يستهل المؤرخ جون غازفينيان؛ إيراني المولد والحاصل على الدكتوراه في التاريخ من جامعة أكسفورد، كتابه «أميركا وإيران: التاريخ من 1720 حتى الوقت الحاضر»، من نقطة النهاية، موضحاً أن التحدي الأكبر أمامه يتمحور حول تحديد نقطة البداية. فمن وجهة نظر الأميركيين؛ تبدأ قصة بلادهم مع إيران عام 1979 مع أزمة الرهائن داخل السفارة الأميركية في طهران، لتتحول سطر النهاية للعلاقات الودية التي جمعت البلدين لأكثر من قرن.
في المقابل؛ تبدأ القصة من وجهة نظر الإيرانيين منذ عام 1953 عندما دبرت واشنطن انقلاباً داخل إيران عرف باسم «العملية أياكس»، أطاح رئيس الوزراء المنتخب ديمقراطياً محمد مصدق، وأعاد تنصيب الشاه.
ويرى غازفينيان أن العلاقات بين الجانبين تعود إلى مئات السنين، عندما كانت الولايات المتحدة لا تزال مجموعة من المستعمرات البريطانية، بينما كانت إيران لا تزال تُعرف للعالم الخارجي بـ«الإمبراطورية الفارسية».
صدر الكتاب في العام الحالي، ويقع في 667 صفحة؛ موزعة في 4 أجزاء تحمل أسماء الفصول الأربعة: يبدأ بـ«الربيع»؛ الذي ساد العلاقات خلاله شعور متبادل بالإعجاب، يليه «الصيف» الذي شهد التفاعلات الأولى بين الجانبين، ثم «الخريف» حيث الروابط الاستراتيجية الوثيقة، وأخيراً «شتاء» الكراهية الطويل والمظلم.
الربيع والصيف
حسب المؤلف؛ كان أول تفاعل شخصي بين الأميركيين والإيرانيين عبر تجار الروم (شراب مسكر) في القرن التاسع عشر، لكن التفاعل الأقوى جاء بين ثلاثينات القرن الـ19 وثلاثينات القرن الـ20 مع تدفق بعثات تبشيرية من الكنيسة المشيخية الأميركية على إيران لبناء مدارس ومستشفيات وكنائس، لافتاً إلى أن الحكومة الأميركية ظلت بمنأى عن هذا التفاعل، فحتى عام 1883 لم ترسل بعثة دبلوماسية رسمية إلى إيران، والتزمت بوجه عام نهجاً يتسم بالانعزالية المفرطة، وعلى النقيض، سعت طهران خلال القرن الـ19 ومطلع الـ20 إلى بناء علاقات رسمية وطيدة مع واشنطن.
أخيراً؛ بعد محاولات حثيثة على امتداد فترة طويلة من جانب قادة طهران، بدت الولايات المتحدة على استعداد للمشاركة بقدر أكبر في الوضع الإيراني. وبعد وقوف إدارة وودرو ويلسون إلى جانب إيران عام 1919، أمل الإيرانيون في استغلال الامتيازات النفطية طُعماً لإغواء الولايات المتحدة لإظهار نشاط أكبر في حماية المصالح الإيرانية، لكن كشفت الأيام عن خطأ هذه الحسابات؛ ذلك أنه في اللحظات الحاسمة لطالما تفوقت رغبة واشنطن في تجنب إثارة غضب لندن على رغباتها التجارية؛ بل حتى نزعاتها الأخلاقية.
في أكتوبر (تشرين الأول) 1925، صوت البرلمان الإيراني بأغلبية ساحقة بإنهاء حكم آل قاجار وتعيين رضا خان مسؤولاً عن إدارة البلاد، ليصبح لاحقاً رضا شاه بهلوي، ويتحول إلى القوة الدافعة الرئيسية لتحديث إيران.
وخلال عشرينات القرن الـ20، رحب رضا بالمدارس التبشيرية الأميركية، التي وصف المؤلف العلاقة بينها وبين رضا بأنها «قصة غرام»، وعدّ الحاكم الإيراني أن بمقدورها الاضطلاع بدور كبير في جهود تحديث البلاد؛ الأمر الذي حققته بالفعل.
