لعل الكمامات التي ارتداها جميع من حضر اجتماع مقتدى الصدر وجماعة الإطار التنسيقي أخفت كثيراً من ملامح الخلافات بين الحاضرين، لمن حضر ذلك الاجتماع الذي استمر أكثر من ثلاث ساعات، بين المجموعة الشيعية التي ما عادت كتلة موحدة سياسياً.
حكومة أغلبية لا توافقية
أصر الصدر على أن تكون الحكومة المقبلة بغالبية سياسية، وليست توافقية، أكدها بقوة أثناء الاجتماع مع الإطار التنسيقي كما يسمى، الذي يوصف بأنه ذو غالبية ولائية، تؤمن بولاية الفقيه المعتمدة في المرجعية الإيرانية، ولا تتبع مرجعية النجف العراقية في الأمور الشرعية والعقائدية.
شهد ذلك الاجتماع الذي دعا إليه مقتدى الصدر في بيت هادي العامري الولائي الأول في العراق، لقاءً للمرة الأولى بين الصدر ونوري كامل المالكي رئيس الوزراء السابق منذ أربعة عشر سنة، فأذاب جليد الجفوة بين الزعيمين المتخاصمين ردحاً طويلاً من الزمن، كذلك مع زعيم عصائب الشيخ قيس الخزعلي بعد ست سنوات من عدم اللقاء معه، وهما خصما الصدر، داخل البيت الشيعي، وهما من أشد الداعين إلى الائتلاف والتوافق بين المكون الشيعي ودعاة توحيد الصف لهذا المكون.
لكن الولائيين جوبهوا بثوابت الصدر الخمسة التي أطلقها، وهي لا بد من حكومة أغلبية وطنية، والمقاومة كانت وما زالت وستبقى صدرية، ولا بد من الرجوع إلى المرجعية في النجف حصراً كمرجعية للجميع، وحكومة أغلبية لا توافقية أو محاصصية على الإطلاق، ومحاربة الفساد من أولوياتنا وأهدافنا، التي وجدوها خارج توقعاتهم في احتمالية تخليه عن فكرة الأغلبية.
مما عقد المشهد عليهم بإقناعه بالعودة إلى صيغة الائتلاف الشيعي الموحد الذي أخفى الأسى وخيبة الأمل خلف الوجوه المغطاة بكمامات سميكة انتصفت تحتها الوجوه، وتأكد عزم رئيس التيار الصدري، الذي جاء إلى بغداد من النجف، ليقول للجميع لقد انتهت مهلة التشكيك في الانتخابات ونتائجها، وها نحن نتقدم خطوة نحو الكتلة الأكبر وبالقانون، التي تمكنت من أن تقدم مرشحاً لرئاسة الحكومة، وقد يكون الكاظمي أولهم، وإن لم توافقوا سنلجأ إلى تقديم مرشح نجري عليه تصويتاً إلكترونياً سرياً في مجلس النواب المقبل، وهو الذي يختار قبالة مرشحكم، وستقبلون الفائز، وهذا الذي سيحدث لاختيار رئيس الحكومة المقبلة التي سيكون المرشح الأوفر حظاً لها هو الكاظمي، كما يرجح المراقبون المقربون، من الدائرة الضيقة للصدر.
لا مشروع للحل إنما فرشة أفكار
الاجتماع كان من دون تقديم مشروع محدد، كما يقول أحمد الأسدي رئيس كتلة السند الوطني، وأحد قيادات الإطار التنسيقي، الذي بدا متفائلاً بعيد ذلك الاجتماع الذي كان بمثابة تحريك وإنقاذ للانسداد السياسي، الذي أعقب الانتخابات الأخيرة في العاشر من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، ووصف النقاشات التي دارت بأنها صريحة جداً، ولم تكن بروتوكولية، بل جلسة مصارحة، و”أن الصدر لم يأت لعقد اتفاق معنا، وهو الذي طلب الزيارة لبحث مشكلة أراد لها حلاً، ولم يفرض أو يناقش اتفاقاً مع الإطار التنسيقي.
