تقدم الحياة المهنية لآخر سفير لإيران في الولايات المتحدة قبل اندلاع الثورة الإسلامية عام 1979، مثالاً وتحذيراً لصناع السياسة الأمريكية والدبلوماسيين الأمريكيين في الوقت الحالي.
كان أردشير زاهدي – السفير الإيراني الأخير إلى الولايات المتحدة من عهد الشاه محمد رضا بهلوي، الذي توفي في الثامن عشر من تشرين الثاني/نوفمبر عن عمر ناهز 93 عاماً، أسطورة بالفعل. وقيل إنه كان من أكثر السفراء الأجانب تميزاً في تاريخ واشنطن، فقد كان رمزاً للفترة التي شهدت ازدهاراً في سبعينيات القرن الماضي. واستُخدمت كافة صفات التفضيل لوصفه ومنها: جذاب وأنيق ومسرف وفاتن وحسن المظهر ولبق ولطيف ونشيط وكريم ومستهتر.
وقد خدمت كل هذه الشهرة التي حصدها هدفاً واضحاً. فقد تمكّن زاهدي من إقناع الأمريكيين بأنه كلما ازدادت إيران غنى، كلما أصبحت أكثر استقراراً، وأن بيعها للأسلحة على نطاق واسع سيساهم في امتداد رقعة الاستقرار. وقد أسر أمريكا بسحره لدرجة أنها لم تنتبه لمدى ضعف رئيسه، الشاه محمد رضا بهلوي. وحتى أن زاهدي خلق فرصة للشاه للتغلب على الثورة – لو أنه أراد ذلك.
وسيرة حياة زاهدي هي أكثر من مجرد قصة مثيرة للاهتمام؛ إذ إنها أثبتت مدى تأثر السياسة الأمريكية بالتلاعب الخارجي. فكثيراً ما تُتهم الولايات المتحدة بالتدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى، لكن كما تٌظهر حالة زاهدي، فإن الأمر يعمل في كلا الاتجاهين.
دبلوماسي غير متوقع
وُلد زاهدي في طهران حوالي عام 1928. وكان والده الجنرال فضل الله زاهدي الذي ينحدر من عائلة ثرية تملك الكثير من الأراضي. وكان زاهدي الأب مقرباً من مؤسس الدولة البهلوية رضا شاه وخادماً أميناً لابنه ووريثه محمد رضا شاه بهلوي. فقد كان من أقرب المقربين إلى الشاه الحاكم.
وفي عام 1946، عندما كان زاهدي في الثامنة عشر من عمره تقريباً، أرسله والده إلى الولايات المتحدة لمتابعة تحصيله العلمي. والتحق بجامعة ولاية يوتا في لوغان، يوتا، حيث تخرج في مجال الزراعة عام 1950. وكانت الجامعة وجهة مقصودة لطلاب الزراعة والهندسة الإيرانيين وبعيدة عن السياسة. وخلال الصيف، كان زاهدي يقوم بجولات في أرجاء الولايات المتحدة، حتى أنه وصل في إحدى المرات إلى آلاسكا، وعمل في مهن وضيعة. كان زاهدي يعرف أمريكا جيداً، الأمر الذي ساعده كثيراً فيما بعد.
وفي ولاية يوتا، التقى زاهدي الشاه للمرة الأولى أثناء زيارة البهلوي لها. وعند عودته إلى إيران، حرص على توطيد علاقته بالنظام الملكي. وفي عام 1953، أرغمت حركة شعبية الشاه على البقاء في المنفى. وكان الجنرال زاهدي هو الذي نفذ الانقلاب لإعادته، ليصبح بذلك رئيساً للوزراء. كما لعب نجله أردشير دوراً عملياً مهماً.
وهذا ما جعل أردشير الشاب مفضلاً لدى الشاه، وعضواً في الديوان الملكي من الناحية العملية. وكان زاهدي ينتمي إلى واحدة من “الألف أسرة”، وهي النخبة التقليدية في إيران، التي تتمتع بنفوذ على مقربة من العرش وبنفاذ مباشر إلى الحاكم. وحتى أنه كان متزوجاً لبعض الوقت من ابنة الشاه.
