على مدى سنوات، سعت كل من إيران وتركيا للقيام بدور قيادي في المنطقة العربية والشرق الأوسط، واستخدمتا أدوات عدة لتحقيق هذا الهدف. وعلى مدى هذه السنوات، واجه هذا السعي طريقاً مسدوداً ولم يحقق أهدافه إلا في أضيق الحدود، بالرغم من أن البلدين يعتبران من القوى المتوسطة في النظام الدولي، ويمتلكان من مصادر القوة الاقتصادية والعسكرية ما يؤهلهما لهذا الدور.
فإذا أخذنا إيران، فقد بدأت هذا السعي مُبكراً في عام 1979 بعد إعلان الجمهورية الإسلامية، فتبنت سياسة “تصدير الثورة”، ونشر أفكارها في الدول المجاورة. وبعد انقطاع قرابة عقد من الزمان بسبب الحرب الإيرانية – العراقية، عادت إلى اتباع هذه السياسة ودعمتها بتوظيف الأداة العسكرية إما من خلال التدخل المباشر كما هي الحال في سوريا، أو دعم وكلاء محليين كما هي الحال في لبنان والعراق واليمن. وفي هذه الحالات، لم يكن التدخل محل قبول عام من الرأي العام الداخلي لهذه الدول، بل أصبح مصدراً للتوتر وعدم الاستقرار.
أما في حالة تركيا، فقد اتضح هذا السعي تدريجياً بعد وصول حزب العدالة والتنمية بقيادة رجب طيب أردوغان إلى الحكم في عام 2002، وبروز طموحاتها القيادية، خصوصاً مع قيام الانتفاضات العربية منذ أواخر عام 2010 وتأييد أنقرة لها ودعمها سياسياً وإعلامياً. واتخذ تدخلها طابعاً عسكرياً في سوريا وليبيا والعراق، وفي محاولة إقامة قاعدة عسكرية في السودان. وعلى نحو ما حدث بالنسبة لإيران، واجهت السياسة التركية عقبات شتى، وأدت إلى توتر علاقاتها مع عدد كبير من الدول العربية.
ونستطيع أن نفسر هذه المفارقة بين امتلاك إيران وتركيا – نظرياً- العناصر التي تؤهلهما للقيام بدور قيادي إقليمي، وبين عدم قدرتهما في الواقع على القيام بهذا الدور؛ وذلك في ضوء الإسهامات النظرية في حقل العلاقات الدولية عن مفهومي النظام الإقليمي والقيادة الإقليمية. وحسب هذه الإسهامات، فإن هناك عدة عوامل توفر البيئة المناسبة لقيام دولة ما بهذا الدور، وأُخرى تعوق ذلك. ويمكن الإشارة في حالة إيران وتركيا إلى العوامل الأربعة التالية:
1- شرعية الانتماء إلى النظام الإقليمي: إذ إن ممارسة دور قيادي إقليمي يتطلب وضوح النظام الإقليمي وحدوده، ومدى مشاركة الدولة الساعية للقيام بهذا الدور في الهوية المشتركة للنظام، وفعالية المؤسسات التي تضم أعضاءه وتنظم التفاعلات بينهم. وفي حالة منطقتنا، فإنه يثور جدل واضح بين أنصار مفهومين هما “النظام العربي” و”النظام الشرق أوسطي”.
وتعود الجذور التنظيمية لـ “النظام العربي” إلى إقامة جامعة الدول العربية في عام 1945، وما تلاها من إنشاء عشرات التنظيمات والاتحادات الحكومية والأهلية العربية، والتي يجمع بينها اللغة العربية والشعور بهوية ثقافية مشتركة. ووفقاً لتعريف هذا النظام، فإن إيران وتركيا لا يمكن اعتبارهما عضوين فيه، وإنما دولتان “طرفيتان” تقعان على هامش النظام، وتتفاعلان معه.
بل ويمكن القول إنه من الناحية التاريخية، فإن الشعور بالهوية العربية تبلور سياسياً في مواجهة سياسة “التتريك” الطورانية التي اتبعها حزب الاتحاد والترقي الحاكم في الدولة العثمانية في العقد الأول من القرن العشرين. وأنه في كثير من دول الخليج فإن الإحساس بوطأة النفوذ الإيراني كان هاجساً ثقيلاً في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية وحتى استقلالها.