اقرأ المزيد
10 قتلى من البيشمركة و3 مدنيين في هجوم شنه “داعش” شمال العراق
احتمالات الانتخابات العراقية المبكرة مستمرة رغم إعلان النتائج
الكتلة الصدرية “أكبر الفائزين” في الانتخابات العراقية
وفي المقابل لم نطرح كإطار تنسيقي اتفاقاً، إنما طرحنا كل ما يعد جزءاً من المشكلة، فكان حديثاً عن الفساد وضرورة وقف الهدر المستمر والمتعمد للمال العام في أكثر من مفصل من مفاصل الدولة، ووضع آلية للمعالجة بمحاكمة ومحاربة الفاسدين، والجميع اتفق على ضرورة أن تلتزم القوات الأجنبية الاتفاق مع الحكومة العراقية على الانسحاب في الثلاثين من ديسمبر (كانون الأول) الحالي، واتفقنا جميعاً على حصر السلاح في يد الدولة، بعد أن تخرج القوات الأجنبية، ويسلم السلام لهيئة الحشد الشعبي، حيث أكد دعمه للحشد وبقاءه كمؤسسة تابعة للدولة، مع تقويته وتنظيمه ومأسسته وفق القانون، ورفض التطبيع مع إسرائيل وتجريمه وفق قانون العقوبات العراقي، مشتركاتنا مع التيار الصدري كثيرة، واختلافنا على بعض الآليات التي يمكن حلها، وهذا الاجتماع نزع فتيل الأزمة” على حد قوله.
ويشير الأسدي إلى أن الاجتماع خطوة مهمة لتقارب وجهات النظر، لا سيما بين الصدر والمالكي اللذين لم يلتقيا منذ أربعة عشر عاماً، ومع الشيخ قيس الخزعلي منذ ست سنوات.
التيار الصدري: لا سلاح خارج الدولة
لكن رئيس الهيئة السياسية للتيار الصدري أحمد المطيري قال “إن الصدر شدد على أنه في حالة رغب قادة الإطار التنسيقي بالدخول في الحكومة الجديدة فعليهم تسليم سلاح الفصائل المسلحة إلى الحشد ومحاسبة الفاسدين”. مؤكداً أن ذهاب رئيس التيار الصدري إلى منزل العامري كان لسد ذريعة على ما يقولون إن “السلم الأهلي قد يتعرض للخطر، ولم يذهب من أجل تفاهمات حكومية”.
في وقت أكد بيان الإطار التنسيقي ست نقاط، أبرزها العمل على رفع المستوى الاقتصادي للمناطق المحرومة، وإبعاد التنافس السياسي عن كل المشاريع الخدمية، ورفع المحرومية عن هذه المناطق، وحماية الحشد الشعبي ودعمه وتنظيمه. بما يعزز دوره في حفظ الأمن في البلاد.
لا حكومة توافقية
الصدر أصر على رفض التقسيم العرضي (التوافقي)، الذي يسعى إليه الإطار التنسيقي الشيعي، خشية أن تستمر مصالح الفاسدين، وتبقى حال البلاد على ما هي عليه دون خطوة واحدة للأمام لتقدم العملية السياسية التي أنتجت دولة فاشلة، ما يجعل الأمر صعباً على (الإطار التنسيقي)، وهذا اسم كل القوى الشيعية التي تطالب بحكومة توافقية، يشتركون في وزاراتها ومكاسبها ومنافعها المادية والسياسية.