وعَيّن الشاه زاهدي سفيراً لدى واشنطن عندما كان في الثانية والثلاثين من عمره فقط. ولم تكن لديه خبرة دبلوماسية، لكنه كان متزوجاً من ابنة الشاه ومحط ثقة بالنسبة له. وعندما اعترض للشاه بأنه ليس لديه فهم بالدبلوماسية أو في شؤون وزارة الخارجية، طمأنه الشاه قائلاً: “أنا أتولى شخصياً السياسة الخارجية… وبما أنك أكملت دراستك في أمريكا، فأنت تعرفها وتعرف الأمريكيين جيداً”.
فهم طريقة العمل
كانت مشكلة إيران في أمريكا بسيطة: نظام الشاه اختلف بشكل متزايد مع القيم الأمريكية. ففي خمسينيات القرن الماضي، لم تكن الولايات المتحدة تمانع دعم الطغاة. لكن بحلول الستينيات، تغيّر التوجه السائد في العالم. وبدأ العض في أمريكا يشعر بالقلق من أن الملوك والقادة الديكتاتوريين المدعومين من الولايات المتحدة يشكلون عبئاً. وكان بإمكان السوفييت استغلال الاستياء المنتشر، وكانت الوسيلة الوحيدة لإيقاف ذلك هي الترويج للديمقراطية على النمط الأمريكي.
واستلم زاهدي منصبه كسفير في ربيع عام 1960. وفي ذلك الوقت، نشرت مجلة “تايم” في عددها من أيلول/سبتمبر 1960 على غلافها صورة الشاه تحت عنوان “الكفاح من أجل الاستقرار”. وحذرت من “حالة استياء جديدة في أوساط الحشود المتزايدة في المدن”، وخلصت إلى أنه “لم يعد من الممكن أن تُحكم إيران بأمر ملكي بسيط: «لقد أصدرتُ الأوامر. فليتم تنفيذها»”.
ولكن بدلاً من التصدي لذلك، صب زاهدي تركيزه على الحرب ضد الطلاب الإيرانيين المعارضين في الولايات المتحدة. ثم، علق في مأزق مع شقيق الرئيس الأمريكي، المدعي العام روبرت كينيدي إثر حديث لهذا الأخير مع بعض الطلاب المنشقين. وأدى ذلك إلى قيام روبرت كينيدي بإلغاء زيارة توقف له في إيران كانت مقررة خلال جولة آسيوية كان يقوم بها.
ومنذ ذلك الوقت، تحوّل زاهدي إلى عبء أكثر من كونه أحد الأصول المفيدة في البيت الأبيض خلال عهد كينيدي. فما كان من الشاه إلا أن أمر بنقله إلى لندن. وبذلك تعلّم زاهدي درساً طبّقه لاحقاً: في واشنطن، يجب على السفير الأجنبي ألا يصطدم مع المقربين للرئيس. وعلى السفير ألا يصطدم مع طلاب منشقين. من الأفضل تجاهلهم، وترك الشرطة السرية تتعامل معهم.
وانتقل زاهدي من منصب سفير إيران في لندن إلى منصب وزير الخارجية. وبذل الكثير من الجهود لتحسين علاقات إيران مع الدول العربية، من خلال التراجع عن مطالبة إيرانية طويلة الأمد بالبحرين. ثم، في أوائل عام 1973، أعاده الشاه سفيراً إلى واشنطن. وفي غضون أشهر، انقلب العالم رأساً على عقب.
دبلوماسي مشهور
أدّت الحرب العربية – الإسرائيلية التي اندلعت في تشرين الأول/أكتوبر 1973 إلى حظر النفط العربي، مما أدى إلى ارتفاع أسعار النفط الخام بشكل ملحوظ. وشهدت “الصدمة النفطية الكبرى” كما أُطلق عليها، ارتفاع أسعار النفط أربع مرات. وبينما تأرجحت الدول الصناعية، فاضت خزائن إيران. وفي ذلك الوقت كان الشاه يعاني من أوهام العظمة؛ فقد تصوّر أنه قادر على جعل إيران قوة إقليمية عظمى.
