ركز مؤلفو ثلاثة كتب حديثة عن هنري كيسنجر وجيمي كارتر وجيمس بيكر الدروس التي يمكن لقادة اليوم تعلمها من جهودهم البارزة في صنع السلام.
“في 24 تشرين الثاني/نوفمبر، عقد معهد واشنطن منتدى سياسي افتراضيً مع مارتن إنديك وستيوارت آيزنستات وسوزان غلاسر. وإنديك شغل مرتين منصب سفير الولايات المتحدة في إسرائيل وهو مؤلف الكتاب الذي صدر مؤخراً بعنوان “سيد اللعبة: هنري كيسنجر وفن دبلوماسية الشرق الأوسط”. وآيزنستات كان نائب وزير الخزانة الأمريكي السابق ومؤلف كتاب “الرئيس كارتر: سنوات البيت الأبيض (2018)”. وغلاسر هي كاتبة في مجلة “نيو يوركر” ومؤلفة مشاركة للكتاب “الرجل الذي أدار واشنطن: حياة وأوقات جيمس بيكر الثالث” (مع بيتر بيكر، 2020). وفيما يلي ملخص المقرران لملاحظاتهم”.
مارتن إنديك
في بداية ولايته كوزير للخارجية، كرّس هنري كيسنجر القليل من الوقت للدبلوماسية في الشرق الأوسط، معتقداً أن قوة الردع الإسرائيلية والإيرانية في المشرق والخليج على التوالي، أوجدت توازناً مستقراً. ومع ذلك، فقد دفعه الرئيس نيكسون لتحقيق المزيد من الاستقرار في المنطقة من خلال العمل على إحلال السلام في الشرق الأوسط.
وخَطَّط كيسنجر أساساً لإطلاق مبادرة [سلام] بعد انتهاء الانتخابات الإسرائيلية في عام 1973، لكن الصراع العسكري المفاجئ الذي اندلع في تشرين الأول/أكتوبر من ذلك العام أرغمه على تغيير مساره. فمن وجهة نظره، خلقت حرب يوم الغفران (أكتوبر) نوعاً من المرونة في الشرق الأوسط يمكنه استغلالها لتهميش الاتحاد السوفييتي في المنطقة وتشكيل نظام جديد بقيادة أمريكية.
وقد برع كيسنجر في تحريك عناصر “لعبة” الشرق الأوسط وإرغام القادة على تقديم تنازلات يفضلون تجنبها. فبخلاف تسعينيات القرن الماضي، عندما أقامت الولايات المتحدة وجوداً عسكرياً كبيراً في المنطقة بعد “حرب الخليج”، لم يكن يملك قوة أمريكية لدعمه. وبدلاً من التركيز على خطط السلام الكبرى، مارس ضغوطاً انتقائية من أجل دفع شخصيات رئيسية وتحقيق أهداف منفصلة. ففي عام 1973 على سبيل المثال، استغل التهديد بشن ضربات إسرائيلية لإرغام مصر وسوريا والاتحاد السوفييتي على قبول وقف إطلاق النار الذي اقترحه. وبالمثل، استغل ضعف إسرائيل في فترة ما بعد الحرب لإخضاع قادتها لإرادته، على سبيل المثال منع مبيعات الأسلحة لفرض تنازلات رئيسية في حقول النفط في سيناء.
باختصار، فضل كيسنجر اتخاذ الخطوات التدريجية على الحركات الدراماتيكية، والنظام على السلام، والتوقعات الواقعية على المثاليات الخطرة. لكن في حين نجح أسلوبه المحافظ بشكل جيد خلال إدارة نيكسون، إلا أنه ترك تداعيات معاكسة في أحيان أخرى. فإحجامه عن التسبب بمشاكل مَنَعه من استغلال حرب عام 1973 كمنصة إطلاق مباشرة لمعاهدة إسرائيلية – مصرية أو إشراك الأردن في مناقشات السلام. وكانت أبرز مهاراته أيضاً هي أبرز إخفاقاته: فقد حالت قدرته على رصد الخطر في التحولات الإقليمية الرئيسية دون رؤيته للاحتمالات الكبرى.