أما مفهوم “النظام الشرق أوسطي”، فإنه يتسع بالطبع لعضوية إيران وتركيا إضافة إلى دول أخرى مثل باكستان وأفغانستان وفقاً لمفهوم “الشرق الأوسط الكبير أو الموسع”. ويُعَوُق من اعتبار هذا المفهوم أداة لتحليل العلاقات الإقليمية أنه لا توجد مؤسسات إقليمية شرق أوسطية مشتركة، والمنظمات التي يمكن اعتبارها كذلك مثل منظمة دول غاز شرق المتوسط، فإنها تضم أيضاً دولاً أوروبية مثل إيطاليا واليونان وقبرص وفرنسا وتشغل فيها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي صفة المراقب.
ولا يمكن الحديث عن الشرق أوسطية كهوية أو انتماء، وما يمكن التطلع إليه هو إقامة علاقات بين بعض الدول العربية وإيران وتركيا، ولكنها تبقى علاقات ثنائية لا ترقى إلى مستوى التنظيمات أو الترتيبات الإقليمية.
2- انتشار القوة في النظام الإقليمي: ترتبط القيادة الإقليمية بنمط توزيع عناصر القوة وانتشارها بين الدول الأعضاء في النظام، بحيث تمتلك الدولة التي تقوم بدور قيادي القدرة على ردع المنافسين وتقديم الحوافز للحلفاء، وتتعدد صور هذا التوزيع من نظام إقليمي لآخر. ففي بعضها، يوجد نمط هيراركي أو تراتبي واضح تتصدره دولة بعينها، ويؤدي ذلك عادة إلى تيسير قيام هذه الدولة بدور قيادي. وبعضها الآخر، يكون نمط توزيع القوة بين دولتين رئيسيتين، ويؤدي هذا عادة إلى التنافس بينهما على أدوار القيادة. وفي بعضها الثالث، فإن نمط توزيع أو انتشار عناصر القوة يكون على عدد من الدول، ويؤدي هذا عادة إلى عدم تمكن أي دولة من القيام بدور قيادي منفردة، ويكون عليها الدخول في تحالفات مع دول أخرى.
وتنتمي منطقتنا إلى نمط انتشار القوة على عدد من الدول، وبصفة عامة فإن عناصر القوة الاقتصادية والعسكرية والناعمة تتوزع بين أكثر من دولة، وتوجد مفارقة في بعض الحالات بين القدرات البشرية للدولة ممثلة في عدد السكان، وبين حجم إمكاناتها الاقتصادية والتنظيمية. ويؤدي هذا إلى عدم تراكم عناصر القوة في الدولة الواحدة، مما لا يُمكِن أي دولة بمفردها من ممارسة دور “القائد الإقليمي” ويكون عليها أن تركز على المجال أو القضية التي تمارس فيها دورها القيادي أو تنخرط في تحالفات مع دول أُخرى لتحقيق ذلك.
وفي حالة إيران وتركيا، فسوف نجد أن بعض الدول العربية تفوقهما في عدد السكان، وأخرى في القدرات المالية، وثالثة في التماسك الاجتماعي.
3- قبول الآخرين بالدور القيادي: تتضمن القيادة الإقليمية تفاعلاً بين الدولة التي تسعي للقيام بهذا الدور والدول الأخرى في الإقليم، ولا تتحقق هذه العلاقة بالفرض أو الإكراه، وإلا تصبح في هذه الحالة نوعاً من الهيمنة والاستعمار؛ وإنما من خلال قبول الرأي العام في الدول الأخرى لهذا الدور القيادي.
ويتم هذا القبول من جانب الدول الأخرى أحياناً لتوقع مكاسب وعوائد مادية مثل زيادة حجم المساعدات الاقتصادية والاستثمارات ونقل التكنولوجيا وغيرها، أو بسبب توفير مظلة أمنية تحمي هذه الدول من تدخلات واختراقات إقليمية في شؤونها، أو بسبب أن الدولة الساعية لدور قيادي تقدم نموذجاً ناجحاً وجذاباً في مجال التنمية الاقتصادية والسياسية وأن نظامها حقق درجة عالية من الشرعية السياسية والاستقرار الاجتماعي واحترام المعايير الأخلاقية المرتبطة بالحريات العامة واحترام حقوق الانسان.
ووفقاً لهذا العامل، فإنه لا توجد لدى إيران وتركيا فرصة كبيرة لممارسة دور قيادي إقليمي، فالمساعدات العسكرية والمالية التي تقدمها إيران تذهب لوكلائها المحليين لمساعدتها في تحقيق أهدافها الإقليمية. ويتسم تدخُلها بالغلظة مما أدى إلى عكس ما سعت لتحقيقه، كما ظهر في نتائج الانتخابات البرلمانية العراقية في أكتوبر 2021 والتي فقدت أحزاب وقوى الحشد الشعبي الموالية لإيران نسبة واضحة من رصيدها الانتخابي فيها، ومن قبل في التظاهرات التي خرجت في المُدن العراقية رفضاً للتدخُل الإيراني في شؤون العراق. وفي اليمن، أدى دعم طهران لميليشيا الحوثيين إلى أزمة إنسانية ومجاعة خانقة أصابت الملايين من الشعب اليمني.
