من يريد حربا باردة مع الصين

من يريد حربا باردة مع الصين

تتصاعد التوترات بين الولايات المتحدة والصين فهما تتصارعان على بسط نفوذهما في مناطق كثيرة من العالم، وتتنافسان تكنولوجيا وتشاركان في سباق تسلّح خطير، حتى أن الإدارة الأميركية الجديدة بقيادة جو بايدن شرعت في تغيير سياساتها الخارجية لمواجهة التنين الصيني، بينما يحذر محللون أميركيون من أن ذلك سيقود العالم حتما نحو حرب باردة جديدة قد تنقلب في أي وقت إلى حرب نووية مدمرة.

واشنطن – عندما أعلن الرئيس جو بايدن ورئيس الوزراء الأسترالي سكوت موريسون ورئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون عن تحالف أوكوس ركزت معظم وسائل الإعلام على جزء صغير نسبيا -رغم أنه ليس مهما- من الصفقة: بيع الولايات المتحدة الغواصات التي تعمل بالطاقة النووية إلى أستراليا وإلغاء أستراليا المتزامن عقد 2016 لشراء غواصات تعمل بالديزل من فرنسا.

ووصف وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان، في مواجهة خسارة عشرات المليارات من اليوروهات، الصفقة بأنها “طعنة في الظهر”. واستدعت فرنسا لفترة وجيزة سفيرها من واشنطن لأول مرة في التاريخ، حتى أن المسؤولين الفرنسيين ألغوا حفلا كان هدفه الاحتفال بالشراكة الفرنسية – الأميركية التي تعود إلى هزيمة بريطانيا العظمى في الحرب الثورية.

وبعد أن فوجئت إدارة بايدن بالضجة حول التحالف والمفاوضات السرية التي سبقته، اتخذت خطوات لإصلاح العلاقات على الفور، وسرعان ما عاد السفير الفرنسي إلى واشنطن. وفي منظمة الأمم المتحدة أعلن الرئيس بايدن في سبتمبر أن آخر ما يريده هو “حرب باردة جديدة أو عالم منقسم إلى كتل جامدة”. لكن للأسف تشير تصرفات إدارته إلى غير ذلك.

ويقول ديفيد فاين أستاذ الأنثروبولوجيا بالجامعة الأميركية “إننا نحتاج أن نسأل أنفسنا سؤالا حاسما قبل فوات الأوان: هل نريد حربا باردة جديدة مع الصين حقا؟ لأن هذا هو المكان الذي تأخذنا إليه إدارة بايدن. وإذا كنت بحاجة إلى دليل لتصدق، فاطلع على إعلان الشهر الماضي عن التحالف العسكري أوكوس (أستراليا، المملكة المتحدة، الولايات المتحدة) في آسيا”.

هل حقا نريد مستقبلا من الخوف؟ هل نريد أن تهدر الولايات المتحدة وعدوها المفترض مرة أخرى تريليونات الدولارات على النفقات العسكرية مع إهمال الاحتياجات الإنسانية الأساسية، بما في ذلك الرعاية الصحية الشاملة والتعليم والغذاء والإسكان، ناهيك عن الفشل في التعامل بشكل مناسب مع تغير المناخ، وهو التهديد الوجودي الآخر الذي يلوح في الأفق؟

حشد عسكري أميركي في آسيا

ديفيد فاين: واشنطن يجب أن تسلك نهجا أفضل من الحرب الباردة

تخيل كيف سيكون شعور مسؤولي إدارة بايدن بشأن الإعلان عن تحالف بين فنزويلا وروسيا والصين. تخيل كيف سيكون رد فعلهم على حشد القواعد العسكرية الصينية والآلاف من القوات الصينية في فنزويلا. تخيل رد فعلهم على عمليات نشر منتظمة لجميع أنواع الطائرات العسكرية الصينية والغواصات والسفن الحربية في فنزويلا، لزيادة التجسس وقدرات الحرب الإلكترونية المتزايدة و”الأنشطة” الفضائية ذات الصلة، فضلا عن التدريبات العسكرية التي تشارك فيها الآلاف من القوات الصينية والروسية في فنزويلا وفي مياه المحيط الأطلسي على مسافة قريبة من الولايات المتحدة. كيف سيكون شعور فريق بايدن حيال التسليم الموعود لأسطول من الغواصات التي تعمل بالطاقة النووية إلى ذلك البلد، بما في ذلك نقل التكنولوجيا النووية واليورانيوم المستخدم في صنع الأسلحة النووية؟