وفي يوليو (تموز) 1941، وجهت بريطانيا وروسيا إنذاراً لرضا شاه بضرورة الانضمام للحلفاء وإعلان الحرب على ألمانيا، وإلا فسيواجه عواقب وخيمة، لكنه رفض. ومع استسلام الجيش الإيراني، أجبر رضا على التنحي ونفي إلى موريشيوس، لينصب ابنه محمد رضا بهلوي خلفاً له في سبتمبر (أيلول) 1941.
الخريف
عام 1951، شرع مصدق في تأميم شركة النفط الأنجلو – إيرانية. ورغم نصائح واشنطن المتكررة للندن بالتعامل مع مسألة التأميم بوصفها أمراً واقعاً، فإن لندن رفضت نصيحة واشنطن، ونقلت بريطانيا القضية إلى الأمم المتحدة عام 1951، ونجح مصدق من خلال كلمته أمام المحفل الدولي في كسب تأييد السواد الأعظم من الدول النامية، لدرجة أن مجلس الأمن قرار «إرجاء المناقشة»، ليعفي بريطانيا حرج هزيمة قانونية مذلة. وكشف استطلاع رأي أجراه «معهد غالوب» في ذلك الوقت عن أن اثنين في المائة فقط من الأميركيين يرون أنه ينبغي لبلادهم دعم بريطانيا ضد إيران.
وفي يونيو (حزيران) 1952، لجأت بريطانيا إلى محكمة العدل الدولية في لاهاي، ليسطر فيها مصدق نصراً ساحقاً، لدرجة أنه حتى الممثل البريطاني في الهيئة المؤلفة من 14 قاضياً صوت ضد بلاده للمرة الأولى في تاريخ المحكمة.
ومن ثم؛ رأت بريطانيا أن الوقت قد حان لتغيير النظام في إيران. ورغم رفض واشنطن الفكرة بادئ الأمر، فإنها رضخت في النهاية لرغبة حليفتها، لتقع بذلك في خطيئة لا تزال تبعاتها مستمرة لليوم.
محمد رضا بهلوي
مثل أجيال سابقة من القادة الإيرانيين، آمن محمد رضا بهلوي بأن السبيل الأمثل للحفاظ على استقلال إيران الاتكاء على قوة ثالثة تعمل بمثابة «حامٍ» لها في مواجهة بريطانيا وروسيا. وبينما تحول والده بأنظاره نحو ألمانيا، وقع اختيار الشاه على الولايات المتحدة، وجعل علاقته بها حجر زاوية في سياسته الخارجية.
أما واشنطن؛ فقد نظرت لإيران بعد الحرب العالمية الثانية بوصفها ساحة محتملة لاندلاع صراع بريطاني – سوفياتي، يمكن أن يتسبب في زعزعة الاستقرار العالمي، خصوصاً في ظل تمركز قوات بريطانية وروسية داخل إيران.
وخلال الفترة ما بين 1971 وسقوط الشاه عام 1979 الأخطر والأبرز في تاريخ العلاقات بين الجانبين أنه خلال تلك السنوات انهالت الأسلحة الأميركية على شاه إيران؛ الذي لم تكن واشنطن ترد له طلباً. عام 1972، أعطى وزير الخارجية الأميركي هنري كيسنجر «شيكاً على بياض» لطهران، ووجه بأن قرارات البنتاغون بخصوص مبيعات الأسلحة لإيران «ينبغي تركها بصورة أساسية للحكومة الإيرانية».
وآمن الرئيس ريتشارد نيكسون بفكرة أنه مقابل إمداد إيران بكميات هائلة من الأسلحة الأميركية، يمكن لطهران الاضطلاع بدور المنطقة العازلة التي تحمي المصالح الأميركية بالشرق الأوسط في مواجهة الاتحاد السوفياتي والمد الشيوعي من ناحية، وتيار القومية العربية من الناحية الأخرى؛ الأمر الذي عرف بـ«عقيدة نيكسون».
وفي ديسمبر (كانون الأول) 1977، قبل أسبوع واحد فقط من اندلاع الثورة، وقف الرئيس الأميركي جيمي كارتر أثناء مأدبة في طهران ليقترح شرب نخب إيران بوصفها «جزيرة الاستقرار داخل واحدة من أشد المناطق توتراً في العالم».
