ثمَّة قراءة تسعى إلى تصوير زيارة ولي عهد أبو ظبي، والحاكم الفعلي في الإمارات، محمد بن زايد، أنقرة أنها إقرار إماراتي بالهزيمة بعد عقد من التنافس والصراع مع تركيا على النفوذ إقليمياً. في حين تزعم قراءة أخرى أن هذه الزيارة والاستقبال الحافل الذي حظي به بن زايد من الرئيس رجب طيب أردوغان يمثلان دليلاً على الانتصار الإماراتي ورضوخ تركيا. كلتا القراءتين منحازتان، وهما تعبير عن “التحليل بالأماني”، لا صلة لهما بالموضوعية، دع عنك الواقع. والأصوب هنا القول إن الطرفين، التركي والإماراتي، انطلقا من مصالح وضرورات وإكراهات ذاتية وموضوعية، فضلاً عن إزاحات، جيواستراتيجية إقليمية، وجيوسياسية دولية، دفعت بهما إلى إعادة النظر في مسار التنافس المكلف بينهما. بمعنى، أن الأرضية الأيديولوجية والاستراتيجية للتنافس والتنافر بين الدولتين ما زالت هيَ هيَ، وما تغير هنا هو الأولويات، ومساعي تخفيف الكلف الباهظة التي أثقلت كاهليهما، ولو إلى حين.
تعود جذور التوتر بين تركيا والإمارات إلى مرحلة الربيع العربي قبل عشر سنوات. وقفت أنقرة مع تلك الثورات وأيّدتها وناصرتها. وبسبب تصدّر جماعة الإخوان المسلمين، والتيارات المحسوبة عليها، المشهد في عدة دول عربية، كمصر وتونس وليبيا والمغرب، تولّد انطباع أن تركيا، برئاسة أردوغان، ذي الخلفية الإسلامية، تدعم تلك الثورات لقلب النظام الرسمي العربي لصالح حلفائها الأيديولوجيين. في المقابل، كانت الإمارات مع السعودية قطبي رحى الثورات المضادّة، وقد حقق تحالفهما نجاحاً كبيراً عبر الانقلاب العسكري في مصر، عام 2013، والذي أطاح أول رئيس مدني منتخب في تاريخ البلاد، الراحل محمد مرسي، وكان قيادياً في جماعة الإخوان المسلمين، وجاء بالجنرال عبد الفتاح السيسي مكانه. بعد ذلك، توالى سقوط أحجار الدومينو في المنطقة، وتصاعد التوتر التركي، مسنوداً بقطر، من ناحية، مع المحور السعودي الإماراتي المصري، ومن وقف معه، من ناحية أخرى.
احتضنت تركيا المعارضين العرب الفارّين من بطش أنظمتهم. لم يكونوا كلهم من الإخوان والإسلاميين، وإن كانوا هم الأغلبية، وسمحت لهم بالعمل الإعلامي والسياسي على أراضيها. في المقابل، كان ذلك المحور يمارس تصعيداً شرساً ضد تركيا، ولم تتردّد كل من الرياض وأبو ظبي في تحريك أذرع لوبياتها في العواصم الغربية، وتحديداً في واشنطن، وبتنسيق واضح مع اللوبيات الصهيونية والأرمنية واليونانية، للتحريض على أنقرة وحزب العدالة والتنمية الحاكم. وتضاعف التوتر أكثر مع المحاولة العسكرية الانقلابية الفاشلة في تركيا عام 2016، والتي احتفلت بها وسائل الإعلام المحسوبة على كل من السعودية والإمارات. صحيحٌ إن أنقرة لم تتهم الدولتين بالتورّط بالمؤامرة الانقلابية، مباشرة، إلا أن تلميحات المسؤولين الأتراك، حول الإمارات، تحديداً، كانت كافية لإدراك المغزى.
