لدى واشنطن وأنقرة حوافز دبلوماسية وأمنية كبيرة للنظر في طلب تركيا شراء 40 مقاتلة جديدة من نوع “أف-16” من الولايات المتحدة. ولكن سواء تمت الموافقة على الطلب أم لا، فإن انجراف أردوغان على المدى الطويل إلى فلك بوتين يبدو محتملاً نظراً للضرر الذي حدث أساساً.
في وقت سابق من هذا الشهر، تقدّمت تركيا بطلب لشراء 40 مقاتلة جديدة من نوع “أف-16” من الولايات المتحدة، إلى جانب 80 من معدات التحديث لتطوير أسطولها الحالي. وحيث من المتوقّع أن تصل التكلفة إلى 6 مليارات دولار، يُعتبر هذا الطلب من أنقرة لشراء الأسلحة هو الأكبر منذ أن بدأت واشنطن بعملية طردها من برنامج طائرات “أف-35” في 2019 وفرضت عقوبات على كيانات تركية بموجب “قانون مكافحة أعداء أمريكا من خلال العقوبات” – وذلك على خلفية قرار تركيا، الدولة العضو في حلف “الناتو”، باستلام منظومة الدفاع الصاروخية الروسية “أس-400”. ويُعتبر طلب تركيا لشراء هذه المقاتلات بمثابة مقامرة: فهي تحتاج إلى الطائرات لسدّ الفجوات في أسطولها المتقادم، لكن واشنطن قد ترفض تلبية الطلب نظراً إلى عدم استعداد أنقرة الواضح للتخلي عن منظومة “أس-400”. على صناع السياسة الأمريكيين أن يقرروا الآن ما إذا كانت العلاقة الدفاعية الثنائية قابلة للإنقاذ، وإذا كان الأمر كذلك، ما إذا كانت الموافقة على عملية البيع هذه هي الطريقة الأفضل للبدء بإعادة بناء العلاقات.
كيف وسّع بوتين الخلاف بين أردوغان وواشنطن
على الرغم من أن العلاقات التركية-الروسية كانت عدائية تاريخياً، إلّا أنه برز رابط بين الرئيسين فلاديمير بوتين ورجب طيب أردوغان في السنوات الأخيرة. وقد بدأ هذا الاتجاه بمحاولة الانقلاب التي شهدتها تركيا عام 2016 والتي استغلها بوتين ليصوّر نفسه على أنه حامي أردوغان وليُبعد أنقرة تدريجياً عن واشنطن. وبينما كان أردوغان ينتظر عبثاً أن يتواصل معه الرئيس أوباما وغيره من قادة حلف “الناتو” في هذه المحنة، اتصل به بوتين فوراً أثناء الانقلاب، ومن ثم دعاه إلى روسيا للتشاور.
ونتيجةً لذلك، لم تكن أول رحلة يقوم بها أردوغان بعد أزمة الانقلاب إلى واشنطن أو بروكسل بل إلى العاصمة الإمبراطورية الروسية سانت بطرسبرغ، حيث استقبل بوتين السلطان التركي في استعراض ملكي في قصر كونستانتينوفسكي الذي يعود إلى الحقبة القيصرية. وبقيامه بذلك، أشار بوتين إلى أنه مستعد لوقف العمل بسياسة روسيا المنتهجة منذ قرون والقائمة على سحق أهداف تركيا، ولا سيما في سوريا.
وحتماً كانت مبادرة بوتين هذه مطمئنة لأردوغان، ولكن كما هو الحال دائماً، فإن تصرفات بوتين المبتذلة لم تكن مجانية. وفي أغلب الظن، كان اجتماع سانت بطرسبرغ المكان الذي عرضت فيه موسكو للمرة الأولى على أنقرة بيعها منظومة “أس-400″، مدركةً تماماً أن إبرام اتفاق مماثل من شأنه أن يقوّض العلاقات الأمريكية-التركية. وفي نهاية المطاف، نجحت هذه الاستراتيجية – فقد تأخر تسليم المنظومة لسنوات، لكن فور وصولها إلى تركيا، ألغت واشنطن اتفاق “أف-35” وفرضت عقوبات.