وقال الصدر في عقر دارهم في بيت هادي العامري القيادي لكتلة فتح الولائية، بأن حكومة العراق المقبلة “غير توافقية بكتلة شيعية موحدة”، كما جرى خلال زمن (الائتلاف الشيعي الموحد) السابق، الذي يملك أغلبية مريحة لاستصدار أي قرار برلماني أو حكومي بالتصويت المريح، ولم يحدث النقلة المطلوبة في حياة الشعب، بل بالعكس، لكن المسألة اختلفت الآن، ولم تعد الكتلة الأكبر وفق تجمع أصوات الطائفة، بل وفق تحالفات سياسية تجمع الشيعة والسنة والأكراد، مؤتلفين طولياً وليس عرضياً، كما يريد الولائيون الذين أدمنوا التقسيم العرضي، الذي يضمن لهم سلطة القرار وتوزيع الأدوار على أتباعهم، بما تمليه مصالحهم السياسية وغير السياسية، وتعيين من يشاؤون في مراكز الدولة، بأي اتجاه، ويسوغون الزعامة التي يريدون، وفق معيار راجح، هو الانتماء والانتساب الطائفي الذي يضمن مسلمة.
“ما ننطيها” التي أطلقها رئيس الحكومة السابق لدورتين، زعيم حزب الدعوة نوري المالكي الذي حصل وحزبه الدعوة على ثالث تسلسل في الأصوات الانتخابية في الدورة الحالية، لكنه لن يتمكن عددياً من تأليف الكتلة الأكبر أو تحقيق رغبته ليعاود دورة ثالثة لرئاسة الحكومة، وأمامه صخرة الصدر التي تلغي آماله كلياً، وهذا المأزق يواجهه صاحب الدعوة لاجتماع المكون الشيعي هادي العامري، الذي ظن أن الصدر سيبدي مرونة بقبول منطق الولائيين، ورغبتهم في إقناعه على منطلق التوافقية، الذي يجعلهم في الواجهة مرة أخرى.
لكن الصدر الذي يقف عند رصيد أكبر الفائزين بـ (74) صوتاً. يدرك أن الديمقراطية التي روج لها العهد الجديد من أتباع الأحزاب الإسلامية وسواهم، وقدموا إعلاناً متواصلاً على أن الحكم في المعادلة الجديدة لقيادة البلاد هو صندوق الاقتراع، الذي انتزعه التيار الصدري بجدارة، الذي أحرجهم وجعل الآخرين يلهثون وراءه، أحرجتهم مرتين، مرة من خلال رفضه منطق التوافق الطائفي الذي وجد فيه مؤشراً لإدامة فساد الدولة وضياع بوصلتها باتجاه زيغ اللا دولة الذي ساد خلال العقدين الماضيين، وأخرى أنه ألغى صيغة اختيار رئيس الحكومة ووزرائه موظفاً يعمل لديهم، بصيغة المحاصصة التي ألفوها، وفيها توزع أموال الميزانيات ويتصرف بها رؤساء الكتل في المحصلات، لأن المعينين يأتمرون بإملاءات تلك الكيانات، حيث تؤشر حكومة الأغلبية إلى ترجيح كفة من يعملون للعراق وبنائه، ومنع الفساد وتحجيمه على الأقل.
يبدو أن الصدر أدرك أو التقط منطق الشارع، الذي مل الوعود والتمنيات الواهية، ورجح أن يتخلص العراق من أزماته المتكررة ومغادرة وضعه في الفوضى عنوة، من خلال العمل بصيغة الأغلبية السياسية، دون التوافقية التي يسعى إليها خصومه، الذين يصرون على أن يستمر إيقاع المحاصصة وتقسيم موارد البلاد في ما بينهم، ليواصلوا الانتفاع ويبقى كل شيء على ما هو عليه.
لكن الصدر غرد بعيد الاجتماع، وهو في طريقه إلى النجف مودعاً الوجوه التي التقاها “لا شرقية ولا غربية حكومة أغلبية وطنية”، ليعلن عزم حكومته المقبلة التي تخضع لتياره على أن لا تأخذ تعليماتها لا من إيران الشرقية ولا من أميركا في الغرب، بل من قرار وطني، وهذا ما يأمله، هو وقاله بصراحة لمضيفيه في الإطار التنسيقي الشيعي المنافس، بعد أن ملأ يديه من حلفائه الأكراد من البارتي، وتقدم الحلبوسي السني.
صباح الناهي
اندبندت عربي