على الرغم من التهديد والوعيد، لم تنجح محاولات حلفاء إيران في تخويف المفوضية العليا للانتخابات، ودفعها إلى تغيير نتائج انتخابات العاشر من أكتوبر/ تشرين الأول الجاري، والتي تردّدت أصداؤها في أرجاء معسكر إيران الإقليمي. وبحسب النتائج النهائية المعلنة، خسرت مليشيات “تحالف الفتح” جزءاً كبيراً من نفوذها السياسي، إذ حلّت في المرتبة الخامسة بـ 17 مقعداً، بعد أن كانت في المرتبة الثانية في البرلمان السابق بـ 47 مقعداً. أما الكتلة الصدرية فقد عزّزت وجودها في البرلمان، من 54 مقعداً في انتخابات 2018 إلى 72 في الانتخابات أخيراً. وهذا يعني أن مقتدى الصدر بات يملك قرار تشكيل الحكومة العراقية المقبلة في ضوء رجحان تحالفه مع كتلة “تقدّم” التي يقودها رئيس البرلمان، محمد الحلبوسي، ونالت بدورها 38 مقعداً، والحزب الديموقراطي الكردستاني، الذي حاز 33 مقعداً، ما يجعل مجموع المقاعد التي حصدتها الكتل الثلاث 143، وهي تحتاج، من ثمّ، 22 مقعداً فقط للحصول على أغلبية في البرلمان وتشكيل حكومة، وهذه مهمةٌ لا ينبغي أن تكون صعبةً في ظل وجود نحو 20 نائباً مستقلاً وكتل أخرى صغيرة، يرغب بعضها بالتأكيد الانضمام للحكومة.
هناك فرصة إذاً، لأول مرة منذ الغزو الأميركي عام 2003، للابتعاد عن بدعة “الديموقراطية التوافقية” التي تختصّ بها المنطقة العربية (العراق ولبنان)، حيث يتم اقتسام “كعكة” السلطة بين القوى السياسية المتنافسة، كلٌّ حسب حجمه وقدراته (فلا يزعل أحد) في تجسيدٍ صارخٍ لثقافة الغنيمة السائدة في المشهد السياسي العربي، في حين تغيب المعارضة، مفهوماً وممارسة، أو يجري تغييبها عمداً، وهي التي تعدّ جوهر النظام الديموقراطي، حيث تتمثل مهمتها الرئيسية في مراقبة عمل الحكومة وكشف مواطن الفشل والفساد والقصور. أما في الديموقراطية التوافقية التي تتجسّد في توافق الكتل السياسية على نهب المال العام، فيغطّي النهابون على بعضهم في حفلة سرقةٍ جماعية لموارد البلد. ليس صعباً، بناء عليه، تفسير فشل كل الحكومات العراقية منذ عام 2003 في حلّ مشكلة الكهرباء، مثلاً، أو الماء في بلد الرافدين، وفي أحد أغنى بلدان العالم بالنفط والغاز. وفيما، تقدّر الأمم المتحدة حجم النهب والهدر الذي شهده العراق بين عامي 2003 و2018 بما يزيد عن 600 مليار دولار، لا عجب أن يكفر العراقيون بالديموقراطية (التوافقية) فيقاطع أكثرهم الانتخابات، وهم الذين خرجوا قبل عامين يرفعون شعار “نريد وطناً”. الأمر عينه تكرّر في لبنان، حيث خرج الناس يرفعون شعار “كلّن يعني كلّن”، بمعنى إطاحة كل الطبقة السياسية المستمرة في حكم البلد ونهبه عبر صناديق الاقتراع.
وعلى الرغم من المقاومة التي يتوقع أن تبديها إيران وحلفاؤها من حملة الجنسية العراقية، إلا أن هناك فرصة، ليست كبيرة ربما، لاستعادة العراق قراره، والانكباب على إعادة بناء ما دمّرته حروب الأربعين عاماً الماضية، فقد وجّهت الانتخابات أخيراً ضربة كبيرة للكتل المحسوبة على إيران، والتي دأبت، إلى جانب تحويل العراق ساحةً لمعارك إيران الإقليمية، على تعطيل مشاريع التنمية والبنية التحتية، حتى يبقى العراق معتمداً على إيران في كل شيء تقريباً، من الغاز والكهرباء إلى الماء والغذاء والدواء.
مصدر القلق الرئيس من ضياع هذه الفرصة يتمثل في هشاشة موقف مقتدى الصدر وافتقاده الثقة بالنفس، عندما يتعلق الأمر بإيران، ففي كل المناسبات والمواقف السابقة، كان الصدر يتراجع أمام ضغوط إيران وحلفائها، وليس هناك ما يضمن عدم حصول ذلك هذه المرّة أيضاً، وإمكانية قبوله من ثم تشكيل حكومة “توافقية” تضم الكتل نفسها التي حكمت البلاد على امتداد العقدين الماضيين. الأمر الآخر ذو الصلة أن الصدر نفسه كان جزءاً من نخبة الحكم خلال العقدين الماضيين وكتلته متورّطة في الفساد مثل باقي الكتل. ولا يُنسى أيضاً أن الصدر الذي يطالب بحل المليشيات يحتفظ هو نفسه بمليشيا “سرايا السلام” التي هاجمت ساحات الاعتصام في الناصرية وغيرها من مدن محافظة ذي قار عام 2020 ونكّلت بالمحتجين. لكل هذه الأسباب، يبقى المرء متحفّظاً في تفاؤله بشأن التغيير الذي يمكن أن تجلبه الانتخابات التي جرت أخيراً لواقع العراق الذي يبقى مصير المشرق العربي كله مرتبطاً بعودته إلى ممارسة دوره القائد فيه.
مروان قبلان
العربي الجديد