لا يبدو أن مسلسل التوافق، وهو اسم على غير مسمى، سينتهي من عراق ما بعد 2003، وهو التوافق الذي غالبا ما يرافق كل انتخابات تشريعية تشهدها البلاد، ويراد منه توافق القوى السياسية على توزيع مغنم السلطة في ما بينها، من دون أن يكون لنتائج الانتخابات قول فصل في تحديد الجهة التي ستشكل الحكومة والجهة الأخرى التي ستشكل المعارضة البرلمانية طوال أربع سنوات من عمر هذه الحكومة.
في عراق ما بعد 2003، لا تعرف القوى والأحزاب التي شاركت في تأسيس العملية السياسية برعاية أميركية إيرانية بمفهوم المعارضة البرلمانية، فهي لا تلتفت إلى الفعل السياسي الذي يحفل به أي نظام ديمقراطي، أو يمتلك الحد الأدنى من هذه الممارسة، فالقوى السياسية في العراق لا تبحث سوى عن السلطة ومغانمها، ولا تعترف بأي فعل سياسي آخر ضمن لعبة الديمقراطية، وهو ما يبدو أنه سيتكرّر مع مشهد ما بعد انتخابات 10 أكتوبر/ تشرين الأول 2021، المبكرة التي أفرزت صعود قوى وخسارة أخرى.
الكتلة الصدرية صاحبة الـ73 مقعدا برلمانيا، ويفترض أنها التي تمتلك حق تشكيل الحكومة، بترشيح رئيس وزراء لأربع سنوات مقبلة، وجدت نفسها محاصرة، ومعها تحالف “تقدم” بزعامة رئيس البرلمان السابق، محمد الحلبوسي، والديمقراطي الكردستاني بزعامة مسعود البارزاني، بطعون، ورفض وتهديدات علنية من القوى الخاسرة، وفي مقدمتها القوى والمليشيات الولائية “التي تدين بالولاء والتبعية لإيران”. ولم تجد هذه القوى التي تعتبر أبرز القوى الخاسرة في انتخابات أكتوبر بدّاً من الضغط على القوى الفائزة، من أجل استمرار مكاسبها واستمرار وجودها بالسلطة، لأنها؛ وكما أسلفنا، جزءٌ من منظومة سياسية فاسدة في عراق ما بعد 2003، لا تؤمن بأي فعل سياسي، ما لم تكن في السلطة أو جزءا منها، وتأخذ حصّتها من محاصصةٍ مقيتةٍ لم تقتصر على التوزيع المكوناتي للشعب العراقي، شيعة، سُنة، أكراد، وإنما نزعت إلى حيز أضيق، هو حيز التوافقات السياسية والمحاصصاتية، فالسلطة في عين هؤلاء مغنم، فما بالك إن كانت في عراق ما بعد 2003 الذي أضحى نهباً لتلك القوى؟
قد تجد الكتلة الصدرية نفسَها مضطرّةً مرةً أخرى لتشكيل حكومة توافقية ترضي جميع الأطراف
اليوم، وعلى الرغم من قدرة الكتلة الصدرية على تشكيل كتلةٍ برلمانيةٍ هي الأكبر، وبالتالي صاحبة الحق في تشكيل الحكومة، فإنها وفي ظل هذه الضغوط الهائلة التي تمارسها القوى الولائية الخاسرة في الانتخابات، قد تجد نفسَها مضطرّةً مرةً أخرى لتشكيل حكومة توافقية ترضي جميع الأطراف، وتعطي لهم سهماً من مغانم السلطة، إرضاء لهذه القوى الخاسرة ودرءاً لأي مشكلات قد تؤدي إلى وقوع العراق في طائلة المجهول سنوات مقبلة.
إيران التي يبدو أنها وجدت نفسها في موقفٍ لا تحسد عليه في ظل خسارة كبيرة للقوى الموالية لها، تدفع باتجاه تشكيل حكومة توافقٍ من خلال تواصل غير مباشر مع زعيم الكتلة الصدرية، مقتدى الصدر، والذي يبدو أنه يعرف حجم تحرّكاته وحدودها. وبالتالي، من غير المستبعد أن يرفض مثل هذه العروض، أو يقاوم مثل هذه الضغوط.
مع ذلك، ما يمكن أن تحصل عليه القوى الخاسرة الموالية لإيران من أي توافق يبدو أقل بكثير مما كانت تطمح إليه قبل الانتخابات. ولعل المكسب الأكبر الذي ستتدافع عليه هذه القوى، وتسعى إليه، هو مؤسّسة الحشد الشعبي التي تعتبر قوتها الضاربة، والتي وإن كانت تعتبر مؤسسةً عسكريةً حكومية، إلا أنها لا تعترف فعليا سوى بقوتها وسلاحها، وكثيرا ما كانت ندّاً للدولة، وهو ما تعرفه جيداً إيران التي ستكون حريصة على ألا تمسّ هذه المؤسسة في السنوات الأربع المقبلة.
شخصية رئيس الوزراء المقبل ستبقى ملفاً شائكا وقابلا للتفاوض بين مختلف القوى السياسية
سيحصل الولائيون على هذا الوعد، ولكن السؤال: هل يمكن أن تنفذه الحكومة المقبلة؟ وبأي ضمانات؟ لا يبدو أن النتائج التي يمكن أن تصل إليها أي نهاياتٍ في العراق قابلة للقراءة الدقيقة، في ظل واقع عراقي متغير، خاضع هو أيضا لمتغيرات عديدة محيطة به. لكن يمكن القول لأن لا ضمانة بالتأكيد بأن الحكومة المقبلة قد لا تضطر، في لحظة فارقة، إلى ضم المليشيات الولائية التي تشكل، في غالبيتها، العمود الفقري لهيئة الحشد الشعبي، للقوات الأمنية، وإلغاء هذه الهيئة بالكامل، وحل كل مفاصلها وإعادة هيكلتها، مستغلة أن هذه الهيئة مؤسّسة حكومية تتبع، بالدرجة الأولى، للقائد العام للقوات المسلحة، رئيس الوزراء، ناهيك طبعا عما يمكن أن تسوقه الحكومة من أسبابٍ أخرى، تتعلق بخروج الحشد الشعبي على إرادة القائد العام، وما يسببه ذلك من فوضى أمنية وسياسية واقتصادية.
ليس الأمر بهذه السهولة، خصوصا أن شخصية رئيس الوزراء المقبل ستبقى ملفاً شائكا وقابلا للتفاوض بين مختلف القوى السياسية، ما يعني أن رئيس الحكومة الجديد يجب أن يخضع، هو الآخر، لتوافقات القوى السياسية، ومنها بالتأكيد القوى الموالية لإيران التي لا يبدو أنها مستعدّة للقبول بمرشّح من التيار الصدري. وبالتالي، التوافق، بدعة السياسة العراقية بعد 2003، سيبقى قائما حتى على شخص رئيس الحكومة.
التوافق مصطلح له مدلولاته الخاصة بالعملية السياسية في عراق ما بعد 2003، فهو يعني، من بين ما يعنيه، توافق القوى السياسية على تقاسم المغانم التي تنتجها السلطة، من دون توافق فعلي على ما يمكن أن تقدّمه الحكومة المقبلة من خدماتٍ وتنمية للمواطن العراقي، أو ما يمكن أن تحقّقه من استرداد لسيادة بلدٍ ما زال خاضعا لإملاءات الخارج وقواه النافذة.
العربي الجديد