من حارب في العام 1948؟

من حارب في العام 1948؟

يكشف كتاب جديد النقاب عن رسائل لمقاتلين يهود وعرب من حرب العام 1948، ويسلط الضوء على الحياة الشخصية لأولئك الذين حاربوا من أجل إقامة إسرائيل، وأولئك الذين حاولوا الدفاع عن فلسطين. اسم الكتاب هو: “فلسطين العزيزة: تاريخ اجتماعي لحرب 1948” Dear Palestine: A Social History of the 1948 War، بقلم شاي حزكاني Shay Hazkani، (مطبعة جامعة ستانفورد، 2021).

* *
في 4 نيسان (أبريل) 1948، قبل أسابيع قليلة من قيام دولة إسرائيل، شارك جندي عراقي يُدعى عبد الله داود في هجوم فاشل على كيبوتس في شمال فلسطين. وقد استمر ذلك الهجوم، الذي كان واحدة من المعارك الرئيسية في ذلك الوقت، قرابة أسبوعين، وتضمن القصف المدفعي الثقيل، وانتهى بسقوط ما مجموعه 115 ضحية. وكان داود، وهو قناص، واحداً من آلاف المتطوعين من جميع أنحاء العالم العربي الذين شكلوا “جيش التحرير العربي”، أو (جيش الإنقاذ)، الذي نفذ الهجوم.
وفي العام 1990، أجرت الصحفية الإسرائيلية، سارة ليبوفيتز دار، مقابلة مع داود حول خدمته في جيش الإنقاذ. وبعد خمسة عقود، كان الجندي السابق ما يزال فخوراً بقدرته كقناص. وقال متفاخراً: “لقد كنت جنديًا عظيمًا، حتى أن ضابطي، حسين، الذي كان وغداً حقيقيًا، قال لي: عبد الله، من السيئ جداً أنك يهودي”. وقد أجريت تلك المقابلة في تل أبيب: كان داود، الذي كان يهوديًا في الحقيقة، قد هاجر إلى إسرائيل في العام 1950، بعد عامين فقط من قتاله ضد الجيش الإسرائيلي الوليد.
تفتتح قصة داود الكتاب المعنون “فلسطين العزيزة: تاريخ اجتماعي لحرب 1948” (مطبعة جامعة ستانفورد، 2021)، وهو كتاب جديد لشاي حزكاني، الأستاذ المساعد للتاريخ والدراسات اليهودية في جامعة ميريلاند، والذي يكشف فيه عن مجموعة من الرسائل التي كتبها جنود من كل من الجيش الإسرائيلي وجيش الإنقاذ والمدنيين الفلسطينيين خلال الحرب، والتي تم وضعها تحت السرية سابقًا وتخزينها في أرشيف جيش الدفاع الإسرائيلي ومؤسسة الدفاع. وكان قد اعترض هذه الرسائل سراً ونسخها مكتب الرقابة الإسرائيلي من أجل قياس الرأي العام، وبذلك تم حفظها عن غير قصد لمؤرخي المستقبل. ويعتمد الكتاب أيضًا على منشورات دعائية من ذلك الوقت، سواء من تلك التي أنتجتها إسرائيل أو التي استولت عليها.
إذا كانت يهودية داود تبدو مفاجئة، فمن المحتمل أن يكون ذلك بسبب ما أسماه عالم الاجتماع أولريش بيك “القومية المنهجية”: الافتراض المشترك الضمني بأنه يمكننا استنتاج دوافع الأفراد من القوميات/ الإثنيات التي ينتمون إليها. وبالنسبة للعديد من اليهود المعاصرين، يُترجم هذا إلى توقعات بأن المتطوعين والجنود العرب الذين قاتلوا في ذلك الوقت كانوا مدفوعين إلى حد كبير بمعاداة السامية، وبأن اليهود برروا تصرفات الحكومة والجيش الإسرائيليين في ذلك الوقت، وكانوا يخوضون ما كان يُنظر إليه على أنه حرب من أجل البقاء. وعلى وجه التحديد، من المرجح أن القراء سوف يُسقِطون الصور المعاصرة لما يفترض أنه انجذاب متأصل لدى المزراحيم (اليهود من أصول في الدول العربية أو الإسلامية) إلى اليمين الإسرائيلي المتطرف، على اليهود الشرقيين في العام 1948.
يُعقد كتاب حزكاني كل هذه الافتراضات، ويطرح ثلاثة تحديات رئيسية لهذه القومية المنهجية من حيث صلتها بالتاريخ الإسرائيلي الفلسطيني. ويقع أول هذه التحديات في مجال الدعاية التي رافقت تلك الحرب: يلاحظ حزكاني أن منتجات جيش الإنقاذ “كانت مدروسة بدرجة أكبر وأقل عنفًا وركزت بشكل أكبر على القيم العالمية والقانون الدولي” قياساً بتلك التي أنتجها جيش الدفاع الإسرائيلي، الذي قارنت منشوراته العدو العربي بـ”العماليق”، الأمة التوراتية التي أمرت الإسرائيليات اليهود بإبادتها. وقد استخدم دافيد بن غوريون، أول رئيس وزراء لإسرائيل، هذه المقارنة، مسجلاً بذلك انفصالاً عن قرون من تراث المعلقين اليهود الذين حرصوا على عدم مقارنة العماليق بأي مجموعة معاصرة. وعلى النقيض من ذلك، وعد جيش الإنقاذ العربي بأنه في الدولة العربية المستقبلية في فلسطين “سيعيش اليهود كمواطنين عاديين وسيتمتعون بحقوق المواطنة الكاملة”.