وبالنسبة لتركيا، فقد أدت سياساتها إلى نمو مشاعر مُتشككة ومُعادية لها. ففي العراق، قامت بإنشاء قواعد عسكرية لها من دون موافقة من السلطات العراقية، وتقوم طائراتها الحربية باختراقات مُتكررة للمجال الجوي العراقي لمهاجمة ما تعتبره وجوداً لحزب العمال الكردستاني في العراق. وفي سوريا، تحتل قواتها مناطق من محافظة إدلب التي سعت لـ “تتريكها” وتغيير هويتها. وفي ليبيا، تدخلت بالوجود العسكري المباشر من خلال إرسال مُستشارين ومُدربين، ونقل قوات مرتزقة من سوريا إليها.
وقد أدت كل هذه الممارسات إلى تنامي الشعور بالقلق والعداء تجاه إيران وتركيا من الجانب العربي والتشكك في نواياهما ومخططاتهما.
4- علاقة النظام الإقليمي بالنظام الدولي: يشير هذا العامل إلى مستويين؛ الأول هو علاقة النظام الإقليمي بالدول الكبرى في العالم، والثاني هو علاقة الدولة الساعية إلى الدور القيادي بالقوة الدولية الأكثر وجودًا وتأثيراً في الدول الأعضاء في النظام الإقليمي.
فعلى المستوى الأول، تتسم المنطقة العربية والشرق الأوسط بكثافة العلاقات مع النظام العالمي بسبب النفط، وإسرائيل، والممرات الدولية الحيوية لخطوط النقل والإمداد. ومع أن الولايات المتحدة تنفذ سياسة “التحول إلى آسيا” وانسحابها التدريجي من المنطقة، فإن ذلك ينطبق في المقام الأول على تدخلها العسكري ووجود قوات أمريكية في دول المنطقة والخشية من انزلاقها إلى حروب بين دول الإقليم، ولكنها لا تعني تخليها عن المصالح الاقتصادية والمالية الهائلة لها في المنطقة. وفي المقابل، فإن الصين وروسيا يتبعان سياسة برجماتية نشطة تهدف إلى توثيق العلاقات التجارية والاقتصادية مع دول المنطقة دونما نظر إلى شكل نظام الحكم فيها وتحالفاتها الخارجية. ومؤدى ذلك، أنه بالقدر الذي يوجد فيه “فراغ” بسبب الانسحاب الأمريكي، فإن هناك دولاً كبرى أخرى جاهزة لملء هذا الفراغ مما يجعل المساحة المسموح بها لإيران وتركيا محدودة إلا بالقدر الذي يكون فيه دورها الإقليمي لحساب إحدى الدول الكُبرى.
وعلى المستوى الثاني، فإن وجود علاقات تحالف مع الدولة الأكثر نفوذاً وتأثيراً عالمياً، يوفر للدولة الساعية إلى القيام بدور قيادي إقليمي أرضية مناسبة للتحرك، وهو ما لا يتوافر أيضاً في حالتي إيران وتركيا. فإيران مشتبكة في صراع ممتد مع واشنطن والدول الغربية حول الاتفاق النووي وترسانتها الصاروخية ودورها الإقليمي. وتركيا بدورها في خلاف ممتد مع واشنطن والاتحاد الأوروبي حول عديد من القضايا الإقليمية والدولية. وهكذا فإن أياً من طهران وأنقرة لا تتمتعان بتأييد الدولة الأكثر تأثيراً في النظام العالمي لقيامهما بدور قيادي إقليمي.
الخلاصة، أن العوامل التي توفر لدولة ما فرصة القيام بدور قيادي على المستوى الإقليمي لا تتوفر لكل من إيران وتركيا، وإن كان هذا لا يمنع من أن يكون لكل منهما إمكانية “الهيمنة” في موقف ما بسبب عدم التكافؤ في ميزان القوة العسكرية مع أطراف أخرى، كما أنه لا يمنع من استخدام المال والسلاح لإيجاد وكلاء محليين كأداة لتحقيق أهدافهما.
علي الدين هلال
مركز المستقبل للدراسات