لطالما مثلت الإعفاءات الضريبية التي تعتمدها المملكة العربية السعودية مع دولة الإمارات العربية المتحدة وغيرها من دول مجلس التعاون الخليجي جزءًا من الجهود المبذولة لجذب المستثمرين، ولكن يبدو أن المملكة تغير إستراتيجيتها.
ففي تقرير نشرته صحيفة “فايننشال تايمز”، يقول الكاتبان أندرو إنجلاند وسيميون كير إن تعديل السعودية قواعدها الخاصة بالواردات من دول الخليج المجاورة فاجأ الشركات الإماراتية، وقد سارع المسؤولون إلى الاتصال بالعملاء في المملكة ليسألوا عما إذا كانوا سيقبلون زيادة التكلفة بسبب التعريفات الجديدة بنسبة تراوح بين 5% و15% على المنتجات التي كانت على مدى سنوات معفاة من الرسوم الجمركية.
ويُذكر أن المعاملات التجارية عبر الحدود تعطلت مدة أسبوع في شهر يوليو/تموز قبل أن يوافق عملاء الشركات في السعودية على تحمل التكاليف الجديدة والمضي قدمًا، ولكن ما حدث كان بمنزلة تحذير من أن العلاقات الودّية التي تجمع بين الإمارات والسعودية -السوق الرئيسة للعديد من الشركات الخليجية- بدأت تتزعزع.
استفادت دولة الإمارات -الأصغر حجمًا والأكثر مرونة- على امتداد عقود من قربها من المملكة، والنمط الليبرالي الذي توفره للمديرين التنفيذيين الأجانب، لكونها مركز التجارة والتمويل الأول في الخليج. بعث العديد من المصرفيين والمستشارين والمحامين والمصنعين السعوديين -أكبر اقتصاد في الشرق الأوسط وأكبر سوق استهلاكية في الخليج- مشاريعهم التجارية في الإمارات العربية المتحدة، وكانوا يسافرون ذهابًا وإيابًا إلى المملكة التي تتبع سياسات أكثر تحفظا عند الحاجة.
ولكن ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، الحاكم الفعلي للمملكة العربية السعودية، بخططه الطموحة لتحديث بلاده وتطوير صناعات جديدة وخلق مواطن شغل للشباب في المملكة، يبعث رسالة مفادها أن المعاملات التجارية مع الرياض لن تكون كالمعتاد؛ فقد أوضح ولي العهد السعودي أن الشركات إذا كانت ترغب في ممارسة الأعمال التجارية في بلاده -التي تمثل المحرك الرئيس للنشاط الاقتصادي في المنطقة- فيتعين عليها أن تنقل أنشطتها إلى المملكة وتوظف السعوديين، وهو ما يعزز تطلعات بن سلمان لتحويل السعودية التي كانت خاملة في السابق إلى المركز الاقتصادي المهيمن في المنطقة.
يراهن بن سلمان ومساعدوه على أنه حتى لو كانت المملكة تفتقر إلى العديد من السمات التي توفر الراحة لرجال الأعمال المقيمين في دبي، بدءًا من المنظم المستقل الذي يشرف على مركز دبي المالي العالمي وصولا إلى جودة المدارس ومجموعة الحانات والمطاعم، فإن حجم اقتصادها يظل عاملا مهمًّا أيضًا.
دعوة الرياض
يتردد صدى هذه “الصحوة” في جميع أنحاء الإمارات ومجالس إدارة الشركات المحلية والمتعددة الجنسيات التي تتخذ من الدولة مقرًا لها. وبأسلوبه الصارم المعهود، وجّه الأمير محمد في بداية السنة إنذارًا نهائيًّا للشركات الأجنبية بنقل مقارّها الإقليمية إلى الرياض بحلول عام 2024، أو نسيان أمر العقود الحكومية المربحة التي تمثل الجائزة الكبرى لكثيرين.