لم يحدث أي من هذا، ولكن هذه المبادرات ستكون مماثلة “لمبادرات وضع القوة الرئيسية” التي أعلن عنها للتو مسؤولون أميركيون وأستراليون وبريطانيون لشرق آسيا. ومن غير المفاجئ أن يصور مسؤولو أوكوس تحالفهم على أنه يجعل أجزاء من آسيا “أكثر أمنا وأمانا”، بينما يبني “مستقبل سلام وفرصة لجميع شعوب المنطقة”. ومن غير المحتمل أن ينظر قادة الولايات المتحدة إلى حشد عسكري صيني مماثل في فنزويلا أو في أي مكان آخر في الأميركتين على أنه وصفة مماثلة للسلم والسلام.

فإنْ حدث ذلك ستكون الدعوات إلى رد عسكري وتحالف مماثل سريعة. ألا يجب أن نتوقع من القادة الصينيين أن يتفاعلوا مع هذا الأمر بنسختهم الخاصة؟ في الوقت الحالي اقترح متحدث باسم الحكومة الصينية أن على حلفاء أوكوس “التخلص من عقلية الحرب الباردة” و”عدم بناء كتل إقصائية تستهدف أو تضر بمصالح الأطراف الثالثة”. وقد يكون التصعيد الأخير من قبل الجيش الصيني للمناورات الاستفزازية بالقرب من تايوان ردا إضافيا.

كما أن لدى القادة الصينيين سببا إضافيا للشك في النية السلمية المعلنة لأوكوس بالنظر إلى أن الجيش الأميركي لديه بالفعل سبع قواعد عسكرية في أستراليا وما يقرب من 300 أخرى منتشرة في جميع أنحاء شرق آسيا. وعلى النقيض من ذلك ليس للصين قاعدة واحدة في نصف الكرة الغربي أو في أي مكان بالقرب من حدود الولايات المتحدة. أضف عاملا آخر: في العشرين سنة الماضية يتمتع حلفاء أوكوس بسجل حافل من الحروب العدوانية والمشاركة في صراعات أخرى من أفغانستان والعراق وليبيا إلى اليمن والصومال والفلبين، من بين أماكن أخرى، بينما كانت آخر حرب للصين خارج حدودها مع فيتنام لمدة شهر واحد في 1979 (وقعت اشتباكات مميتة مع فيتنام في 1988 والهند في 2020).

بسحب القوات من أفغانستان تكون إدارة بايدن قد شرعت نظريا في إبعاد البلاد عن سياسة القرن الحادي والعشرين المتمثلة في الحروب التي لا نهاية لها. ومع ذلك يبدو الرئيس بايدن الآن مصمما على الوقوف إلى جانب أولئك الموجودين في الكونغرس الذين يضخمون بشكل خطير التهديد العسكري الصيني ويدعون إلى رد عسكري على قوة هذا البلد العالمية المتنامية.