وأصبحت مهمة زاهدي أكثر وضوحاً. فكانت أمريكا مستاءة، وكان يعزى ذلك عموماً إلى الركود الذي استمر من عام 1973 إلى 1975. وكان الغضب الشعبي موجهاً ضد العرب الذين يتلاعبون بالأسعار، ولم يكن معظم الأمريكيين يميزون بين العرب والإيرانيين. وفي حين لم ينضم الشاه إلى حملة المقاطعة، إلا أنه ركب موجة رفع الأسعار. وكان السؤال: كيف يمكن لإيران أن تبقى متحالفة مع الولايات المتحدة؟ وجاء الجواب من خلال الظهور بمظهر الدولة الصديقة والمستقرة، أي عبر زاهدي.
وكانت عودة زاهدي إلى واشنطن في توقيت جيد، لأنه كان قد أقام صداقة قوية على مستوى رفيع: مع ريتشارد نيكسون. وكان نيكسون نائب الرئيس الأمريكي في خمسينيات القرن الماضي، عندما ساعدت “وكالة المخابرات المركزية” الأمريكية على إعادة الشاه [إلى الحكم]، وكان زاهدي قد قابله في ذلك الوقت. وبعد هزيمة نيكسون في الانتخابات الأمريكية عام 1960، لم يبتعد عنه زاهدي، بل بقي قريباً منه. وقد أتى ذلك بثماره منذ عام 1969، وكان بإمكان زاهدي الاعتماد على الترحيب الحار من الحزب الجمهوري عند استلامه منصب السفير مجدداً في عام 1973.
لكن زاهدي لم يعتمد فقط على عدد قليل من الأصدقاء الذين يتمتعون بمناصب جيدة في مجال السياسة الخارجية. فقد أدرك أن السياسة الخارجية في الولايات المتحدة، تتوقف على الدعم المحلي. ولم يكن لإيران قاعدة جماهرية محلية طبيعية في أمريكا، لذا كان عليه أن يبني هذه القاعدة، على أن تضم قادة في مجال الصحافة والترفيه والأعمال والتعليم. وما يثير الدهشة في ولاية زاهدي الثانية كسفير هي السهولة التي تمكّن بها من جمع هؤلاء الأشخاص.
وقد فعل ذلك من خلال شنّه حملة لتشكيل صورة معينة لاقت نجاحاً كبيراً. فقد تمتع زاهدي بدهاء كافٍ لإدراك أمر جوهري حول واشنطن. فقد شهدت المدينة تحرراً خلال ستينيات القرن الماضي، وأضفى آل كيندي البهجة والتألق إليها وساهموا في المزج بين السياسة والترفيه. وبفضل افتتاح “مركز جون كينيدي للفنون المسرحية” عام 1971، أصبحت واشنطن أخيراً مكاناً من الطراز الأول وبدأت النجوم في الظهور. فشرع زاهدي في كسر القالب النمطي السائد في صف السفارات القائم [“إمباسي رو”] على وجود سفير رصين وعلى استقبال دبلوماسي قديم الطراز. وأراد تحويل إيران إلى علامة فاخرة ملفتة للانتباه من خلال جعل نفسه أحد المشاهير.
وعندما عاد زاهدي، لم يكن هاوياً قط. فقد كان يتمتع بجاذبية كبيرة، وقد وصفه إيراني آخر (المؤرخ عباس ميلاني) وصفاً دقيقاً حيث قال:
“رأيته ذات مرة يدير الأوضاع في الغرفة. وكان أداؤه عملاً فنياً، ترافق مع مجموعة كبيرة من الحركات الدقيقة والإيماءات والابتسامات والاحتضانات… فقد كان يومئ برأسه لبعض السيدات؛ ويصافح أخريات؛ وينحني نحو أيدي بعضهن المرتفعة قليلاً بشكل تقليدي بل واضح؛ وحتى كان يُقبّل أطراف أصابع عدد أقل من السيدات”.
