في وقتٍ كانوا في تركيا وإسرائيل يرصدون عن قرب تطورات أزمة توقيف ثلاثة أشخاص بينهم زوجان إسرائيليان بتهمة التجسّس، ورصد منزل الرئيس رجب طيب أردوغان، عقب التقاطهما صورا للمنزل من برج تشامليجا السياحي، والذي يستخدم للاتصالات أيضا في الجزء الآسيوي من إسطنبول، وفيما يستعدون هناك وهنا لمتابعة تفاصيل حادثة طلب الادعاء العام التركي من محكمة الجزاء في إسطنبول توقيف 15 شخصا من أصول عربية وسجنهم بتهمة العمالة لجهاز المخابرات الإسرائيلية (الموساد)، والتجسّس على الجاليات العربية في المدن التركية، وتنفيذ أنشطة تمسّ الأمن القومي التركي، وفي اللحظة التي كانت أنقرة تنتظر تعاونا إسرائيليا عبر تقديم معلومات كافية حول مسألة تجييش هذه الخلايا لتنشط في تركيا لصالح الاستخبارات الإسرائيلية، بعد إثباتات كثيرة لتدريبها وتجهيزها وتمويلها داخل تركيا وخارجها من ضباط إسرائيليين، وعندما كانت القيادات السياسية والأمنية التركية تردّد أنها لن تسمح لأجهزة الاستخبارات الإسرائيلية بالتحرّك داخل أراضيها، سواء لاستهداف الأمن القومي التركي أو للتجسس على مجموعات عربية وإسلامية أخرى، وتستعد لإبلاغ الحكومة الإسرائيلية الجديدة بأن الرغبة في تحسين العلاقات لا بد أن تمر عبر وقف أنشطة “الموساد” داخل الأراضي التركية، وفي الوقت الذي كانت تركيا تراهن على نقاشات إسرائيلية داخلية ومحاسبات سياسية وأمنية تقود إلى معاقبة المسؤولين عن هذا العمل، يعلن الإعلام الإسرائيلي أن طائرة إسرائيلية خاصة كانت قد هبطت في مطار إسطنبول عادت إلى تل أبيب بعد ساعات، وعلى متنها الزوجان الإسرائيليان، ناتالي ومودي أوكنين، مصحوبان بشكر القيادات الإسرائيلية أردوغان والمسؤولين الأتراك على جهودهم، من دون أن تقدم أي تفاصيل أخرى عن هذه المفاجأة الكبيرة، بعدما كان القضاء التركي قد قرّر تمديد فترة اعتقال الزوجين على ذمة التحقيق، وبعدما كان وزير الداخلية التركي سليمان صويلو يشير قبل يوم من الإفراج عنهما إلى جدّية التهم الموجّهة لهما.
الطائرة نفسها كانت قد وصلت محمّلة بمجموعة من الدبلوماسيين ورجال الاستخبارات والقانونيين، بقيادة رئيسة القسم القنصلي في الخارجية الإسرائيلية رينا ديجيرسي، كما يقال، وسط مهمة صعبة وحرجة. الهدف بالنسبة لتل أبيب هو بحث سبل إغلاق ملفين أمنيين تتعامل معهما السلطات التركية في إطار عمليات تجسّس واستهداف للداخل التركي من جهاز الموساد، عبر عناصر مأجورة أو مواطنين يحملون الجنسية الإسرائيلية تم توقيفهم في الآونة الأخيرة.
تحليلات سياسية كثيرة في تركيا ذكرت أن الموقوفين متهمون بالتقاط صور تفصيلية لمنزل أردوغان، وتدوين معلومات وتفرعات حول موقع المنزل
والمشكلة لم تكن بالنسبة لأنقرة في التقاط صور سياحية عادية، وليست أيضا في إعلان القيادات السياسية الإسرائيلية عدم ارتباط الزوجين بأي جهاز أمني إسرائيلي، وإن ما جرى كان خطأ سياحيا، وليس جرما يستحق كل هذه الخطوات والتدابير القضائية التركية، بل في قرار محكمة إسطنبول تمديد اعتقال المتهمين عشرين يوماً إضافية بتهمة تجسس سياسي وعسكري ضد تركيا.