وفي خطوة لاحقة، غيّرت الرياض لوائحها المنظمة لدخول الواردات من دول مجلس التعاون الخليجي: الإمارات والكويت وقطر وعمان والبحرين. وتضمنت هذه التغييرات التراجع عن الامتيازات الممنوحة لدول مجلس التعاون الخليجي على السلع المصنعة في المناطق الحرة المعفاة من الرسوم الجمركية، بما في ذلك الشركات المملوكة بالأغلبية من قبل مواطن سعودي، أو الشركات التي يشكل الموظفون الخليجيون فيها أقل من 25% من القوة العاملة.
فضلا عن ذلك، علّقت الرياض الرحلات الجوية إلى الإمارات ودول أخرى بسبب مخاوف من فيروس كورونا، لكن الإماراتيين فسّروا ذلك على أنه رسالة ضمنية أخرى. وقد رُفع الحظر الإماراتي بعد يومين من محادثة هاتفية بين الأمير محمد والشيخ محمد بن زايد آل نهيان، الحاكم الفعلي لدولة الإمارات، في شهر سبتمبر/أيلول الماضي.
يقول المسؤولون التنفيذيون في دبي وأبو ظبي إن المسؤولين الإماراتيين ورجال الأعمال فوجئوا بهذه القرارات. ويفيد أحد كبار المستشارين بأن “الصدمة في البداية كانت كبيرة، فقد طلب [المسؤولون] من كثير من العملاء إنتاج السلع في السعودية وتوظيف السعوديين أو “ستُفرض عليهم ضريبة أو تُحظر السلع الخاصة بهم”.
كانت الشركات الدولية تكافح لمعرفة ما إذا كانت ستستجيب لطلب الأمير محمد بنقل مقارّها الإقليمية إلى الرياض وتعديل نمط حياة المديرين التنفيذيين المريح في دبي. وتزايد الضغط على الشركات لتوقيع تراخيص تضفي الطابع الرسمي على خططها قبل انطلاق الدورة الخامسة من “مؤتمر مستقبل الاستثمار”، مع أن الإطار التنظيمي لهذا الإجراء لا يزال غير واضح.
في يناير/كانون الثاني، وقّعت 24 شركة عالمية اتفاقيات مؤقتة لإنشاء مقر إقليمي في الرياض؛ من بينها شركة “بيبسيكو” ومجموعة خدمات النفط “شلمبرجير” ومجموعة “بكتل” للهندسة والبناء وشركة “برايس ووترهاوس كوبرز” للاستشارات، ولكن بعض الشركات تشتكي أنها مجبرة على نقل أعمالها إلى السعودية، معتبرة ذلك مثالا آخر على ميل الأمير محمد إلى اتباع إستراتيجية الترهيب والترغيب.
المنافسون المحليون
يمتلك الحليفان القديمان تاريخا حافلا من العلاقات المتوترة، ففي عام 2009 أبطلت الإمارات خطط البنك المركزي لصك عملة مشتركة لدول مجلس التعاون الخليجي عند انسحابها من المبادرة لأن هذه المؤسسة كانت ستتخذ من الرياض مقرا لها وليس أبو ظبي.
ازدهرت العلاقات بين البلدين بعد أن تولى الشيخ محمد بن زايد، ولي عهد أبو ظبي، دور الحليف الداعم للأمير محمد بن سلمان الذي سرعان ما عُيّن وليا للعهد. ويشير المحللون إلى أن العلاقة عادت إلى الفتور بعد مقتل جمال خاشقجي في 2018، إذ شعر قادة الإمارات بالقلق من الإدانة الدولية الواسعة النطاق التي طالت الأمير محمد بن سلمان بشأن دور الرياض المزعوم في عملية القتل.
تسببت الإمارات في زعزعة استقرار الرياض من خلال سحب قواتها من اليمن في 2019، حيث قادت السعودية تحالفا عربيا ضد المتمردين الحوثيين المتحالفين مع إيران. وفي الأيام الأخيرة، اختلف الحلفاء لفترة وجيزة بشأن حصص إنتاج (أوبك+) من النفط.