وكما يوحي ذلك، فقد رسم لنفسه صورة زير نساء. وكان قد عاد إلى واشنطن عازباً بعد انفصاله عن ابنة الشاه. (يذكر أن هذا الطلاق الودي لم يؤثر على علاقاته مع الشاه). وفي مذكراتها، كتبت الممثلة والمغنية بيرل بيلي التي كانت تقدم عروضاً بشكل منتظم في السفارة:
“عندما كان أردشير وحاشيته يدخلون إلى مكان ما، كانت جميع الأنظار تلتفت إلى هذه الشخصية التي تفرض حضورها. وكانت جميع النساء يتنافسن على جذب انتباهه علناً من دون إخفاء نواياهن. فزاهدي كان مرادفاً لواشنطن؛ أما السفارة الإيرانية فكانت الوجهة المقصودة”.
وقد كانت الوجهة المقصودة لأن زاهدي حوّل السفارة إلى مكان احتفالات متواصلة، ولم يدّخر أي نفقات. وفي هذا السياق، استذكرت النجمة الإخبارية التلفزيونية باربارا والترز،
“كان زاهدي يحب الحفلات الضخمة التي تضم مئات الضيوف، والشمبانيا المتدفقة، وتلال الكافيار الإيراني الطازج، وطاولات المأكولات الهائلة من الحمص إلى الهامبرغر. وكان بإمكانك أن تأكل ما يطيب لك، أو أن تختلط بالحاضرين أو فقط أن تقف وتتفرج. وكان ثمة الكثير من وسائل الترفيه الممتعة لتشاهدها، من الراقصات الشرقيات اللواتي تصفق لهن، إلى الموسيقيين الذين تستمتع بالإصغاء إلى أنغامهم، وصولاً إلى الفرق التي يمكنك الرقص على أغنياتها، والسياسيين الذين يمكنك التحدث معهم، فضلاً عن رؤية نجوم السينما.
لقد سعى زاهدي إلى التميز، وتخطت دعواته المجموعة المعتادة من الوزراء وأعضاء مجلس الشيوخ وأعضاء الكونغرس وقضاة المحكمة العليا في الولايات المتحدة. فقد طلب حضور مشاهير من أمثال: ليزا مينيلي، وغريغوري بيك، وأندي وارهول، وأشهرهم ليز تايلور التي وفقاً لبعض التقارير كان يقيم علاقة معها. (تجدر الملاحظة أن هنري كيسنجر كان مدبر اللقاء بينهما، ولاحقاً وصف زاهدي هذه العلاقة بأنها “عذرية”. ووفقاً لكتّاب سيرة تايلور، كانت الأخيرة حريصة على هذه العلاقة لكن زاهدي تخلى عنها.)
ثم كانت هناك السفارة بحدّ ذاتها. فقد تمّ بناؤها بأسلوب عصري في خمسينيات القرن الماضي، وفي موقع مميز في شارع ماساتشوستس. لكن زاهدي ترك بصمته فيها، فقد استقدم مهندس ديكور رفيع الشأن من لندن لإضافة رونق إلى مبنى باهت ومقيّد. وقام بوضع مزيج من الأثاث الأوروبي والكثير من السجاد الإيراني. لكن النقطة الأكثر أهمية في السفارة كانت الغرفة الفارسية الواقعة تحت سقف مقبب ضخم. وكان مُرصّعاً “بمشكال من قطع الفسيفساء التي تحتوي على مرايا وزخارف براقة وأشكال ملولبة معلقة على الجدران تتدلى لثلاثين قدم”. وقد قال الضيوف الذين كانوا يشاركون في الأمسيات أنها كانت رائعة في الليل عندما تضاء بالشموع، فقد كانت انعكاساتها تتكرر وتظهر آلاف المرات.
