تذهب المجتمعات برفقة الأحزاب الحاكمة والمعارضة إلى الانتخابات الاعتيادية، لتجديد الدماء في العملية السياسية، ولتحقيق المزيد من النجاحات على الصُعد كافة، وضخ فرص تقدم أخرى في المسار نحو المستقبل المنظور وما بعده. كما تذهب أيضا إلى الانتخابات المبكرة في حالات الاستعصاء السياسي، وانسداد آفاق الحل، لفتح كوة في جدار الأزمات يسطع منها ضوء جديد ينير الطريق، لكن هذه المسارات ليست اعتباطية، بل محكومة بطبيعة بنية القوى السياسية، وتركيباتها العقائدية، وتحقيق الدولة الوطنية، والتدخلات الدولية والإقليمية.
كما أنها محكومة أيضا بطبيعة النُخب التي تدرك الواقع، وتعرف جيدا حقيقة التطور المنطقي وحركة التاريخ، فتطور نفسها وصولا إلى أرقى النماذج الديمقراطية.
أما في الدول التي تكون فيها القوى السياسية الممسكة بالسلطة هوياتية، وترفض تحجيم سلطاتها، وتتنازعها دعوات متقاطعة واتجاهات متعاكسة.. بعضها يريد دولة مركزية قوية، والآخر يدعو إلى سلطات محلية قوية.. والبعض يريد برلمانا تابعا للسلطة، والآخر يريده مستقلا عنها، فإن أي شكل من أشكال الانتخابات فيها يصبح تفجيرا لكل هذه التقاطعات، وتأزيما للوضع القائم. وبالتالي تدخل البلاد في مزيد من التعقيد، وتصبح النتائج أكثر كارثية مما سبق، وإذا كان أحد محاسن الديمقراطية أنها توفر آلية تصحيح الأخطاء من داخل مؤسسات السلطة، فإن الديمقراطيات الزائفة والانتخابات الشكلية، توفر المزيد من الأسلحة لهدم المجتمعات والدول من الداخل، وتحويلها إلى كيانات هشة فاشلة، كما هو الحاصل اليوم في العراق. ففي هذا البلد يتواصل الجدل القائم حول الانتخابات، التي جرت في العاشر من الشهر الجاري، وفي خضم هذا الجدل يتضح بصورة جلية أن الفرقاء السياسيين لا يؤمنون بشيء اسمه الانتخابات، ولا بالعملية الديمقراطية. وهم بهذا السلوك يثبتون للرأي العام المحلي والدولي، أنهم كانوا متوافقين على كذبة كبرى تسمى الانتخابات، وخديعة أكبر تسمى الديمقراطية. وعندما اختلفت أوراق اللعب في هذه الفرية، اختلت معادلة المصالح الخاصة في ما بينهم، وظهر المعدن الحقيقي لهم، وبانت النوايا المبيتة بعضهم ضد بعضهم الآخر. فعادوا مرة أخرى لوضع السلم الأهلي رهانا يبتزون به شركاءهم المحليين والإقليميين والدوليين. وإذا كانت عورة هذا النظام السياسي العراقي كبيرة، فإن عورة المجتمع الدولي أكبر من أن تغطيها كل التبريرات في هذا الحدث. ويصبح حديثهم عن عملية ديمقراطية جارية في العراق، وأنهم يقدمون لها الدعم ويوفرون لها أسباب التقدم والتطور محض هراء، فمن السهل القول إن هنالك عملية ديمقراطية وانتخابات اعتيادية ومبكرة في العراق، لكن كل ذلك يتبخر عند النظر إلى الواقع، حين نرى أن هذه الممارسات لم تكن في سياق مسيرة الانتقال الطوعي والأغلبي نحو الديمقراطية الدستورية، بل كانت في سياق رغبة دولية لرسم مشهد يبرر الغزو والاحتلال، الذي جرى في عام 2003، ويُجمّل العطب السياسي والاقتصادي والأمني والاجتماعي والثقافي والفكري، الذي حصل في السنوات اللاحقة، وبذلك سقط اليقين الذي كان البعض يعتصمون به، عندما كانوا يريدون تبرير التحاقهم بالعملية السياسية، أو الانفتاح عليها، بأنها ستطور نفسها من الداخل، وتصل إلى حالة الديمقراطية الحقة، فلم تعد اليوم منصة ما يسمى «الديمقراطية والانتخابات في العراق» مرجعا موثوقا، بل باتت ظاهرة سياسية فاسدة ومقياسا يقاس به الفساد السياسي في دول العالم التي تعاني ظروفا مشابهة لما يمر به هذا البلد. لقد صفّح الحاضنون الدوليون والإقليميون الطبقة السياسية