مع إعلان النتائج الأولية الكاملة للانتخابات العراقية في 17 أكتوبر، تجدد الجدل حول شروط تحديد الكتلة الأكبر عدداً القادرة على تشكيل الحكومة القادمة، وعما إذا كان الصدر أم المالكي هو الذي سيتجه إلى تشكيل الحكومة القادمة.
الجدل حول الكتلة الأكبر:
تجدد الجدل بعد الانتخابات البرلمانية حول مفهوم الكتلة الأكبر في البرلمان العراقي، خاصة بعد إعلان المالكي سعيه لتشكيل الكتلة الأكبر حجماً، وهو ما يمكن تفصيله على النحو التالي:
1- تشكيل الكتلة الأكبر عدداً الحكومة: تنص المادة 76 من الدستور العراقي على: “يكلف رئيس الجمهورية مرشح الكتلة النيابية الأكثر عدداً بتشكيل مجلس الوزراء خلال خمسة عشر يوماً من تاريخ انتخاب رئيس الجمهورية”. وفي الممارسة العملية، فإن مفهوم الكتلة الأكبر الذي اعتمده مجلس النواب العراقي في مختلف الدورات السابقة، هي الكتلة التي تتشكل بعد الانتخابات من عدة ائتلافات برلمانية.
2- الحفاظ على تماسك الأحزاب: تنص المادة 45 من قانون الانتخابات الجديد رقم 9 الصادر في العام 2020، على أنه “لا يحق لأي نائب أو حزب أو كتلة مسجلة ضمن قائمة مفتوحة فائزة بالانتخابات الانتقال إلى ائتلاف أو حزب أو كتلة أو قائمة أخرى إلا بعد تشكيل الحكومة بعد الانتخابات مباشرة، من دون أن يخل ذلك بحق القوائم المفتوحة، أو المنفردة المسجلة قبل اجراء الانتخابات من الائتلاف مع قوائم أخرى بعد اجراء الانتخابات”.
ويقصد بهذه المادة أنه لا يحق لحزب سياسي فائز بعدد معين من المقاعد أن ينضم إليه أعضاء آخرون ممثلون لأحزاب وكتل أخرى، أي أن يقوموا بتغيير انتمائهم الحزبي، أو أن يندمج حزبين معاً لتشكيل حزب جديد، ولكنه لا يمنع من تحالف الأحزاب والكتل معاً لتشكيل ائتلاف حكومي لقيادة الحكومة القادمة. ويهدف هذا الإجراء للحفاظ على تماسك الأحزاب والكتل السياسية، ويمنع انتقال أعضائها لكتل أخرى، وهو أمر شهده العراق في الانتخابات البرلمانية السابقة.
وهدفت هذه المادة، على ما يبدو، إلى منع تكرار ما حصل في انتخابات 2010 عندما نال نوري المالكي 89 صوتاً وأياد علاوي 91 صوتاً، غير أن انتقال نواب من كتلة إلى أخرى كان غير ممنوعاً حينها، ولذلك انتقل عدد من الأعضاء للمالكي ما جعل أعداد كتلته أكثر من 100 صوت، أي أكثر من عدد أصوات علاوي، ما ترتب عليه تكليف المالكي بتشكيل الحكومة العراقية.
ومن جهة أخرى، فإن تفسيرات المحكمة الاتحادية العليا 2010 و2014 تؤكد أن الكتلة الأكثر عدداً هي إما التي تكونت بعد الانتخابات من قائمة واحدة، أو التي تكونت من قائمتين أو أكثر، فأصبحت الكتلة الأكثر عدداً في الجلسة الأولى بعد أداء اليمين.
3- إعلان المالكي تشكيل الكتلة الأكبر عدداً: أعلنت كتلة دولة القانون بزعامة المالكي، في 16 أكتوبر، تمسكها بتشكيل الحكومة الجديدة بعدما تحالفت مع كتل أخرى ونواب مستقلين لتصبح الكتلة النيابية الاكبر، وترشيح المالكي لرئاسة الوزراء.