وكانت قراءة الأخبار الاجتماعية ممتعة بالنسبة لغير المدعوين إلى حفلات الزاهدي، بفضل الروايات المتناقلة عنها والحديث المسهب عن الكافيار والشمبانيا ونجوم هوليوود والرقص على الطاولات. وتعدّ أعداد الضيوف المتزايدة خير دليل على جاذبية الحفلات. ففي عام 1977 على سبيل المثال، استضافت السفارة 7000 ضيف لمناسبات اجتماعية، بما في ذلك 2000 ضيف في تشرين الأول/أكتوبر 1977 للاحتفال بعيد ميلاد الشاه. (أحدثت تلك الحفلة تأخير في السير لمدة ساعتين للمتنقلين في واشنطن، مما اضطر قائد شرطة المدينة إلى إصدار بيان في اليوم التالي).
دبلوماسية الإلهاء
أطلقت مجلة “بيبول” على زاهدي لقب “ملك الشمس في فلك العاصمة الاجتماعية الصاخبة”. لكن الهدف من كل ذلك كان جدياً: تخدير واشنطن وصرف انتباهها عن العيوب الصارخة لنظام الشاه.
والأسئلة هنا، لماذا كانت إيران، التي يفترض أنها دولة صديقة للولايات المتحدة، تتعاون مع العرب لرفع أسعار النفط؟ لماذا كان يتم الاستشهاد بإيران، الصديقة، في تقارير “منظمة العفو الدولية” لاحتجازها آلاف السجناء السياسيين وتعذيبهم بشكل منهجي؟ لماذا كانت إيران، صديقة الولايات المتحدة، تنشر عملاءها من الشرطة السرية الإيرانية، “جهاز السافاك”، في الولايات المتحدة؟ ولماذا كانت إيران، حليفة واشنطن، تشتري كافة المعدات العسكرية التي يمكنها الحصول عليها؟
لقد تسببت هذه النقطة الأخيرة بإثارة علامة استفهام كبيرة. فبين عامي 1972 و 1977، ازدادت مشتريات إيران من الأسلحة الأمريكية بأكثر من سبعة أضعاف، وأصبحت أكبر مشتر منفرد للمعدات العسكرية الأمريكية. وفي عام 1975، استوردت إيران أسلحة أكثر من السعودية والعراق والإمارات وقطر وعُمان والبحرين والكويت وأفغانستان وباكستان والهند مجتمعة. وأثار ذلك قلق بعض الخبراء الاستراتيجيين الذي تساءلوا عن الهدف من شراء كل هذه الأسلحة. وكما كتب أحدهم: “في حالة إيران، يمكن لعمليات نقل الأسلحة أن تسبب المزيد من عدم الاستقرار أكثر من أن تمنع حدوثه”. فهل بإمكان إيران غير الحذرة أن تجرّ أمريكا إلى حرب؟
قد يعتقد المرء أن الصحفيين، على الأقل، سيطرحون بعض الأسئلة الصعبة للغاية، وقد قام البعض بذلك فعلاً. لكن زاهدي نجح في تخدير الكثير من وسائل الإعلام أيضاً. وقد فعل ذلك بطريقتين. أولاً، احتل الصحفيون مكانة عالية في قائمة المدعوين ومستلمي الهدايا – ولم تتم دعوتهم إلى مآدب العشاء فقط بل إلى الاحتفالات الرسمية الإيرانية أيضاً. وكان اسم باربرا والترز يرد في أعلى هذه القوائم؛ حتى أنه أرسل لها في إحدى المرات ساعة كارتييه (لكنها أعادتها).
لكنه فهم شيئاً آخر، وهو الفرق بين الصحفيين. فقد تحدث أحد الصحفيين من واشنطن في مقال له عن صعود “الميدياقراطية” (أي الحكم عبر وسائل الإعلام)، وهي أرستقراطية جديدة تقوم على اهتمام وسائل الإعلام: فهؤلاء لم يكونوا مراسلين عاديين. إنهم من صنع التلفزيون. وكانوا بحاجة إلى وصول رفيع المستوى لإجراء مقابلات عبر الكاميرا. والسؤال الذي يطرح نفسه هو من الذي تصدّر قائمة الأشخاص الذين تجري معهم المقابلات؟ إنه شاه إيران. وبقيت أمريكا مفتونة بالنظام الملكي والثروة، وكان الشاه يتمتع بالميزتين.