حدد أمر عملياتي لجيش الإنقاذ الهدف الاستراتيجي للمنظمة بأنه “منع تقسيم فلسطين من خلال أداء مهام عسكرية بهدف: 1. إقناع اليهود بأن عداءهم للعرب سيؤدي بهم إلى كارثة. 2. منع الاعتداءات اليهودية على العرب؛ والتسبب في وقوع خسائر (بين اليهود). ولم تشر دعاية جيش الإنقاذ إلى إبادة اليهود أو “إلقائهم في البحر”، كما زعمت الدعاية الإسرائيلية في ذلك الوقت. وبالطبع، لا يثبت هذا الاستنتاج بشكل قاطع أن الجيوش العربية امتنعت عن استخدام الخطاب المتطرف أو تبني أهداف أكثر تطرفاً، لكنه يقوض الاتهامات بمعاداة السامية المنتشرة، بل وحتى الروتينية، ما يوضح أننا لا نستطيع التعميم من مجرد تصريحات قائد واحد، مثل الحاج أمين الحسيني، مفتي القدس. وبالمثل، لا يمكن استبعاد خطاب الإبادة الجماعية الذي استخدمه الجيش الإسرائيلي ضد العرب.
وثمة نتيجة أخرى مناقضة للبديهة، هي مدى انتقاد متطوعي جيش الدفاع الإسرائيلي للمجتمع الإسرائيلي في ذلك الوقت. كانت لدى خمسة وخمسين بالمائة من أعضاء “ماحال”، وحدة المتطوعين الأجانب التابعة للجيش (القادمين من الدول الغربية)، آراء سلبية تجاه إسرائيل ومواطنيها، وفقًا لاستطلاع أجراه مركز أبحاث الرأي العام في جيش الدفاع الإسرائيلي في آذار (مارس) 1949.
وكان جزء كبير من هذا النقد يستهدف الفساد المتصور والسلوك غير المحترم، لكن مارتن، وهو يهودي أميركي، كتب إلى أسرته أن “يهود إسرائيل قايضوا دينهم بمسدس، من جميع النواحي”. وفي غضون ذلك، رفض ريتشارد، وهو جندي من جنوب إفريقيا، “القتال من أجل الطموحات الإقليمية والإمبريالية للصهاينة الأفندية (وهي كلمة تركية تعني الأعيان، وتستخدم هنا للسخرية)، حتى لو أنهم وصفوا أنفسهم بأنهم اشتراكيون. إن القيادة الصهيونية تحرض على الحرب من أجل توسيع حدود إسرائيل. إنهم يخلقون مناخات تحاكي أجواء الحرب عن قصد”.
من ناحية أخرى، كان هناك أشخاص، مثل تكفا هونيغ-بارناس، المجندة في منظمة “البلماخ” التي اشتكت لوالديها من اثنين من المتطوعين الأميركيين اللذين صادفتهما في الماحال، واللذين كانا “رقيقي القلب”، حسب تعبيرها. وبعد أعوام، سوف تعود هونيغ بارناس لتقر بدورها في حرب العام 1948 وتتحدث عن النكبة الفلسطينية.
يغلب أن هذه الانتقادات لم تتقاسمها غالبية الجنود، لكنها لم تكن بلا أهمية. وحتى عندما يتعلق الأمر بتورط الجيش في طرد الفلسطينيين، لم تكن الآراء موحدة كما يمكن تصورها لدى النظر إليها بأثر رجعي. في نيسان (أبريل) 1948، نشرت دائرة التعليم في الجيش كتيبًا بعنوان “إجابات عن الأسئلة التي يطرحها الجنود بشكل متكرر”، والذي افتُتح بالسؤال، “لماذا لا نوافق على عودة اللاجئين العرب خلال فترة الهدوء (في القتال)”؟ ويظهر بروز هذا السؤال، حسب تفسير حزكاني، كم كان شائعاً بين الجنود أنفسهم.
وحتى بعد الحرب، في العام 1949، أيد أكثر من ربع سكان تل أبيب عودة اللاجئين الفلسطينيين، وفقًا لاستطلاع أجراه مركز أبحاث الرأي العام في جيش الدفاع الإسرائيلي. واليوم، أصبحت العودة الفلسطينية شيئاً من المحرمات تقريبًا، ولم تتم مناقشتها مطلقًا في وسائل الإعلام أو بين الأحزاب السياسية اليهودية. ولذلك من المثير للاهتمام أن نلاحظ أن الرأي المعاصر، على الرغم من الثمن الباهظ الذي دفعه المجتمع الإسرائيلي في حرب كانت قد انتهت لتوها، اعتبر عودة الفلسطينيين مسألة مشروعة، بدعم من أقلية كبيرة.