وأعلنت دولة القانون أنها عقدت تحالفاً استراتيجياً مع أغلب الكتل والقوائم الفائزة بالانتخابات ضمن كيان جديد اسمته “الإطار التنسيقي”، والذي بات يضم حوالي 93 نائباً، وأن التحالف الجديد يضم دولة القانون (34 مقعداً)، وتحالف الفتح (17 مقعداً)، وعصائب أهل الحق، وكتلة حقوق (الموالية لكتائب حزب الله العراقي)، وتيارات أخرى الى جانب بعض المستقلين.
ومن الواضح أن هذا الإعلان يدخل في إطار شن الحرب النفسية ضد الصدر، خاصة مع إعلان “الإطار التنسيقي” رفضه نتائج الانتخابات، وتلويحه بالنزول للشارع، وهو ما يعني أنه فقد عملياً أمل تشكيل الحكومة القادمة.
ومن جهة أخرى، فإن التيار الصدري (73 مقعداً) والقوى الشيعية المناوئة لطهران، خاصة حركة امتداد (9 مقاعد)، والمستقلون المتحالفون مع ثورة تشرين (11 – 30 مقعداً) تشكل معاً حوالي 93 – 112 مقعداً، وهو ما يعني أنه لا يمكن نظرياً أن يتمكن الإطار التنسيقي من تجميع عدد المقاعد التي أعلن عنها ما لم يتحالف مع كتل أخرى، خارج الأحزاب الشيعية.
وجرت العادة في الانتخابات العراقية السابقة أن تقوم الكتلة الشيعية الأكبر عدداً بتشكيل الحكومة الجديدة، أي أن التحالف يتم بين الأحزاب القوى الشيعية لتشكيل الكتلة الأكبر عدداً، ثم تتفاوض مع الكتل الأخرى السنية والكردية. وإذا ما تمت الحفاظ على هذه القاعدة، فإن الصدر سوف يتمكن من تشكيل الحكومة القادمة، ويمكن أن يلجأ الصدر إلى قطع الطريق أمام المالكي، إذا تحالف مع إحدى الأحزاب السنية أو الكردية، وتحديداً حزب الحلبوسي (37 مقعداً)، أو البرزاني (32 مقعداً)، وهما الأقرب له.
سيناريوهات تشكيل الحكومة:
تتمثل خيارات تشكيل الحكومة القادمة في بغداد، وانعكاسها على النفوذ الإيراني في التالي:
1- حكومة عابرة للطائفية: يتمثل هذا السيناريو في تشكيل تحالف بين التيار الصدري (73 مقعداً)، والحلبوسي (37 مقعداً)، والتحالف الكردستاني بزعامة مسعود البرزاني (32 مقعداً)، وسوف يكون عدد مقاعد هذا التكتل حوالي 142 مقعداً، أي أنه يقل عن عدد المقاعد اللازمة لتشكيل الحكومة، وهو 165 مقعد بحوالي 23 مقعد فقط. ويمكن أن يتم الحصول على هذه المقاعد من خلال التحالف مع تحالف “عزم” (12 مقعداً)، و”تحالف الوطني الكردستاني” (16 مقعداً)، أو أيهما وبعض المستقلين، والذين يقدر عددهم بنحو 40 مستقلاً.
ولاشك أن مثل هذه الحكومة سوف تستبعد حلفاء إيران، كما أنها ستعني عملياً تشكيل أول حكومة أغلبية في تاريخ العراق، إذ أن الحكومات السابقة بعد الاحتلال الأمريكي للعراق ضمت القوى السياسية كافة الناجحة في الانتخابات.
وسوف يمثل مثل هذا السيناريو انتكاسة لنفوذ طهران، ليس فقط باستبعاد حلفائها، ولكن كذلك نظراً لأن مثل هذا السيناريو يعني أن القاعدة، التي سعت إيران لإرسائها بتشكيل حكومة عراقية بالتوافق أولاً بين الكتل الشيعية سوف تلغى هذه المرة.
ومن جهة ثالثة، فإن مثل هذه الحكومة سوف تمثل مؤشراً على تغليب الوطنية العراقية على الطائفية المدعومة إيرانياً، وهي كلها ضربة موجعة لطهران. ولذلك، فإنه يمكن النظر إلى تلويح ميليشيات إيران بتوظيف القوة المسلحة بأنه خيار طهران الأخير في حالة نجاح الصدر في تشكيل مثل هذه الحكومة.