وأصبح زاهدي الرجل الوسيط بين الصحفيين الأمريكيين الذين أرادوا إجراء مقابلة مع الشاه. لكن زاهدي نفسه لم يشارك في الكثير من المقابلات؛ فلم يكن الشاه يثق بأحد إلا بنفسه لعرض وجهات نظر إيران في وسائل الإعلام الأمريكية المرموقة. لذلك كان زاهدي يقرر من سيقابل وبأي شروط. وبطبيعة الحال، كان كل من يريد إجراء مقابلة مع الشاه يفعل ما بوسعه ليبقى عند حسن ظن زاهدي.
ولم تكن النتائج مرضية في بعض الأحيان، فقد كان زاهدي يجد نفسه مضطراً إلى تنفيذ الأوامر بحظر بث مقابلة مسجلة مسبقاً. وقد حدث ذلك على سبيل المثال في عام 1974، عندما أجرى مايك والاس مقابلة مع الشاه في برنامج “60 دقيقة”. وتلقى زاهدي تعليمات بأن أسئلة والاس “وقحة وغير ودية واستفزازية”. وكانت التعليمات واضحة ومفادها: “نفضل عدم عرض هذه المقابلة على التلفزيون”. ولكن حتى زاهدي لم يستطع تلبية هذا الطلب. لكن معظم المحاورين أظهروا قدراً أكبر من الاحترام تجاه الشاه.
هل نفعت سياسة تبادل النفاذ والإفراط حتى مع الصحفيين المشككين؟ ليس مع الجميع، إذ تصدى البعض لها. وفي هذا السياق، أفادت بعض التقارير أن كاتب العمود جوزيف كرافت حث الشاه على استدعاء زاهدي بعد انتخاب جيمي كارتر. فزاهدي كان يميل بشدة إلى “الجمهوريين”، وحوّل السفارة الإيرانية إلى نادي “بلاي بوي”. لكن صحفيين آخرين فهموا الهدف الكامن وراء هجوم زاهدي الساحر. وقال كاتب العمود في “واشنطن بوست” فيليب غيلين: “إذا خرجتَ بانطباع جيد، ففي المرة القادمة التي تسمع فيها عن تعرض الشاه لهجوم ستقول «حسناً، إنهم أناس طيبون»”. بدورها كتبت سالي كوين من صحيفة “واشنطن بوست” أيضاً: “شعر الناس بالرضا عن السفير، لذلك تكونت لديهم صورة إيجابية عن البلاد”.
أُطيح من قبل الثورة
في أواخر آذار/مارس 1978، وبينما كان النظام الإيراني يتأرجح، نشرت مجلة “واشنطن دوسييه” المعروفة بنشر الشائعات غلافاً لزاهدي ومغنية السوبرانو بيفرلي سيلز. وكانت المناسبة حفلة أقامها زاهدي على شرفها قبل افتتاحها أوبريت “الأرملة الطروب” في واشنطن. وكان ذلك عملاً اعتيادياً بالنسبة لزاهدي، رغم أن شوارع إيران بدأت تغلي [قبل اندلاع الثورة].
لكن ما حصل كان خير دليل على إنجازات زاهدي. فخلال الفترة التي سبقت الثورة، كانت أمريكا في حالة ارتباك بشأن إيران. فلو أراد الشاه وكان يملك القدرة على ذلك، فربما كان بإمكانه استخدام القوة للاحتفاظ بعرشه. وكانت الشخصيات الرئيسية في الإدارة الأمريكية ووسائل الإعلام الأمريكية ستغض النظر. فقد نجحت حملة زاهدي في تعزيز النوايا الحسنة التي كان يمكن للشاه استغلالها خلال الأزمة.
