بمصالح عدد من حلفائها، مثل اليونان ومصر وبعض دول الخليج العربي. ولجعل الضغط الأمريكي عليها في المجال الاقتصادي أقل ضررا، شرعت أنقرة في التحرك على شركاء آخرين مهمين لتعويض خسائرها، لذلك نرى أن هنالك تغيّراً في السياسة الخارجية التركية مؤخرا، لكن هل تعي الولايات المتحدة حجم الخسائر الناتجة عن المسار التصادمي بينها وبين تركيا؟ يقينا خسرت تركيا كثيرا من جراء حجب جزء من صفقة طائرات أف 35، التي أدت إلى فقدانها نظام طيران حربي قوي، لكن على الطرف الآخر خسرت الولايات المتحدة اتفاقية تسليح مُغرية، كما عزز هذه الخسارة الخروج الجزئي لأنقرة من الدوران في الفلك الأمريكي، لكن الخسارة الأكبر للولايات المتحدة هي الاستثمار الروسي في الابتعاد التركي عنها، فعلى الرغم من أن العلاقة بين موسكو وأنقرة لا يمكن وصفها بالتحالف ولا بالصداقة، لكن واشنطن تعلم جيدا أن موسكو تسعى لزيادة الشرخ بينها وبين أنقرة، في ما يتعلق بملفات الشرق الأوسط. كما تحاول إغراء تركيا وتقديم التسهيلات لها في مناطق أخرى، ومع إدراك واشنطن بالاستثمار الروسي، لكن ذلك لم يدفعها حتى الآن لتصحيح مسار العلاقة مع أنقرة. وهذا مرده إلى أن الإدارة الأمريكية الحالية تسلك مسار الإدارة السابقة نفسه في مسألة المصالح الاستراتيجية، وصفقات الأسلحة وإعادة ترتيب منطقة الشرق الأوسط. وهي تحاول إيجاد توازن تسليح في المنطقة، بما يتوافق فقط مع مصلحتها، من دون النظر إلى مصالح حليفها التركي، بل تذهب أبعد من ذلك في استعمال الورقة الكردية للضغط على أنقرة للعودة إلى الفلك الأمريكي، ما يؤكد عدم صدقية تعهد الرئيس بايدن في ما قاله في الخطاب الأول بعد التنصيب، بأن الولايات المتحدة عادت إلى حلفائها وشركائها مجددا، فما زال السلوك السياسي للإدارة الحالية يثبت عكس ذلك، وخير مثال حديث يؤكد هذا الجانب هو انقلابها على فرنسا حليفتها في الناتو في موضوع صفقة الغواصات إلى أستراليا.
إن التصعيد المتبادل بين الولايات المتحدة وتركيا ربما يشي بمزيد من حالة التوتر، وتضارب المصالح على أكثر من صعيد، لكن هنالك مراكز قوى في واشنطن ترددت في حقب ماضية في التخلي عن أنقرة، وعادت لإصلاح ذات البين، والإمساك بزمام الأمور بين الطرفين، فعندما كان في سوريا خياران، إما التخلي عن الأكراد، أو التخلي عن تركيا، تم التخلي عن الأكراد.
صحيح أن الوضع الحالي في واشنطن يختلف عن السابق، لكن الرئيس بايدن ليس في وضع يؤهله لاتخاذ قرارات حاسمة في موضوع العلاقة الأمريكية التركية. مع ذلك عندما تتراجع علاقة الولايات المتحدة بتركيا، فإن علاقات أنقرة تتراجع أيضا مع حلفاء واشنطن، وهذا يضع عقدة في مسار تركيا لإجراء المصالحات مع بعض الدول في المنطقة. إن الذي أشعل فتيل أزمة العلاقات التركية مع أمريكا والغرب، هو برنامج الاتحاد الاوروبي لزيادة التفوق العسكري الجوي اليوناني على حساب تركيا، هذا البرنامج الذي بدأ قبل عقد من الزمن، ويستمر إلى عقد آخر، يكسر الخط الأحمر الذي تضعه تركيا في هذا الملف، ما دفعها للاستعانة بمنظومة صواريخ أس 400 الروسية، وبذلك لا يمكن أن تتغير شبكة العلاقات هذه، من دون مراعاة الشعور بالخذلان الذي يشعر به صانع القرار التركي من جميع الحلفاء.
مثنى عبدالله
القدس العربي