بعد ساعات من المجزرة التي أوقعها تنظيم الدولة في أبناء بلدة الرشاد الشيعية، يحضر أحد ابرز قادة الميليشيات في العراق هادي العامري لمجلس العزاء، لمواساة أبناء عشيرة تميم المكلومة بأبنائها، خلال تلك الجلسة يظهر أحد شيوخ عشيرة تميم مهاجما العامري بشدة، الشيخ مصطاف شيخ فخذ المصالحة من تميم، متسائلا عن تقصير القوات الأمنية في حماية بلدته، منتقدا الأحزاب، «كله منكم أنتو الأحزاب».
ينتشر الفيديو كالنار في الهشيم، في حسابات المعارضين للحكومة، حاصدا تعليقات تشيد بهجوم الشيخ على هادي العامري وانتقاده للأحزاب، ثم يتبين لاحقا العكس، هذا الشيخ كان غاضبا لأن القوات الحكومية متساهلة مع بلدة نهر الإمام السنية، التي انطلق منها المسلحون، إذ يقول «هي قرية عصت على حكومة ودولة» و»وين الأمن وين الاستخبارات»، فهو يعتبر أعداءه هي القرية وليس عناصر التنظيم، وبالفعل بعد ساعات قليلة من هذا الاجتماع، هاجم مسلحون من عشيرة تميم قرية نهر الإمام وأحرقوا بيوتها وجامعها، وهجروا عشرات العائلات، وامتلات بهم المراكز الاجتماعية في المقدادية والجوامع في الكاطون والقرى المحيطة، أما القوات الحكومية فقد تحولت لفرق إغاثة اجتماعية.
يعلق أحد الناشطين العراقيين قائلا «الشيخ الذي وقف في وجه العامري ظهر هو الذي حرض على قتل الأبرياء في قرية نهر الإمام، ومن بينهم الأطفال.. سبق ونشرت تغريدة أمدح بها هذا المجرم المليء بالطائفية سأحذفها وأعتذر لمتابعيي لنشرها». ويقول آخر إنه تبين له من سكان المنطقة، أن هذا الشيخ من أكثر المحرضين على الطائفية، وكان يعترض على عدم سماح الحكومة لعشيرته بالهجوم على قرية نهر الإمام». وحتى تكتمل المفارقة، يظهر في اليوم التالي فيديو جديد، لهادي العامري وهو يزور مجلس عزاء عشيرة تميم، ليتقدم له أحد شيوخ عشيرة تميم بقصيدة تشيد بالعلاقة بين البوعامر وعشيرة تميم، وواصفا العامري بـ»الأسد ابن الأسد» و»بيرق العراق»..
المواجهات تتأثر بالمنطق العشائري الإقصائي في حل النزاعات، ولا تخضع لمنطق الدولة، العاجزة أصلا عن فرض إرادتها
نعود لسبب الحماس الكبير لنشر كلام الشيخ، الذي انتقد العامري في البداية، وهو ملائمته لخطاب شائع جدا، يشتم الاحزاب ورجال إيران كالعامري، في كل صغيرة وكبيرة في العراق، بدءا من نفوق الأسماك في دجلة حتى اقتتال بين عشيرتين في البصرة، بسبب مباراة كرة قدم، أو ثأر قبلي، وهذا الخطاب يتهرب من حرج الداخل نحو شماعة التآمر والخارج، لأن المدرك لحقيقة المنطقة والعراق يعرف أن معظم أمراض الأحزاب هو انعكاس لأمراض المجتمع وعشائرة وطوائفه، ولا يمكن معالجة أزمة أهلية مذهبية في المناطق المختلطة طائفيا بإنكارها وتجاهلها، لا يمكن علاج ورم بإبرة تخدير، الواقع أن عماد الميليشيات الشيعية في ديالى وصلاح الدين، هم أبناء أكبر عشائر عربية شيعية، وهم عادة ما يستنجدون بقوات الحكومة لتقويتهم ضد جيرانهم وليس العكس، أي أنه لا يمكن القول إن هناك أجندات حكومية تغذي الطائفية في هذه المناطق، لأن طبيعة النزاعات هي بين قبائل سنية شيعية وأحيانا بين العشيرة السنية والشيعية من القبيلة نفسها، وعلى مدى السنوات الماضية، اندلعت مواجهات بين قرى سنية وأخرى شيعية في ديالى، لعب فيها أبناء العشائر الشيعية الدور الأهم لأنهم يسيطرون على أجهزة الأمن والميليشيات في ديالى، وتم تهجير عشرات الأحياء والقرى السنية في النتيجة، لكونها أيضا ضمت معاقل لتنظيم الدولة، ففي صلاح الدين هجّر التمايمة الشيعة أبناء عمومتهم السنة في يثرب، وكذلك خزرج حصل معها الأمر نفسه. كما اندلعت في المناطق السنية نزاعات مسلحة محلية بين عشائر سنية تؤيد القاعدة/تنظيم الدولة، وأخرى تعارضها، أو بين أفخاذ مع كل طرف.
واقع الأمر أن هذه المواجهات تتأثر بالمنطق العشائري الإقصائي في حل النزاعات، ولا تخضع غالبا لمنطق الدولة، العاجزة أصلا عن فرض إرادتها في تلك المناطق، فهي أتون صراع أهلي بحت، وتماما كما يحصل في الثارات العشائرية التي تقتص من ابن العم والأخ، وتؤخذ العشيرة بجريرة ابنها، لأن منطق العشائر يقول، إن العشيرة تتحمل تصرف أي فرد من أفرادها، والرد يكون عليها بالكامل إذا خرج من أبنائها من هم في تنظيم الدولة مثلا، طالما أن الدولة غير قادرة على إرجاع حقهم، والعشيرة التي لا تاخذ بثأرها تصبح كما يقول المثل العراقي «حايط نصيص» وموضع سخرية، وتنعت بالجبن، لهذا كله تهجر القرى وتحدث الانتقامات العشوائية في المناطق العشائرية المختلطة مذهبيا، فهي تعاني من مشكلتين مزدوجتين، جعلتها محافظة مأزومة أهليا، العشائرية والطائفية.
القدس العربي