وبالفعل، بينما كانت الثورة تحشد زخماً، دعا جيمي كارتر، بدافع من مستشاره للأمن القومي زبيغنيو بريجنسكي، زاهدي إلى البيت الأبيض وحثه على العودة إلى إيران ورفع معنويات الشاه. فمن كان أفضل من زاهدي لنقل رسالة دعم الولايات المتحدة له؟
وهذه قصة طويلة، لكن عندما وصل زاهدي إلى طهران، اكتشف السر المحفوظ جيداً بأن الشاه كان يحارب مرض السرطان، ولم يكن قادراً على خوض المعركة. فبذل زاهدي كل ما في وسعه لإقناع الشاه بعدم مغادرة البلاد، ولكن دون جدوى. وكما قال زاهدي لاحقاً: “الهزيمة دائماً ما تكون مريرة، لكن الخسارة بدون قتال هي أقسى أنواع الهزيمة”.
وأدت الثورة إلى سقوط زاهدي، فهرب من السفارة وقام الموظفون المتعاطفون مع الثورة بإفراغ زجاجات الشمبانيا. وبذل زاهدي كل ما في وسعه لإيجاد ملجأ للشاه، الذي رافقه في جولات حول العالم. واعتبر الشاه أنه حصل على ذلك الملجأ بفضل مكائد ومخططات زاهدي. وبعدها، واجه زاهدي مذلة كبيرة لكونه “آخر سفير” في عهد الشاه. وحتى أنه اضطر إلى تحمل تحقيق من “مكتب التحقيقات الفدرالي” في عام 1979، لمعرفة ما إذا كانت الهدايا التي قدمها هي بمثابة رشوة.
بعد ذلك، استقر زاهدي في فيلا ورثها عن والده في سويسرا. وحتى عندما كان في التسعينيات من عمره، كان لا يزال يكتب مقال رأي في صحيفة “واشنطن وبست” بين الحين والآخر، مضطلعاً بدور مواطن إيراني محب لوطنه كان يصر على أن ممارسة الضغوط على إيران تؤدي إلى نتائج عكسية. كما نشر مذكرات جزئية باللغتين الفارسية والإنكليزية، وأرسل مقالاته إلى “مؤسسة هوفر” في جامعة ستانفورد، مؤكداً مكانته بين مؤرخي المستقبل.
وماذا عن السفارة؟ إن وزارة الخارجية الأمريكية هي المسؤولة عن الحدّ الأدنى من الصيانة، لكن المبنى يبدو مهملاً منذ 40 عاماً، من الداخل والخارج. وقد أصبح حطاماً حديثاً، ومن غير المحتمل أن يقيم فيه أحد في أي وقت قريب، وحتماً لن يكون أي مقيم من أمثال أردشير زاهدي.
قصة تحذيرية
أردشير زاهدي يستحق التقدير والإعجاب. لقد قام بمعجزة التبادل الثقافي، شأنه شأن مهاجر جديد حقق نجاحاً باهراً. وبما أن الضعيف يتعلّم طرق [عمل] الأقوياء، لاكتساب جزء من قوتهم، فقد أتقن زاهدي أساليب واشنطن. ولم ينجح أي سفير أمريكي إلى طهران قط في فهم إيران كما فهم زاهدي الولايات المتحدة. فالبنسبة له أصبحت أمريكا كتاباً مفتوحاً أجاد باحتراف قلب صفحاته.
لكن لا بدّ لهذا الإعجاب من أن يقترن بالقلق. فنقاط الضعف التي استغلها زاهدي في ذلك الوقت لم تتمّ معالجتها لأنه يستحيل ذلك. وفي الواقع، يمكن جذب أمريكا وإبهارها وإغراؤها لأن نظامها السياسي يمزج الشهرة والمال بالسياسة. وواشنطن مليئة بالدبلوماسيين والعملاء الأجانب الذين يأتون إلى مكاتبهم كل صباح بحثاً عن أساليب لتحويل مسار السياسة الخارجية للولايات المتحدة. فبالنسبة لهم، إن رواية زاهدي ليست مجرد حنين إلى حقبة السبعينيات، بل إنها كتاب بحد ذاته.
لقد حدث ذلك أكثر من مرة ومن الممكن أن يتكرر. وكما يظهر من خلال المثال الإيراني، يمكن أن يحدث ذلك عندما لا تستطيع الولايات المتحدة مواجهته.
مارتن كريمر
معهد واشنطن