2- حكومة ميليشيات طهران: يفترض هذا السيناريو أن يقوم نوري المالكي بقيادة القوى الشيعية المتحالفة مع إيران، فقد فاز الأخير بـ 37 مقعداً، لذا قد يتجه للتحالف مع خصوم الصدر، وتحديداً “الفتح” (17 مقعداً) و “قوى الدولة” (4 مقاعداً)، إلا أن هذا التحالف، في حال حدوثه، لن يتمكن من جمع سوى 58 مقعداً فقط، وهي نسبة تقل كثيراً عن الأغلبية البسيطة التي تمكن من تشكيل الحكومة، وهي 165 مقعداً، الأمر الذي يفرض عليها تشكيل تحالفات مع أطراف أخرى. ولذا أعلن المالكي عن محاولته لحشد مقاعد تزيد من عدد مقاعد الصدر (73 مقعداً)، وذلك عبر التحالف مع كافة القوى الشيعية والمستقلين لسرقة استحقاق تشكيل الحكومة من الصدر، وهو أمر صعب تصوره بالنظر إلى أن أغلب المستقلين، وفقاً للتقديرات الأولية، محسوبين على ثورة تشرين.
وقد يتجه المالكي للتحالف مع كتل غير شيعية مثل الأكراد لتجاوز مقاعد الصدر، وهو سيناريو صعب للغاية، ولكنه ليس مستحيلاً. وتتمثل الصعوبة في تاريخ المالكي مع الأكراد، إذ أنه سبق وأن نكص عن وعوده للأكراد، وعمد إلى تهميشهم، وذلك بخلاف رئيس الوزراء العراقي الحالي، مصطفى الكاظمي. ولذلك، فإن أي وعود مقدمة من المالكي للأكراد سوف ينظر إليها بعين الشك.
ولاشك أن مثل هذا السيناريو سوف يحافظ على النفوذ الإيراني في العراق، ولكنه سوف يكون له تداعيات على الاستقرار في العراق، خاصة أن أغلب تيارات الشعب العراقي قد عبرت عن رفضها للدور الإيراني السلبي والطبقة السياسية المرتبطة بها.
3- حكومة جامعة: يعيد هذا السيناريو إعادة إنتاج الحكومات العراقية السابقة نفسها، أي مشاركة كل القوى الفائزة في الانتخابات في الحكومة. ويمكن أن يتحقق هذا السيناريو في حالة عجز الصدر وخصومه في حصد الأغلبية، إذ يمكن أن تتجه طهران للضغط على الأكراد، أو بعض أحزابهم، خاصة التحالف الوطني الكردستاني وبعض القوى السنية من أجل تثبيطهم عن الانضمام لحكومة الصدر لإحباط جهوده في تشكيل الحكومة القادمة، حتى في حالة تكليفه رسمياً بتشكيلها.
وفي ظل هذا السيناريو، فإنه لن يكون أمام الصدر والمالكي سوى الاتفاق على إشراك القوى الشيعية كافة في الحكومة الجديدة. ويساعد مثل هذا السيناريو على حفظ ماء وجه إيران، ويمنحها القدرة على الادعاء بأنها لم تخسر نفوذها. غير أنه سوف يمثل انتكاسة للجهود الرامية لإخراج العراق من تحت دائرة النفوذ الإيراني، ولو مرحلياً.
وفي الختام، تكشف مجمل التطورات السابقة في العراق عن تراجع نفوذ طهران، إلا أنها سوف تسعى لمحاولة استيعاب ذلك سياسياً، عبر محاولة سرقة تكليف الحكومة القادمة من الصدر، أو تشكيل حكومة جامعة، وإن أخفقت، فإنها سوف تعمل على توظيف القوة العسكرية عبر ميليشياتها لفرض نفوذها في العراق، وهو سيناريو غير مأمون العواقب، وسوف يزيد من حجم الكراهية لها في الشارعين العربي والشيعي.
المستقبل للدراسات