تحول خطاب المخاوف والتحذير من صعود الصين الذي ساد الأوساط الفكرية والإعلامية، خصوصاً منذ وصول ترمب إلى الحكم، مع إدارة بايدن الحالية إلى مراحل أكثر تقدماً في المواجهة، حيث تحول إلى سردية جديدة تتمثل في بدء تراجع وانكسار بكين، ليكشف مرة أخرى ومجدداً عن هشاشة هذه الأوساط الغربية، بل وربما عالمنا المعاصر كله.
صراع المفاهيم حول الصين
استغرق الأمر وقتاً طويلاً من مراقبة العالم لصعود وتقدم الصين من دون أن يؤدي هذا إلى أي اندفاع في الاستنتاجات، ربما اكتفى البعض في البداية بأنها تتحول إلى قوة اقتصادية مهمة يرتبط ازدهارها بالغرب والولايات المتحدة خصوصاً، وربما قد تصبح عملاقاً اقتصادياً وليس سياسياً، أو حتى لاعباً دولياً من الدرجة الثانية. ثم تغير الخطاب مع اكتساح بكين وتجاوزها للقوى الاقتصادية الأخرى ووصولها إلى المرتبة الثانية عالمياً، وبدأت التقارير تردد أن النمو الصيني سيتجاوز الولايات المتحدة خلال عدة عقود وطرح عام 2050 بهذا الصدد. ثم جاء ترمب لترتفع وتيرة القلق مع تراجع نمو الاقتصاد الأميركي والغربي مقارنة بنظيره الصيني، وبدأ الحديث عن 2030 كموعد لتجاوز بكين واشنطن، ورصدت المؤسسات الدولية كيف تضاعف حجم اقتصادها منذ عام 1978 أربعين ضعفاً؟ وكيف صارت تملك أكبر احتياطات مالية وفائضاً تجارياً؟
هنا بدأ السعار الترمبي والحديث المباشر عن ضرورة وقف وتيرة النمو الاقتصادي الصيني، وضرورة انفتاحها اقتصادياً وكبح جماح صعودها، وشهدنا ضجيج الرئيس الأميركي السابق وصراعه مع مؤسسات بلاده التي لم تتجاوب في تركز المواجهة على الصين وحدها من منطلق أن روسيا أيضاً عدو لا يقل خطراً، ويجب ردعه هو الآخر، ما أدى إلى ارتباك في إدارة الاستراتيجية الأميركية ليأتي بايدن برؤية تستقيم أكثر مع مؤسسات السياسة الخارجية الأميركية، لمحاولة صياغة استراتيجية تركز على الطرفين معاً، موسكو وبكين، ولتواصل إدارته كثيراً من عناصر نظيره ترمب لمحاصرة الصين اقتصادياً.
على أن الأسابيع الماضية شهدت صعوداً في سردية جديدة بدأت تتردد في الأوساط الإعلامية والأكاديمية، وكان من تجلياتها على سبيل المثال لا الحصر، المقال الذي نشرته “اندبندنت”، أخيراً، لاثنين من باحثي “أميركان أنتربرايز” هما مايكل بيكلي وهال براندز، وهي رؤية بدأت منصات التواصل الاجتماعي ترددها بشكل لافت.
وقوام هذه الرؤية أن الصين بدورها ستشهد أزمة ديموغرافية مماثلة لما يعرفه دول الغرب من العالم الأول مع زيادة أعداد الفئات العمرية المتقاعدة، وأنها مع سياسات الإنجاب الحالية ستفقد ملايين من سوق العمل، وضخمت هذه الدراسات من مشكلة اعتمادها على الرقاقات الإلكترونية المستوردة، كما تحدثت عن زيادة إنفاقها الدفاعي بسبب التحالفات الجديدة التي تنسجها الولايات المتحدة مع اليابان وأستراليا، إلى آخر ما أوردته هذه الكتابات التي ركزت على سياسات عدوانية صدامية.
استدعاء تجربة إدارة الصراع مع الاتحاد السوفياتي
يمكن القول، إن تشابهات استدعاء ملفات إدارة الصراع خلال الحرب الباردة مع الاتحاد السوفياتي تكاد تكون متطابقة من كثير من الأوجه مع ما يحدث حالياً، أبرز عناصر التشابهات هو بناء تحالفات لمحاصرة الخصم، من هنا كان حلف الأطلسي في المرحلة السابقة والاعتماد الكبير على الدور التركي في خاصرة الاتحاد السوفياتي، والانتقال من جبهة محاصرة الصين في منطقة الهند الصينية بعد فشل الحروب والتدخل الأميركي في الأخيرة، إلى محاولة جذب وإبعاد بكين عن موسكو وتغذية خلافات الطرفين، وهو ما حققته واشنطن نسبياً في حقبتي السبعينيات والثمانينيات، واليوم تنتقل واشنطن إلى بناء تحالف مضاد للصين في العالم المحيط بها، وتكتفي من حلفائها الأوروبيين السابقين بالمملكة المتحدة التي شجعتها على الانفصال والخروج من الاتحاد الأوروبي، وكان تهليل ترمب إذناً بهذا الصدد ليس جزءاً من مجرد خطاب شعبوي، ولكن في الأساس بعضاً من استراتيجية مؤسسات للاعتماد على تحالف محوره الأساس أنغلوساكسون يضم أستراليا، وحتى الحلفاء المحتملين من اليابان والهند هو جزء مكمل يعتمد على تراث ومخاوف تاريخية عميقة تنشط آلة الدعاية الأميركية لتشجيعها وتغذيتها، ولكنهم سيظلون مع هذا حلفاء من الدرجة الثانية بالنسبة لواشنطن، ولهذا التحالف نتائج مرتبطة بتعقيدات سياستها الداخلية ذاتها.