الأرضية الأيديولوجية والاستراتيجية للتنافس والتنافر بين الدولتين ما زالت هيَ هيَ، وما تغير هنا هو الأولويات، ومساعي تخفيف الكلف الباهظة التي أثقلت كاهليهما
ومع فرض الحصار السعودي الإماراتي البحريني المصري على قطر عام 2017، بناء على مزاعم مختلقة، وقفت تركيا مع قطر، وتعزّزت ملامح تحالف بين الدولتين فرضت نوعاً من التوازن في المنطقة. أيضاً، كان لنجاح الدوحة في صدِّ محاولات تأليب إدارة دونالد ترامب عليها، ووقوف المؤسسات الأميركية السيادية في صفها في وجه رعونة الرئيس والدائرة الضيقة المحيطة به، دور في تعديل كفّة الميزان أميركياً. مكنَّ هذا الواقع كلاً من تركيا وقطر من تفعيل تحالفهما بشكل أكبر، وكذلك توجهاتهما في المنطقة الأكثر اتساقاً مع نبض الشعوب العربية وتطلعاتها. ومع تورّط الرياض في اغتيال المعارض السعودي، جمال خاشقجي، في قنصلية بلاده في إسطنبول، عام 2018، تضعضعت أكثر مكانة تحالف الثورات المضادّة عالمياً، خصوصاً وأنها جاءت في خضم تصاعد الأصوات الدولية الناقدة للحرب السعودية الإماراتية في اليمن.
إلا أن الضربة الكبرى التي تلقاها هذا المحور كانت في سقوط ترامب ووصول جو بايدن إلى الرئاسة في الولايات المتحدة. على عكس سلفه، جاء بايدن بوعود لإعادة الاعتبار لحقوق الإنسان والديمقراطية في سياسة إدارته الخارجية، وهو لم يكن يخفي مرشّحاً، ولا حتى بعد وصوله للرئاسة، امتعاضه من استمرار الحرب في اليمن. التقطت الإمارات الرسالة سريعاً، فكان أن أعلنت انتهاء دورها في الحرب، وإنْ شكلياً، قبل أسبوعين (7/1/2021) من تنصيب بايدن رئيساً. لم تقف أزمة الرياض أبوظبي مع واشنطن عند هذا الحد، فبايدن يريد العودة إلى الاتفاق النووي لعام 2015 مع إيران، والذي انسحبت منه إدارة ترامب عام 2018. كما أنه أعلن مراراً وتكراراً أنه يريد تخفيف الحضور الأميركي في الشرق الأوسط وغيره من الساحات الدولية ضمن مساعي الولايات المتحدة لاحتواء التنين الصيني في شرق آسيا. من ثمَّ، شعرت العاصمتان أنهما مكشوفتان أمام طهران، ومن دون ظهير أميركي يمكن التعويل عليه. صحيحٌ أن ترامب لم يشنّ حرباً على إيران، ولكن نبرته كانت حادّة نحوها، ولم يتردّد في اغتيال قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني، الجنرال قاسم سليماني، وتشديد العقوبات الاقتصادية عليها. أما بايدن، فكان يرى في إيران وأفغانستان معارك وحروبا هامشية تستنزف قوة بلاده وتشتّتها بدل التركيز على المنافس الجيوسياسي الحقيقي لها، الصين.
لم تعد أنقرة قادرةً على تحمّل أعباء التزاماتها الكثيرة والواسعة في المنطقة. اقتصادها يتداعى. عملتها المحلية، الليرة، تتهاوى إلى قاعات سحيقة
في المقابل، لم يكن وضع تركيا أحسن حالاً، فلدى بايدن موقف شخصي معاد لأردوغان، وهو كان أعلن مرشّحاً على أنه سيعمل على إسقاطه في الانتخابات المقبلة ودعم معارضيه. وعلى الرغم من أن إخراج تركيا من برنامج تصنيع الطائرة الأميركية المقاتلة أف – 35 تمَّ خلال إدارة ترامب، إلا أن بايدن أكثر تشدّداً في مسألة العقوبات على أنقرة، كما أنه أكثر انسجاماً مع موقفي اليونان وجمهورية قبرص، ومن ورائهما فرنسا، في رفض الحقوق التركية في شرق البحر المتوسط، ومن ثمَّ إبقاء تركيا حبيسة شطآنها المطلّة عليه. أكثر من ذلك، عاد بايدن إلى مقاربة حقبة إدارة باراك أوباما، والتي كان فيها نائباً للرئيس، إذ ضاعف من الدعم الأميركي للقوات الكردية في شمال سورية، والتي تتهمها أنقرة بأنها امتداد لحزب العمال الكردستاني التركي الذي تصنفه إرهابياً. وهكذا، استمرّت تركيا تجد نفسها رهينة عدة أفخاخٍ نصبت لها في سورية، سواء أميركياً أم روسياً أم من النظام السوري، وهو ما جعلها في موقفٍ ضعيفٍ قابل للابتزاز.