كلمة السر… أردشير زاهدي
في قلب العلاقات الوثيقة على نحو استثنائي بين بهلوي وواشنطن، جاء دور أردشير زاهدي الذي تولى منصب سفير إيران لدى الولايات المتحدة في الفترة ما بين 1973 و1978، ليتحول مقر السفارة الإيرانية في واشنطن على يديه إلى قبلة لكبار الشخصيات النافذة ونجوم المجتمع الأميركي. وداخل السفارة، اعتمد زاهدي على المخدرات والجنس للفوز بنفوذ في واشنطن، وأشارت قصص صحافية حينها إلى أن السفارة كانت مقراً لحفلات جنس جماعي أبطالها أعضاء في الكونغرس وصحافيون.
الشتاء
وبحسب الكتاب؛ فإنه بداية من عام 1963، بدأ نجم آية الله الخميني في الصعود. ولكن، وحتى نفيه للعراق في وقت لاحق، لم يفلح في تحقيق شعبية كبيرة بفضل سياسات الشاه القمعية. ويرى الكاتب أن الميزة الأهم للخميني طوال السنوات التي سبقت الثورة عام 1979 والفترة اللاحقة لها مباشرة تكمن في حرصه على الحديث عن أفكار عامة تلقى قبولاً من مختلف الأطياف الإيرانية، وحرصه على النأي بنفسه عن الوقوف إلى جانب طرف ما في مواجهة آخرين.
اللافت أن شبح انقلاب 1953 ظل يطارد الإيرانيين، وشكل الدافع الرئيسي وراء اقتحامهم مقر السفارة الأميركية في نوفمبر (تشرين الثاني) 1979 رداً على استضافة واشنطن الشاه، لتبدأ أزمة الرهائن الأميركيين الشهيرة، التي لا تزال تصوغ نظرة الأميركيين إلى إيران حتى اليوم.
أما السنوات التالية، فكانت سلسلة من التصريحات العدائية بين الجانبين، لم تخل من محاولات تقارب خلف الكواليس، باءت جميعها بالفشل، كانت أبرزها ما عرفت باسم «فضيحة إيران كونترا» عام 1986 عندما باعت إدارة رونالد ريغان أسلحة لإيران مقابل سعي الأخيرة للضغط على «حزب الله» للإفراج عن رهائن أميركيين في لبنان. ما زاد الوضع سوءاً كان رد الفعل الإيراني، وذلك مع خروج أكبر هاشمي رفسنجاني، رئيس البرلمان الإيراني حينها علناً ليستعرض إنجيلاً أرسل به ريغان هدية إليه، وقال: «لقد أقرت أميركا بأن الجمهورية الإسلامية منيعة ومنتصرة». وجاء جورج إتش. دبليو. بوش ليكرر مساعي حث إيران على معاونة واشنطن في إطلاق سراح الأميركيين بلبنان. وبالفعل، بذل رفسنجاني جهوداً كبيرة حتى نجح في إنجاز الأمر، ليفاجأ بالبيت الأبيض يعلن يوم الإفراج عن الرهائن أن «إيران تبقى دولة إرهابية»، مما شكل له صفعة مدوية.
وبعد وقوف الولايات المتحدة إلى جانب العراق ضد نظام الملالي بداية الثمانينات، انتهت الحال بها إلى ما عرفت بسياسة «الاحتواء المزدوج»، عادّةً النظامين؛ الإيراني والعراقي، «مارقَين».
ويوجز الكاتب القوى التي تقف عائقاً أمام حدوث تقارب بين واشنطن وطهران على النحو التالي: تيار اليمين المتشدد داخل النظام الإيراني المعتمد في بقائه على تأجيج خوف الإيرانيين من «البعبع الأميركي»، وإسرائيل التي ترى أن أي تقارب بين البلدين سيفقدها أهميتها بصفتها حليفاً استراتيجياً لواشنطن داخل الشرق الأوسط، ودول عربية تشكل أهمية كبرى للسياسة الخارجية الأميركية بالمنطقة ويتعذر على واشنطن تجاهل مخاوفها إزاء النظام الإيراني، وأخيراً اليمين الأميركي التقليدي والحزب الجمهوري بشكل كلي، والذي يؤمن بفكرة أن قوة أميركا تكمن في ضرورة ألا تظهر «ضعفاً» مطلقاً أمام العالم.
الشرق الأوسط