الاعتبارات العسكرية لتركيا
كانت تركيا تشتري مقاتلات “أف-16” من الولايات المتحدة منذ ثمانينيات القرن الماضي، وتملك حالياً أحد أكبر أساطيل “أف-16” في العالم. وتستخدم أنقرة هذه المقاتلات في المقام الأول لمهام أمن الحدود على طول الحدود السورية ومهام التفجير الطويلة المدى وبشكل رئيسي ضد أهداف «حزب العمال الكردستاني» في شمال العراق. ووفقاً لـ “المعهد الدولي للدراسات الأمنية”، يملك “سلاح الجو التركي” أكثر من 250 طائرة “أف-16″، ومن طراز “البلوك 50” و “البلوك 30” في المقام الأول. وكان قد تمّ اعتماد طراز البلوك 50 للمرة الأولى في أوائل التسعينيات والبلوك 30 في أواخر الثمانينيات؛ علماً بأنه يتمّ التخلي تدريجياً عن الطرازين لاعتماد أنواع أخرى أكثر تقدماً. وبالفعل، أصبح جزء كبير من أسطول تركيا في نهاية الخدمة حيث يقدّر بعض المحللين أن القسم الأكبر منه سيتوقف نهائياً عن العمل في غضون 10 إلى 15 عاماً. وفي وقت سابق من هذا العام، أعلن المسؤولون الأتراك عن خطة لإرجاء وقف الطائرات عن العمل من خلال تجديد أجزاء كبيرة من الأسطول، مما قد يمدّد فترة عمل المقاتلات من المدة المعيارية 8 آلاف ساعة إلى 12 ألف ساعة.
وفي وقت سابق، كانت أنقرة قد توقّعت استبدال بعض هذه المقاتلات من طراز “أف-16” بمائة طائرة من نوع “أف-35″، لذلك فإن شطبها من البرنامج قد أرغم المخططين العسكريين على العودة إلى مرحلة التخطيط. ومن بين البدائل التي بدأ تطبيقها هو تطوير تركيا لمقاتلة تفوق جوي متعددة الأدوار “تي أف-أكس”. ولكن حتى في إطار السيناريو الأكثر تفاؤلاً، من المستبعد أن يتمّ وضع هذه الطائرة في الخدمة قبل عام 2030 أو أكثر. وبالتالي، إذا رفضت واشنطن طلب تركيا شراء مقاتلات “أف-16″، سيكون أمام المسؤولين الأتراك خيارات محدودة جداً لسدّ الفجوات التي يواجهونها على صعيد القدرات الجوية إلى حين بدء استخدام مقاتلات “تي أف-أكس”. وصحيح أن بإمكانهم محاولة تمديد فترة استخدام مقاتلات “أف-16” التي يملكونها حالياً من خلال تجديد هياكلها وخفض ساعات قيادتها، لكن ذلك سيحدّ تلقائياً من القدرات العملياتية للقوات الجوية. كما يمكنهم شراء مقاتلات جديدة من دولة أخرى، لكن إذا اختاروا مورداً مثل روسيا (وفقاً للتهديدات التي أطلقها مؤخراً مسؤولون أتراك)، فقد يؤججون عداء الولايات المتحدة بشكل أكبر.
ومن العراقيل التي تعقّد مسألة الموافقة على الطلب الجديد هي التمويل. فالمسؤولون الأتراك يريدون استخدام الأموال التي كانوا قد أمنوها لبرنامج “أف-35” لشراء مقاتلات جديدة من نوع “أف-16”. وفي 12 تشرين الأول/أكتوبر، صرح مستشار أردوغان للسياسة الخارجية إبراهيم كالين لإحدى وسائل الإعلام التركية بأن إجمالي هذه الأموال يناهز 1.4 مليار دولار، وبأنه يجب أن تتمكّن أنقرة من نقلها لتمويل طلب شراء المقاتلات من نوع “أف-16”. لكن المفاوضات التالية ستحدد إمكانية تطبيق هذا الخيار على أرض الواقع.
التداعيات على السياسة الأمريكية
يشكل الكونغرس الأمريكي العائق الأكبر أمام الاتفاق حيث فرض حظراً فعلياً على كافة مبيعات الأسلحة إلى تركيا في أعقاب التدهور الذي أحدثته منظومة “أس-400” ولا يبدو أنه مستعد لرفعه. فخلال جلسة الاستماع التي جرت في مجلس الشيوخ الأمريكي الشهر الماضي للموافقة على تعيين جيف فليك سفيراً جديداً إلى تركيا، قال رئيس “لجنة العلاقات الخارجية” روبرت مننديز (ديمقراطي عن ولاية نيوجرسي): “لا أرى أي مبيعات للأسلحة إلى تركيا ما لم يكن هناك تغيير جذري في مسألة شرائها لمنظومة أس-400”. أما رئيس اللجنة السابق السيناتور جيم ريش (جمهوري عن ولاية أيداهو)، فكان قد تبنى الموقف نفسه في العام الماضي في تصريحاته لمجلة “ديفينس نيوز” قائلاً: “إلى أن يتمّ حل المشاكل المحيطة بشراء [منظومة “أس-400″]، لا يمكنني ولن أدعم بيع أسلحة إلى تركيا”. لذلك، سيبقى الكونغرس حذراً في الموافقة على طلب شراء “أف-16″، وذلك بشكل رئيسي خوفاً من الرسالة التي سيحملها إلى شركاء آخرين يدرسون عمليات شراء عسكرية ضخمة من منافسي الولايات المتحدة.
