إذا كان سلوكاً منتظراً أن يسارع الخاسرون في الانتخابات التشريعية العراقية الأخيرة إلى التشكيك في عملياتها والطعن بنتائجها، وهذا ما اعتاد عليه العراقيون في كل انتخابات مماثلة، فإن إصرار القوى والأحزاب السياسية على تجاهل الأسباب الجوهرية وراء انتصار هذا الفريق أو تراجع ذاك الفريق يضيف إلى الهزيمة طابع إغماض العين عن الحقائق وتفضيل دفن الرؤوس في الرمال.
غير أن لهذا الخيار جوانبه الأكثر خطورة من مجرد التعنت في قبول النتائج أو تخوين المفوضية العليا المستقلة للانتخابات أو توجيه الاتهامات للولايات المتحدة بالوقوف خلف الهزائم، إذ أن انقلاب هذا وسواه من السلوكيات إلى تحريض مباشر للشارع ينطوي على شعارات مذهبية وعنفية وعسكرية تهدد بـ«ما لا يحمد عقباه» إنما يفضي إلى مخاطر لا حصر لها، خاصة وأن القوى التي تزعم تحريك شارع ضد آخر لا تفتقر إلى التسلح والتعبئة وعقلية الميليشيا غير المعترفة بسيادة الدولة وسلطة القانون.
ولا يخفى أن هذه الانتخابات الأخيرة، مثل سواها التي جرت بعد الغزو الأمريكي للعراق سنة 2003، تظل نتاج الجوانب المختلفة التي فرضها إرث الاحتلال وحكوماته المتعاقبة والتكوينات السياسية التي أسهم في صناعتها أو في تكريسها، لصالح المحاصصات المذهبية والطائفية والمناطقية من جهة أولى، وعلى أسس أسبغت شرعية عليا للتبعية الخارجية وسطوة السلاح وهيمنة الميليشيا من جهة ثانية. وكل هذا على حساب مصالح الشعب العراقي وعلى النقيض من حقوقه ومطالبه وآماله، مثلما كانت بوابة لعبور التطرف والتشدد والإرهاب في مختلف عقائده وفصائله.
وإذا صح أن عدداً من القوى والتجمعات التي انبثقت عن انتفاضة تشرين الأول (أكتوبر) 2019 قد حققت مكاسب رمزية في الانتخابات الأخيرة، فإن المؤشر الأكبر والأهم هو أن قوى المجتمع العراقي الحية قاطعت الانتخابات عفوياً بسبب يأسها من الأحزاب وليدة إرث الاحتلال تحديداً، ويقينها بأن غالبية الساسة الزعماء اختلفوا في كثير أو قليل ولكنهم اتفقوا وتوافقوا على إجهاض الانتفاضة وتفريغ الحراك الشعبي من مضامينه النضالية الحيوية، ومتجاهلين مغزى بالغ الأهمية وهو أن الفئات الشبابية هي التي تصدرت حركة المقاطعة، فهؤلاء كانوا حملة شعارات التغيير ومطالب الإصلاح ومحاربة الفساد، وهم أيضاً بذلوا أغلى التضحيات وسقط منهم مئات الشهداء في ساحات الاحتجاج والاعتصام.
غير مستبعد بالطبع أن احتكام الخاسرين إلى قواعدهم في الشارع أو التلويح بعواقب وخيمة أو رفع سقوف الطعن في نتائج الانتخابات، ليس أكثر من تكتيك دفاعي يستبق المفاوضات المقبلة بصدد تشكيل الحكومة العراقية، على نحو يمكن أن يعوض عبر التفاوض ما خسرته بعض القوى في صندوق الاقتراع. ذلك لأن واحداً من أبرز دروس الانتخابات الأخيرة أنها لم تفرز البرلمان المقبل إلى انقسام عمودي بين صف شيعي وآخر سني، بقدر ما برهنت عن ميل الشارع الشعبي الشيعي إلى الكتلة الصدرية على حساب الأحزاب والكتل والميليشيات ذات الولاء الإيراني المعلن، وذلك لأسباب سياسية واجتماعية وليست عقائدية بالضرورة.
ولهذا كله فإن الأسابيع القليلة المقبلة حبلى بما قد يكون كفيلاً بترسيخ التسويات، أو تفجير المخاطر جمعاء.
القدس العربي