الفاسدة في العراق.. وأشاعوا حولها مجموعة من الصفات التمثيلية الطائفية والإثنية كي تصبح لديها قداسة.. كما صوروها على أنها طبقة سياسية متقدمة يمكن الاعتماد عليها في نقل البلد والمجتمع إلى الحداثة والتطور، لكن الثمانية عشر عاما الماضية أثبتت أنهم لا يملكون أي مشروع للتغيير، وأن المجتمع الدولي الداعم لهم أيضا لم يكن لديه أي مشروع، سواء كان إصلاحيا أم جذريا في العراق. كما أن كل السياسة التي ظهرت في الواقع العراقي ثبت بالدليل العملي أنها سلوك معطوب، وعبارات جوفاء، لم تنصرف إلى البحث لنفسها عن الموارد الغذائية التي تتغذى بها، كي تقدم برامج رؤيوية حقيقية للمجتمع، بل كانت فقط من أجل التحشييد والتجييش، وقضاء أعمال مرحلية محكومة بظرف معين ومصالح خاصة محلية وإقليمية ودولية. كما تم تحويل كل حملة سياسية إلى حقل ألغام أخلاقي، وكل ممارسة في سياق ما يسمى «الديمقراطية العراقية» إلى مصائد مغفلين، مع تبني الحلول التي تزيد من حدة الانقسامات الاجتماعية، وتأتي بكلف باهظة، وعليه بقيت الهياكل المتعثرة للدولة وتناقضاتها موجودة ليراها الجميع، لأن الديمقراطية تحتاج إلى ديمقراطيين، إضافة إلى آليات الحكم الديمقراطي.
الديمقراطيات الزائفة والانتخابات الشكلية، توفر المزيد من الأسلحة لهدم المجتمعات والدول من الداخل، وتحويلها إلى كيانات هشة فاشلة
إن المفارقة الكبرى اليوم هي أن غالبية القوى السياسية تتحدث عن تزوير حصل في الانتخابات الأخيرة، واتهامات لأياد أجنبية تلاعبت بالنتائج، وأن كل ذلك حدث بإشراف وتواطؤ حكومي، في حين أنهم هم من يحكمون، والمفوضية العليا للانتخابات هم من شكلها. كما يتناسون أنهم أنفسهم مجرد أدوات لفاعلين إقليميين ودوليين، وإن الحكومة هم الذين صوتوا على استيزارها. أما التزوير الذي يدعون حصوله فإن العملية السياسية برمتها قائمة على التزوير، ولهذا السبب لم تتغير ألوان ومسميات التوزيعات السياسية طوال أربع عمليات انتخابية زائفة، ولا التوافقات التي تحصل من أجل الحصول على المناصب والوزارات، في ظل قسمة طائفية إثنية مذهبية، لذلك واهم من يعتقد أن تعديل المسار السياسي العراقي يمكن أن يتم بقانون جديد للانتخابات، وبنظام الدوائر المتعددة المغلقة، وبتوفير فرصة الترشح، من دون الحاجة للانضواء في قائمة حزب ما، فقد تبين أن من ترشحوا بصفة مستقلين إنما كانوا بيادق ضمن لعبة الأحزاب الانتخابية. وها قد عاد أغلبهم للانضواء في قوائم الأحزاب التي دفعت بهم للترشح كمستقلين، ما يعني بشكل لا لبس فيه أن كل هذه الاجراءات لن تمس جوهر المشكلة، الذي يتمثل بالشروط السياسية للقوى المهيمنة على المشهد، وبأذرعها المسلحة التي ترسم الحدث بالإرهاب والتخويف والابتزاز، وبسطوة المال الذي يوفر لها القدرة على شراء الذمم والضمائر وغفلة البعض. وإذا ما علمنا أن هذه القوى ترى في كياناتها المعنوية والمادية أنها هي القانون والدستور، فإن كل الإجراءات التي تحصل على العمليات الانتخابية، هي مجرد عمليات تجميل لا تُغيّر من حقيقة الوضع القائم.
قد يقول البعض إن صناديق الاقتراع قادرة على إعادة الأمل المفقود بالتغيير. كيف وقد جردته السلطات الغاشمة والقوى الدولية من دوره في التغيير، وبات مرتهنا لها، وفارغ المحتوى وفاقد المصداقية، وليس أكثر من عبوة ناسفة لآمال الجماهير، من خلال إعادة تدوير الشخصيات والكيانات نفسها؟ لماذا لا أحد يتحدث عن ضرورة التغيير الجذري لتعديل المسار؟ ولماذا يبقى الترقيع هو الحل وكأن الوضع القائم يجب أن يكون هو الخيار النهائي لشعب العراق؟
القدس العربي