وبالإضافة إلى التداعيات الاستراتيجية، تتفاقم مخاوف الولايات المتحدة من واقع أن عملية البيع قد تُعرّض المعلومات والتكنولوجيا الأمريكية الحساسة للخطر. ويُعزى طرد تركيا من برنامج “أف-35” إلى حدّ كبير إلى أن أمن نظام المقاتلة الشبحي وميزات أخرى تتمتع بها قد يكون مهدداً في حال تشغيلها في الموقع نفسه مع منظومة “أس-400” الروسية أو حتى على مقربة منها. يُذكر أن الرادار الذي يرصد مقاتلات “أف-16” الجديدة، وفقاً لمصنّعه، مصمم لاستخدام تكنولوجيا شبيهة بتلك الخاصة بمقاتلات “أف-35”. وعلى الرغم من أن مقاتلات “أف-16” تُعتبر منصة أقدم مألوفة أساساً بالنسبة لخصوم الولايات المتحدة، إلا أن نوع “البلوك 70/72” الجديد مصمم ليتميز بقدرات أكثر تطوراً قد يرفض صنّاع السياسة بيعه إلى دولة تستخدم منظومات الدفاع الجوي الروسية.
وفي الوقت نفسه، قد يكون رفض طلب الشراء القشة التي ستقصم ظهر البعير على صعيد علاقات الدفاع الثنائية. وعلى حدّ تعبير المحلل آرون شتاين، فإن طلب شراء مقاتلات “أف-16” هو المرحلة الأخيرة من “وقف التعاون الدفاعي” في العلاقات – فبعد سنوات من شراء كميات كبيرة من الأسلحة من شركات أمريكية، توجّه تركيا أنظارها أكثر فأكثر نحو قطاع الأسلحة الخاص بها وببعض الدول الأخرى لتلبية حاجاتها العسكرية.
وللمفارقة، فإن عمليات بيع الأسلحة الأمريكية إلى دول مجاورة أخرى منحت تركيا محفزاً إضافياً لسدّ الفجوات في قدراتها الجوية بسرعة. ومؤخراً، حصلت اليونان على موافقة واشنطن على عملية بيع بقيمة 270 مليون دولار لتحديث مقاتلاتها من نوع “أف-16” (فضلاً عن شراء 24 مقاتلة من نوع “رافال” من فرنسا). كما وافقت أثينا على زيادة التعاون الثنائي من خلال تعديل “اتفاق التعاون الدفاعي المشترك”، وأعرب المسؤولون اليونانيون علناً عن رغبتهم بشراء طائرات “أف-35” أيضاً. ومن ناحية أخرى، تحتفظ إسرائيل بالقوة الجوية الأكبر في المنطقة حيث تملك عدة أسراب من مقاتلات “أف-35″، كما قد تحصل الإمارات العربية المتحدة بدورها على هذه المنظومة وفق شروط اتفاق التطبيع مع القدس.
الخاتمة
في النهاية، قد يكون طلب شراء مقاتلات “أف-16” أسلوب أردوغان لاختبار واشنطن، ربما لكي يجعل الولايات المتحدة “شريكاً دفاعياً منافقاً” بنظر الشعب التركي. ومع ذلك، يحرص قسم أصغر حجماً من الموالين للتعاون الأطلسي في أنقرة على عدم السماح بانهيار العلاقات الدفاعية الثنائية بالكامل – فهم يؤيدون الطلب بشدة كوسيلة للحفاظ على تلك العلاقات وسط مواجهة أزمة حقيقية على صعيد القدرات. ومع ذلك، فمن المرجح أن تدخل تركيا بصورة أكثر ضمن فلك روسيا خلال عهد أردوغان بغض النظر عن موافقة واشنطن على بيع مقاتلات “أف-16”. وعلى أي حال، على إدارة بايدن والكونغرس الأمريكي التنبه إلى أن طريقة صياغة الرد وتقديمه ستؤثر على النقاش حول مستقبل علاقات تركيا مع الغرب، حتى لو بدا أن تدهور هذه العلاقات أمر لا مفر منه.
جرانت روملي
معهد واشنطن