يرى العديد من المراقبين أن كلا من ولي العهد السعودي والإماراتي متفقان على القضايا الأساسية مثل تهديد إيران والحركات الإسلامية، ولكن كان من الواضح أن الأمير محمد لا يريد أن تكون المملكة شريكًا صغيرًا في العلاقة مع أبو ظبي. ويصرّ المسؤولون في الرياض على أنهم لا يستهدفون الإمارات، بل يحاولون فقط تحقيق أهداف خاصة.
سواء أكان ذلك مقصودًا أم لا، فإن الإمارات باتت في مرمى نيران المملكة، ففي شهر يوليو/تموز، الشهر الأول بعد فرض السعودية التعريفات الجمركية الجديدة، تراجع حجم الواردات السعودية من الإمارات بنحو الثلث، ووصل حجم المبادلات التجارية بين البلدين في 2019 إلى 24 مليار دولار بفائض 2.8 مليار دولار في الميزان التجاري السعودي، وذلك وفقًا لإحصاءاتها الرسمية.
وتشير بيانات الإمارات إلى أن إجمالي قيمة المبادلات التجارية، بما في ذلك إعادة التصدير، بلغ 30 مليار دولار في تلك السنة مع فائض في الميزان التجاري الإماراتي بنحو 17 مليار دولار.
إن حجم اقتصاد الإمارات البالغ 421 مليار دولار لا يضاهي حجم اقتصاد المملكة العربية السعودية البالغ 700 مليار دولار، كما أن عدد سكان السعودية الذي يناهز 33 مليون نسمة يعادل 3 أضعاف عدد سكان الإمارات الذي يتكون في أغلبه (90%) من المغتربين.
تعززت القوة الاقتصادية السعودية -التي تعد أكبر مصدر للنفط في العالم- بفضل فورة الإنفاق على المشاريع العملاقة المصممة لتحديث المملكة، كما تعهد صندوق الاستثمارات العامة -وهو صندوق الثروة السيادي الذي تبلغ قيمته 450 مليار دولار- باستثمار 40 مليار دولار على الأقل سنويًّا في الاقتصاد حتى عام 2030.
مع ذلك، يتساءل بعض المحللين عن خطة المملكة لتمويل مشاريعها العملاقة والمتعددة، وما إذا كانت قوتها المالية وحدها كافية لجذب شركات جديدة إلى البلاد. ووفقًا لبيانات الأمم المتحدة، فإن الاستثمار الأجنبي المباشر كان على استحياء منذ أن أطلق ولي العهد برنامجه لرؤية 2030 في 2016، ليتراجع من 7.45 مليارات دولار في عام 2016 إلى 1.42 مليار دولار في عام 2017.
ارتفع هذا الرقم إلى 5.5 مليارات دولار السنة الماضية، ويقول المسؤولون إن أكثر من 400 ترخيص أصدرت للمستثمرين الأجانب في الربع الأول من عام 2021، ولكن هذا الرقم لا يمثل سوى ربع الاستثمار الأجنبي المباشر الذي حصلت عليه الإمارات، وأقل بكثير من هدف الـ100 مليار دولار الذي تطمح إليه رؤية 2030.
يفسر المحللون تردد المستثمرين بالمخاوف المتعلقة بالبيئة التنظيمية والنمو الضعيف المسجل في السنوات الأخيرة، كما يستشهد بعضهم بمقتل خاشقجي والحملة التي انطوت على احتجاز مئات الأمراء ورجال الأعمال -بمن فيهم الشركاء المحليون للمستثمرين الأجانب- في فندق ريتز كارلتون في عام 2017 وإجبارهم على نقل نسبة من أصولهم إلى الدولة لتأمين حريتهم.
المصدر : فايننشال تايمز