وبالنظر إلى 20 عاما من الحرب الكارثية التي أعقبت إعلان إدارة جورج دبليو بوش عن “حرب عالمية على الإرهاب” وغزوها أفغانستان في 2001، ما هي الأعمال التجارية التي تمتلكها واشنطن لبناء تحالف عسكري جديد في آسيا؟ ألا ينبغي لإدارة بايدن بدلا من ذلك أن تبني تحالفات مكرسة لمكافحة الاحتباس الحراري والأوبئة والجوع والاحتياجات الإنسانية الملحة الأخرى؟ لماذا يحاول ثلاثة زعماء بيض من ثلاث دول ذات أغلبية بيضاء السيطرة على تلك المنطقة بالقوة العسكرية؟

الرئيس بايدن مصمم على السياسة الخارجية السائدة التي تدعو إلى رد عسكري على قوة الصين العالمية المتنامية

وفي حين رحب قادة بعض الدول هناك بأوكوس أبرز الحلفاء الثلاثة الطبيعة الاستعمارية العنصرية والرجعية لتحالفهم من خلال استبعاد الدول الآسيوية الأخرى من ناديهم الأبيض. ومن شأن جعل الصين هدفا واضحا وتصاعد التوترات على غرار الحرب الباردة أن يؤججا العنصرية المتفشية بالفعل ضد الصين وآسيا في الولايات المتحدة وعلى مستوى العالم.

وأشارت دول إلى أنها “قلقة للغاية بشأن استمرار سباق التسلح وإظهار القوة” هناك.

ويقول فاين إنه ينبغي أن يشعر الناس في جميع أنحاء العالم بقلق عميق بشأن بيع واشنطن الغواصات التي تعمل بالدفع النووي. ويقوض الاتفاق الجهود المبذولة لوقف انتشار الأسلحة النووية لأنه يشجع على نشر التكنولوجيا النووية واليورانيوم عالي التخصيب المستخدم في صنع الأسلحة، واللذين ستحتاج الحكومتان الأميركية والبريطانية إلى توفيرهما لأستراليا لتزويد الغواصات بالوقود. كما يوفر الاتفاق سابقة تسمح لدول أخرى غير نووية مثل اليابان بالمضي قدما في تطوير الأسلحة النووية تحت ستار بناء غواصات تعمل بالطاقة النووية. فما الذي يمنع الصين أو روسيا من بيع الغواصات التي تعمل بالطاقة النووية واليورانيوم المستخدم في صنع الأسلحة لإيران أو فنزويلا أو أي دولة أخرى؟

قد يزعم البعض أن على الولايات المتحدة مواجهة قوة الصين العسكرية المتنامية، والتي كثيرا ما تروج لها وسائل الإعلام الأميركية. وكان الصحافيون والمحللون والسياسيون هنا يرددون بشكل غير مسؤول الصور المضللة للقوة العسكرية الصينية على نحو متزايد.

ويؤدي مثل هذا التخويف بالفعل إلى تضخم الميزانيات العسكرية في هذا البلد، بينما يؤجج سباقات التسلح ويزيد التوترات، تماما كما حدث خلال الحرب الباردة الأصلية. والمقلق -وفقا لاستطلاع أجراه مجلس شيكاغو للشؤون العالمية مؤخرا- هو أن الغالبية في الولايات المتحدة تعتقد الآن أن القوة العسكرية الصينية تساوي قوة الولايات المتحدة أو تفوقها. وفي الواقع تتجاوز قوتنا العسكرية قوة الصين بشكل كبير، والتي لا تقارن بالاتحاد السوفييتي القديم.

وعززت الحكومة الصينية بالفعل قوتها العسكرية في السنوات الأخيرة من خلال زيادة الإنفاق، وتطوير أنظمة أسلحة متطورة، وإنشاء قواعد عسكرية. ومع ذلك تظل ميزانية الولايات المتحدة العسكرية على الأقل ثلاثة أضعاف حجم نظيرتها الصينية. أضف الميزانيات العسكرية في أستراليا واليابان وكوريا الجنوبية وتايوان وحلفاء الناتو الآخرين -مثل بريطانيا العظمى- وستجد ست قوات في مواجهة واحدة.