كانت كل من أنقرة وأبوظبي تواجهان التحدّيات الجيوستراتيجية الخاصة بهما، في الوقت الذي تخوضان فيه صراعات بالوكالة في ساحات عدة، كما في ليبيا، وشرق المتوسط، وسورية… إلخ، وهو ما ضاعف من الاستنزاف الذي تعانيانه، خصوصاً في ظل جائحة كورونا. أمام ذلك، بدأت كل دولةٍ تتلمس تخفيف الكلف التي تثقل عاتقها.
كانت كل من أنقرة وأبوظبي تواجه التحدّيات الجيوستراتيجية الخاصة بها، في وقت كانتا تخوضان صراعات بالوكالة في ساحات عدة
تبعت الإمارات خطى السعودية في إصلاح علاقاتها مع قطر، وفتحت خطوط الحوار مع إيران التي تزداد شراسة، وكذلك مع نظام بشار الأسد، ثمَّ التفتت إلى تركيا، خصوصاً أن حليفيها، السعودي والمصري، سبقاها إلى ذلك. مبنى الحسابات السعودية الإماراتية أن شرقاً أوسط، في ظل تقهقر أميركي منه، يستلزم تحالفاتٍ جديدة، وتسكين صراعات غير ضرورية الآن. جاءت الالتفاتة نحو أنقرة، تماماً كما مع الدوحة، في سياق التسكين، في حين جاء فتح علاقات تطبيع مع إسرائيل في سياق التحالفات الجديدة. وكما يقول الأكاديمي الإماراتي المقرب من دوائر الحكم، عبد الخالق عبد الله، “ما يدفع كل هذا هو التقييم العميق لدور الإمارات في المنطقة، ومراجعة عميقة لنفوذ الإمارات الإقليمي الذي اكتسبته على مدى السنوات العشر الماضية. تحاول الإمارات تعزيز نفوذها الإقليمي وتحاول إظهار نفسها كصانعة سلام من الآن فصاعدا”. ويخلص إلى القول: “لقد سئمنا من عدم الاستقرار والصراع وصدامات المصالح التي لم يربح منها أحد. وإذا كان هناك أي مكسب فهو قليل للغاية”. أنقرة، أيضاً، لم تعد قادرةً على تحمّل أعباء التزاماتها الكثيرة والواسعة في المنطقة. اقتصادها يتداعى. عملتها المحلية، الليرة، تتهاوى إلى قاعات سحيقة. دائرة خصومها أوسع من دائرة حلفائها. ورؤية أردوغان وخططه لعام 2023، أي في الذكرى المئوية الأولى للدولة التركية الحديثة، تواجه تحدّيات عظام، وهو ما قد يعني خسارته وحزبه الانتخابات.
إذن، في مقاربات الطرفين، لا بد من تهدئة، ولو إلى حين، فالحسابات الأيديولوجية يمكنها أن تنتظر، بل وأن تتوارى وراء حسابات الربح والخسارة. ولا شك أن أنقرة وأبوظبي تعولان على مكاسب أكبر بكثير من عشرة مليارات دولار قيمة استثمارات إماراتية قادمة في تركيا في مجالات الطاقة والصحة والبيئة والغذاء، فضلاً عن اتفاقيات شراكة بين بورصات الدولتين وبنوكهما وصناديق الثروة السيادية. كلتاهما تدرك أن كلف استمرار الصراع والتنافس الإقليمي المحموم بينهما الآن سيكون لها تداعيات كارثية عليهما في ظل إزاحاتٍ بنيويةٍ جيوسياسياً وجيوستراتيجياً. إنها المصالح، وهي السياسة، التي تثبت كل مرّة أنها درجة احتراق الأيديولوجيا، في انتظار جولة جديدة من احتدام التنافس والصراع.
أسامة أبو أرشيد
العربي الجديد