التحدي الأخير الذي يوجهه الكتاب للقومية المنهجية يتعلق بالجنود اليهود القادمين من الدول العربية. لم ينجح حزكاني في تتبع قصص يهود آخرين مثل داود من الذين قاتلوا ضد جيش الدفاع الإسرائيلي. ولكن، حتى بين أولئك الذين تطوعوا وقاتلوا في الجيش الإسرائيلي، كان هناك قدر ملحوظ من الانتقاد. لم تؤد ظروف الحرب إلى الوحدة والتضامن، بل أدت إلى زيادة الحساسية تجاه العنصرية التي مورست ضد المزراحيين. وقد تفاجئ هذه الحقيقة أولئك الذين ينظرون اليوم إلى المزراحيم في إسرائيل على أنهم مثال للقومية المفرطة.
كتب نعيم، وهو جندي من شمال إفريقيا، إلى عائلته “أن يهود أوروبا الذين عانوا بشدة النازية الهتلرية يرون أنفسهم عرقًا متفوقًا، وأن السفارديم ينتمون إلى عرق أدنى. الأفريقي الفقير الذي جاء إلى هنا من بعيد دون أن تُطلب منه مغادرة وطنه بسبب التمييز العنصري يتعرض الآن للإذلال في كل منعطف”. وأوضح ميمون، وهو جندي آخر من شمال إفريقيا، لعائلته “أن أكل الخبز الجاف في المغرب أفضل من أكل الدجاج هنا. يجب أن تعلموا أن العرب إخواننا، على عكس اليهود الأشكناز الذين يجعلون حياتنا بائسة. مقابل كل الأموال في العالم، لن أبقى هنا”. وقد تلا رئيس أركان الجيش الإسرائيلي آنذاك، إيغال يادين، على ضباطه مقتطفات من رسائل تم اعتراضها والتي أرسلها جنود هاجروا مؤخرًا من العراق. وأعرب يادين عن قلقه من أن الغالبية لم تظهر مستوى العداء للعرب الذي كان قد توقعه.
وفقًا لمكتب الرقابة المدنية، الذي قرأ بريد مواطني شمال إفريقيا في إسرائيل الذي لم يتم إرساله عبر البريد العسكري، كان 60 في المائة من سكان شمال إفريقيا يحاولون بنشاط العودة إلى بلدانهم الأصلية، بينما أخبر 90 في المائة منهم أسرهم بعدم اللحاق بهم إلى إسرائيل خلال تلك السنوات. لكن إسرائيل صادرت جوازات سفرهم، على الأرجح لأنهم كانوا ما يزالون مفيدين للحكومة -حيث يوفرون العمالة الرخيصة ويتم إرسالهم ليسكنوا في المناطق التي تم تطهيرها مؤخرًا من سكانها الفلسطينيين.
يغطي الكتاب العديد من مجموعات الوثائق الأخرى، بما في ذلك رسائل مفجعة من لاجئين فلسطينيين نازحين حديثًا يأملون في عودة سريعة إلى ديارهم. ومع ذلك، اخترت التركيز على هذه التحديات الثلاثة لافتراضاتنا حول دوافع كلا الجانبين خلال العام 1948، لأن نظرتنا إلى الماضي غالبًا ما تُستخدم لإضفاء الشرعية على الحاضر والحيلولة دون قدوم مستقبل مختلف. كثيرًا ما يُقال لأولئك الذين يدافعون عن عودة اللاجئين الفلسطينيين إن الإسرائيليين في العام 1948 لم يكن لديهم خيار، وإن ظهورهم كانت إلى الجدار، أو إنهم كانوا يواجهون إبادة جماعية. كما قيل لنا إن قومية الإسرائيليين في الوقت الحاضر هي أمر لا مفر منه، حيث غالبًا ما يتحول المزراحيون إلى رموز للتطرف بسبب الكراهية التي اكتسبوها على مدى أجيال عديدة من العيش في البلدان العربية.
لا يقلب كتاب حزكاني نظرتنا إلى الماضي رأساً على عقب بشكل كامل، لكنه يضيف فارقًا بسيطًا، فيثبت أنه كان من الممكن أن ينظر الإسرائيليون، حتى في الأعوام الأولى للدولة، إلى جيرانهم العرب والفلسطينيين بشكل أقل كراهية مما أرادته القيادة الإسرائيلية في ذلك الوقت. وقد تم إنتاج هذه العداوة والقومية بجهد كبير، نتيجة للتلقين الممنهج. وإذا لم يكن مثل هذا العداء موجودًا دائمًا في الماضي، فقد لا يتعين عليه أن يظل جزءًا من مستقبلنا.

الغد