انصرف الإعلام الإسرائيلي، في نهاية الأسبوع، للتصعيد ضد الخطوة التركية، والإشارة إلى أنها محاولة لإبعاد الأنظار عن الأزمات الاقتصادية والمالية التي تعيشها تركيا، وإن ما يجري سينعكس على حركة السياحة الإسرائيلية باتجاه تركيا واحتمالات إلغاء آلاف من طلبات السفر. والمسألة مرتبطة بتوقيت قرار مناقشة الكنيست الإسرائيلي موضوع أحداث عام 1915 في الأناضول، وتبنّيها عملية إبادة أم لا، وأن ما تقدّمه تركيا من معلومات مسألة غير مقنعة في زمن التكنولوجيا المتطوّرة القادرة على التقاط المعلومات وجمعها مع أدق تفاصيلها عبر الأقمار الاصطناعية، وأن أنقرة لا تريد تحسين علاقاتها مع إسرائيل، لذلك افتعلت هذه الأزمة. لكن تحليلات سياسية كثيرة في تركيا ذكرت أن المسألة مختلفة هذه المرّة، وأن الموقوفين متهمون بالتقاط صور تفصيلية لمنزل أردوغان، وتدوين معلومات وتفرعات حول موقع المنزل، وعدد الحراس الذين يحمونه من الخارج، وارتفاعه عن سطح البحر، وتقاسموا ما جمعوه بشكل سريع، مع مجموعة لهم عبر “واتساب”، من دون الاحتفاظ بها وتخزينها في هواتفهم النقالة، وكلها مسائل فيها شبهاتٌ كثيرة. راهنت إسرائيل على قرار تركي بطردهما فورا من البلاد، وعدم السماح بدخولهما مجدّدا الى تركيا، لكن المدّعي العام التركي خيب آمالها عندما طالب القضاء بتمديد مدة احتجازهما، وريثما ينتهي التحقيق وجمع المعلومات عن تنقلاتهما في تركيا والأماكن التي زاراها، والأشخاص الذين التقيا بهم خلال فترة وجودهما هناك، فكيف حدثت المفاجأة التي أقنعت الأتراك بالإفراج عن المواطنين الإسرائيليين؟
كانت العلاقات التركية الإسرائيلية وما زالت، في العقد الأخير، تحت تأثير حادثة أسطول الحرية والاعتداء على الناشطين الأتراك والأجانب
الواضح أن أنقرة وتل أبيب لا تريدان التصعيد، وتفضلان اعتماد لغة الهدوء والتأني في التعامل مع الموضوع، وعدم السماح لأطراف أخرى بالدخول على خط الأزمة. وأنهما أنجزا الكثير على طريق رسم خريطة جديدة لمسار العلاقات في المرحلة المقبلة، بعد تدهورها في شهر مايو/ أيار المنصرم في اعقاب الهجمات الإسرائيلية ضد قطاع غزة، وحيث كان كلا الطرفين يستعدان لوضع اللمسات الأخيرة لتبادل السفيرين، وتحسين العلاقات المتدهورة، بعد اتصالات وجهود دبلوماسية كثيرة بذلت بعيدا عن الأضواء. وأنهما استفادا من حادثة طريقة التعامل في يونيو/ حزيران عام 2018 مع أزمة المواطنة التركية، أبرو أوزقان التي تم إيقافها وإحالتها إلى المحكمة العسكرية، بتهمة نقل المساعدات إلى حركة حماس في غزّة، ثم صدر قرار الإفراج عنها وتسهيل انتقالها إلى تركيا خلال ساعات. ولكن هذا لا يمنع أن تكون القيادات التركية غاضبة، لأن إسرائيل تجاهلت الحادثة الأولى في توقيف 15 مواطنا عربيا يعملون لصالحها في المدن التركية، ولم تتعامل معها بجدّية، لكنها تحرّكت عندما كان الفاعل يحمل الجنسية الإسرائيلية هذه المرّة.
كانت العلاقات التركية الإسرائيلية وما زالت، في العقد الأخير، تحت تأثير حادثة أسطول الحرية والاعتداء على الناشطين الأتراك والأجانب في عرض البحر المتوسط في مايو/ أيار 2010. وكان السؤال قبل أيام بشأن ما الذي سيجري بعد الكشف عن تفاصيل تحرك عملاء الموساد لإلحاق الضرر بالداخل التركي، وأنه ليس جديدا على “الموساد” أن ينشط في دول عديدة لجمع المعلومات عن الجاليات العربية. الجديد أن نعرف السبب الذي يجعل أجهزة الاستخبارات الاسرائيلية تحاول جمع معلومات حول مكان إقامة أردوغان، وهل ستقدم تل أبيب إجابات مقنعة مطمئنة لأنقرة، فأصبح السؤال كيف تم التفاهم السريع بشأن هذه الصيغة الجديدة التي أدّت إلى الإفراج عن المتهمين الإسرائيليين. ولماذا تعلن الحكومة الإسرائيلية الجديدة أنها تريد أن تبدأ صفحة جديدة من العلاقات مع تركيا، وهي التي تنسّق مع مصر واليونان وقبرص اليونانية وفرنسا ضد المصالح التركية في المنطقة.
يقول الخبير السياسي الإسرائيلي لون بينكاس، وهو أحد أبرز المحللين والدبلوماسيين الذين يعرفون المنطقة جيدا، إن حادثة توقيف الزوجين الإسرائيليين في تركيا قد تتحوّل إلى فرصة للتوافق حول ضرورة التعاون الاستراتيجي. أسلوب المعاداة لن ينفع، واليونان لن تستطيع تعويض حاجة إسرائيل لتركيا. .. البراغماتية التركية الإسرائيلية هي التي تتقدّم مرة أخرى.
العربي الجديد