كيف سيكون شعور فريق بايدن حيال التسليم الموعود لأسطول من الغواصات التي تعمل بالطاقة النووية إلى فنزويلا، بما في ذلك نقل التكنولوجيا النووية واليورانيوم المستخدم في صنع الأسلحة النووية؟

وعلى عكس ما يعتقد الكثيرون، ليست الصين تحديا عسكريا للولايات المتحدة. ولا يوجد دليل على أن لحكومتها فكرة تهديد الولايات المتحدة، ناهيك عن مهاجمتها. تذكّر أن الصين خاضت حربا آخر مرة خارج حدودها في 1979.

وانخرط الجيش الأميركي على مدى عدة سنوات في بناء قواعد جديدة وتدريبات عسكرية عدوانية واستعراض للقوة العسكرية في المنطقة، منذ تحول الرئيس باراك أوباما إلى آسيا. وقد شجع هذا الحكومة الصينية على بناء قدراتها العسكرية الخاصة في الأشهر الأخيرة على وجه الخصوص، وانخرط الجيش الصيني في مناورات استفزازية بشكل متزايد بالقرب من تايوان، على الرغم من أن مثيري الخوف مرة أخرى يحرّفون ويبالغون في تهديدهم.

وبالنظر إلى خطط بايدن لتصعيد حشود أسلافه العسكرية في آسيا لا ينبغي أن يتفاجأ أحد إذا أعلنت بكين ردا عسكريا واتجهت نحو تحالفها الخاص مثل أوكوس. وإذا كان الأمر كذلك فسيكون العالم عالقا مرة أخرى في صراع ثنائي شبيه بالحرب الباردة وقد يكون حله صعبا بشكل متزايد.

ويرى ديفيد فاين أنه ما لم تخفف واشنطن وبكين التوترات قد يعتبر المؤرخون المستقبليون أن تحالف أوكوس لا يشبه فقط التحالفات المختلفة في حقبة الحرب الباردة، وإنما أيضا التحالف الثلاثي عام 1882 بين ألمانيا والنمسا والمجر وإيطاليا أيضا.

الإدارة الأميركية الجديدة بقيادة جو بايدن شرعت في تغيير سياساتها الخارجية لمواجهة التنين الصيني

ويقول الأكاديمي الأميركي إن إدارة بايدن يجب أن تسلك نهجا أفضل من إحياء استراتيجيات القرن التاسع عشر وحقبة الحرب الباردة. ويمكن أن يُلزم الرئيس بايدن الولايات المتحدة بسياسة خارجية تتمثل في الدبلوماسية وبناء السلام ومعارضة الحرب بدلا من صراع لا نهاية له في أعقاب الحرب الأفغانية. وتوفر فترة استشارة أوكوس الأولية، والتي تبلغ 18 شهرا، فرصة لعكس المسار.

وتشير استطلاعات الرأي الأخيرة إلى أن مثل هذه التحركات ستحظى بشعبية، حيث يرغب أكثر من ثلاثة أضعاف في الولايات المتحدة في رؤية زيادة المشاركة الدبلوماسية في العالم، لا انخفاضها، وفقا لمؤسسة مجموعة أوراسيا غير الربحية.

لقد نجا العالم بالكاد من الحرب الباردة الأصلية، والتي كانت غير باردة بالنسبة إلى الملايين من الأشخاص الذين عاشوا أو ماتوا في الحروب بالوكالة أثناء تلك الحقبة في أفريقيا وأميركا اللاتينية وآسيا. فهل يمكننا حقا المخاطرة بنسخة أخرى من نفس الشيء، مع روسيا والصين هذه المرة؟ هل نريد سباق تسلح وحشودا عسكرية متنافسة من شأنها تحويل تريليونات الدولارات إلى خزائن صانعي الأسلحة عوضا عن استثمارها في الاحتياجات البشرية الملحة؟ هل نرغب حقا في المخاطرة بإثارة صراع عسكري بين الولايات المتحدة والصين يمكن أن يخرج بسهولة عن السيطرة ويصبح حربا ساخنة، وربما نووية، ما يجعل مشاهد الموت والدمار خلال حروب العشرين عاما تبدو صغيرة بالمقارنة بها؟

العرب