الأشهر القادمة حرجة لأمن إسرائيل القومي، لأنه القرارات الأمريكية حيال إيران ستصمم محيطنا الاستراتيجي لسنوات عديدة. من يفحص تداعيات السياسة الأمريكية في الجانب النووي الضيق، يفوت الأمر الأساس. فالرئيس بايدن سيحسم بين ميلين: في أحد القطبين، سياسة مسؤولة، أساسها لجم الزخم الإيراني للهيمنة في المنطقة، وتثبيت تحالف يسمح بتوجيه مقدرات الولايات المتحدة للكفاح ضد الصين. في القطب الثاني، يدور الحديث عن الدفع إلى الأمام بالثورة الإيرانية إلى مكانة قوة عظمى. وفي أثناء ذلك سنصل، باحتمالية عالية، إلى مواجهة إقليمية واسعة.
الغرب الديمقراطي بالعموم، والأمريكيون بالخصوص، فشلوا في فهم الظواهر الراديكالية. فالأمريكيون يفترضون بأن الحديث يدور عن شعارات “متطرفة” فارغة، وعن زعماء “عقلانيين” في أساسهم سيتصرفون بشكل “عملي” عندما “يكون لديهم ما يخسرونه”. هكذا أخطأوا في فهمهم لهتلر، وناصر، وكاسترو، والأسد، وعرفات، وشافيز، وأردوغان. عمى ثقافي مشابه أفشلهم على نحو منتظم في جلب الديمقراطية للعراقيين، والتعددية لليبيين، والتسامح للإخوان المسلمين، ومساواة المرأة للأفغان، والسلام للفلسطينيين. فالذكاء الإيراني يُستصعب على الأمريكيين بخاصة عندما يكون ممثلوهم (وزير الخارجية الأسبق جون كيري، والممثل الخاص لبايدن روب مالي) منكشفين على التلاعبات الإيرانية، بسبب ميلهم الأيديولوجي ومؤهلاتهم الشخصية غير المبهرة.
الاتفاق النووي سيسهم بشكل هامشي في لجم تقدم إيران في أحد المواضيع الأقل حرجاً في البرنامج النووي الإيراني، ولكنه سيعطي زخماً دراماتيكياً لقدراتها العظمى ولعدوانها الإقليمي. في مجال التخصيب، حققت إيران كامل مسعاها تقريباً. حتى لو كفت عن التخصيب إلى 60 في المئة وأخرجت المخزون الذي جمعته إلى روسيا، فإن سيطرتها واستقلالها في العملية يسمحان لإيران بالعودة إلى ذلك، حين تقرر، مع الكثير من أجهزة الطرد المركزي المتطورة. ليس التخصيب، إنما العناصر الناقصة في وسائل الإطلاق ومنظومة السلاح هي العائق الأساس في سعيها إلى مكانة دولة حافة قادرة على الانطلاق إلى ترسانة نووية. هذا الاتفاق، عملياً، سيعطي حصانة لتطويرها.
إن خطر الاتفاق يكمن في المجال الاستراتيجي، حيث يفشل الأمريكيون المرة تلو الأخرى: التركيز المهووس على موضوع مرغوب، ولكنه ثانوي، بشكل يفشل الهدف الأهم منه بلا قياس.
هكذا تسببت الولايات المتحدة في كفاحها العادل ضد “داعش” بأضرار استراتيجية جسيمة: فرضت الميليشيات الشيعية التابعة لإيران على العراق، وبنت مكانة أردوغان في سوريا على حساب حلفائها الأكراد، واستدعت التدخل الروسي في سوريا. في الاتفاق النووي، تظهر المتلازمة ذاتها، لأن الوسائل المخصصة للكفاح العادل ضد التخصيب، بعد أن فرت الجياد من الإسطبل، ستسهل على إيران في السياق العام تحقيق سعيها لتكون دولة حافة، وستعزز مكانة نظام الثورة من الداخل، وستعطيه الأدوات لتحقيق تطلعه للهيمنة الإقليمية.
المسائل الأساس كانت وستبقى الاقتصاد والوعي. فرفع العقوبات سيضع تحت تصرف آية الله عشرات ملايين الدولارات كناتج مباشر، وسيفتح أمامهم الطريق لمئات المليارات من أوروبا والصين والهند ومن غيرهم من خافوا من عقوبات أمريكية ثانوية. واضح للجميع بأن معنى الاتفاق المتحقق هو أن إيران أخضعت الولايات المتحدة، وفرضت عليها التنكر والتجاهل لأساس تهديداتها في المنطقة والسماح بتحققها. السعودية والإمارات تستعدان الآن لحوار معمق مع إيران منذ الانتخابات في الولايات المتحدة، لإمكانية الهزيمة الأمريكية، إذا ما تبنى بايدن فكرة أوباما. أما في عهد ترامب فاستعد هؤلاء للصراع مع إيران بإسناد أمريكي، من خلال توثيق العلاقات مع إسرائيل، وهم في هذه الأثناء لا يهجرون الأفق؛ على أمل أن يصحو بايدن.
مساهمة حرجة من الولايات المتحدة لتعزيز نظام آية الله وسعيه إلى الهيمنة الإقليمية ستؤدي بالضرورة إلى مواجهة واسعة مع إسرائيل، التي ترى في مثل هذه الهيمنة خطراً وجودياً. مواجهة كهذه تهدد باجتذاب الأمريكيين مرة أخرى إلى تدخل عميق وغير مرغوب فيه في المنطقة. لا يزال ممكناً وقف هذا السيناريو، إذا ما فحصت واشنطن المعادلة الإقليمية الشاملة، بشكل يتجاوز المجال الضيق للتخصيب النووي.
القدس العربي