التشابه الثاني، يكمن في كيفية صياغة الآلة الدعائية الأميركية وكيفية التحول من التخوف من الصعود الصيني إلى مرحلة التشكيك في فرص نجاحها، بهدف تقليل وتخويف دول العالم من المراهنة على حصان خاسر، أو الترويج الضمني بأن الصين هي هذا الحصان الخاسر. وفي نفس الوقت نشر خطاب الاستقطاب، وأن على العالم المفاضلة بين المعسكرين، وهو الأمر ذاته الذي سعى إليه وزير الخارجية الأميركي الأسبق جون فوستر دالاس، وواصلته سياسة واشنطن التي كانت تعتبر الحياد بين المعسكرين انضماماً للأعداء، بحيث يصبح هذا المناخ الصليبي العدواني جزءاً أساسياً من استراتيجية حصار وخنق بكين.
ويكمل كل هذا تقاليد مؤسفة من توظيف آلة البحث العلمي السياسي والاجتماعي في الترويج للسياسة الأميركية التي ولدت أطناناً من الأبحاث المزيفة وغير الموضوعية حول الكتلة السوفياتية وكذا غير المنحازة، ولم تكتف بالحديث عن النظم السياسية بل امتد التشويه للمجتمعات والشعوب المعادية في صميم الدراسات الاجتماعية والنفسية، وفي التقدير أنه يجري استنساخ هذه التقاليد غير العلمية في أوركسترا ممنهجة وخطيرة، ستمتد آثارها لتدمير كثير من قيم ومناهج البحث العلمي الاجتماعي والسياسي والاقتصادي، وستثير الشكوك المستقبلية حولها.
مواجهة في بداياتها
رغم كل ما سبق فإن كل المشهد الذي نراه الآن هو إرهاصات لشكل الصراع لم تتبلور بعد بشكل كاف، ولكن ثمة ملاحظات مبدئية نعتقد وجوب أخذها في الاعتبار.
أولها، أن التاريخ يشكك بقوة في مدى صلاحية التجارب والاستراتيجيات السابقة، ويدعونا إلى الاستفادة من التجارب السابقة ويحذرنا في نفس الوقت من استنساخها من دون الأخذ في الاعتبار تغير الظروف وميادين الصراع، وبهذا الصدد حذر عالم السياسة والدبلوماسي البارز هنري كيسنغر من تصور أن ما نجح مع الاتحاد السوفياتي قابل للنجاح مع الصين، وركز على فارق القوة الاقتصادية الهائل، وعلى تقدم بكين في تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي، ولعلنا نضيف إلى هذا أهمية مراعاة التداخل الاقتصادي بين الصين وخصومها ومسألة سلاسل الإنتاج العالمية التي تربط دول العالم بخاصة اقتصاداته الكبرى وعلى رأسها واشنطن وبكين.
ثاني الملاحظات مرتبط بالمراهنات الأميركية على صنع حلفاء جدد في الشرق الأقصى وتجاهل نظرائهم السابقين في أوروبا والشرق الأوسط، وهنا فإن الصفعة الأميركية لباريس حول صفقة الغواصات الأسترالية لن يزال أثرها بهذه البساطة، والأوروبيون أو أكثرهم على الأقل قد تحولت توجهاتهم للشك في الحليف الأميركي واكتشاف أن الأمر أكبر من ترمب، ودليل ذلك ما حدث في أفغانستان أخيراً، وعالم اليوم بتداخله وتعقيداته قد يحمل كثيراً من المفاجآت التي قد تؤثر في هذه الاستراتيجية الأميركية وهي في مراحل تبلورها الأولى.
أما ثالث الملاحظات، فيتمثل في أنه لا يجب تجاهل وجود مشاكل هيكلية بالاقتصاد الصيني، وبشكل خاص تناقضات جوهرية بين طبيعة النظام السياسي وآلياته من ناحية، ومن ناحية أخرى مقتضيات النظام الرأسمالي في تطبيقه الصيني، كما لا يمكن تجاهل تداعيات وإشكالات هذا النظام الرأسمالي عالمياً وفي الولايات المتحدة ذاتها، إضافة إلى كل هذا تتسارع تحولات ضخمة ناتجة عن متغيرات أكبر من مفاهيم التنافس التقليدية بين القوى المتصارعة وعلى رأسها تغير المناخ، وكذا آثار ثورة التواصل الاجتماعي على كافة الأصعدة، باختصار العالم اليوم أصعب وأعقد من استنساخ استراتيجيات مواجهة سابقة حتى لو كانت قد نجحت بالأمس.
اندبندت عربي