ستيوارت آيزنستات
انتقل جيمي كارتر، من منصب حاكم جورجيا لقترة ولاية واحدة مع القليل من الخبرة في السياسة الخارجية إلى شخصية بارزة في دبلوماسية الشرق الأوسط عند توقيع “اتفاقات كامب ديفيد” بين إسرائيل ومصر. وحيث تأثر كارتر بشدة بمستشاره للأمن القومي، زبغنيو بريجينسكي، كان يعتقد أن النهج التدريجي الذي اعتمده كيسنجر قد أكمل مسيرته وأن السلام في الشرق الأوسط من شأنه أن يوسع بشكل كبير نفوذ الولايات المتحدة في المنطقة على حساب موسكو. وكانت حرب عام 1973 وأزمة النفط الناتجة عنها قد تسببت في إحداث دمار في الاقتصاد الأمريكي وساهمت في فوزه في الانتخابات عام 1976. وقد أراد تجنب تكرار تلك الأزمات بأي ثمن، وبالتالي كان يتطلع إلى تحقيق تسوية إقليمية شاملة.
كما نظر كارتر إلى الشرق الأوسط من منظار أخلاقي، وتعاطف كثيراً مع الفلسطينيين بحيث قارن محنتهم بما عاناه الأمريكيون الأفارقة في الولايات المتحدة. وكانت قناعاته راسخة للغاية حيث أنه كان مستعداً لخسارة إعادة انتخابه إذا كان ذلك يعني تحقيق السلام. وغالباً ما أغضبت قناعاته هذه إسرائيل واليهود الأمريكيين. ففي إحدى المناسبات على سبيل المثال، أدلى بتعليق مرتجل حول إنشاء وطن فلسطيني، وحتى يومنا هذا لا يزال بعض السياسيين من “حزب العمل” في إسرائيل يعتقدون أن تعليقه هذا مكّن الحزب اليميني برئاسة مناحيم بيغن من الوصول إلى السلطة.
وفيما يتعلق بأعظم إنجازات كارتر، أي “اتفاقات كامب ديفيد”، فقد عملت مصر وإسرائيل نحو تحقيق تلك النتيجة بشكل تدريجي من خلال عدة مفاوضات واتصالات سرية. وفي السنوات التي أعقبت حرب 1973، التقى بيغن والرئيس المصري أنور السادات بقادة رومانيا، كما اجتمع وزير الخارجية الإسرائيلي موشيه ديان مع ملك المغرب الحسن الثاني، وأبلغ الموساد القاهرة عن محاولة اغتيال. حتى أن البلدين كانا يتجهان نحو تأكيد علني للاتصالات القائمة بينهما من خلال مؤتمر في مجلس الأمن الدولي، لكن كارتر عارض ذلك.
واعتَقَد كارتر في البداية أن بإمكانه النجاح حيث فشل كيسنجر والتوصل إلى سلام شامل بدلاً من مجرد اتفاق ثنائي بين مصر وإسرائيل. غير أن هذه الفكرة باءت بالفشل حالما انسحبت سوريا من المفاوضات. ولم يعمد كارتر إلى دعوة الرئيسين إلى “كامب ديفيد” إلا بعد أن زار السادات القدس وردّت إسرائيل برسائل مصالحة. وبعد ذلك، لجأ إلى لمسته الشخصية للجمع بينهما، مدركاً عدم الاستقرار السياسي للسادات ومناوراً حول عناد بيغن. والأهم من ذلك، وضع هيبة الرئاسة على المحك في سعيه لتحقيق السلام، حيث أمضى أسبوعين في “كامب ديفيد” واقترح العديد من الخطط – في اختلاف ملحوظ عن محادثات “كامب ديفيد” عام 2000 التي غادرها الرئيس كلينتون في مرحلة ما لحضور اجتماع مجموعة الدول السبع.
وبشكل عام، فضّل كارتر إضفاء لمسة ناعمة على النفوذ الذي مارسه كيسنجر. فلم يمنع قط مبيعات الأسلحة إلى إسرائيل؛ وفي الواقع، بذل قصارى جهده للحفاظ على التفوق العسكري النوعي لإسرائيل خلال بيع الأسلحة إلى السعودية. وفي النهاية، كان سعيه الدؤوب لإحلال السلام واستعداده لاستثمار رأس مال سياسي وطاقة هائلتين هما اللذان أديا إلى توقيع الاتفاقات.
سوزان غلاسر
مثله مثل العديد من أسلافه، لم يكن جيمس بيكر يرغب بالتدخل في عملية صنع السلام في الشرق الأوسط عندما أصبح وزيراً للخارجية. فلم يكن لديه حب كيسنجر للأضواء ولا محفز كارتر الديني ومثاليته. غير أن دينس روس، مدير التخطيط للسياسة في عهده، ذكّره بالعبرة المثبتة في المنطقة: قد لا تريد الانخراط في شؤون الشرق الأوسط، ولكن الشرق الأوسط يريد الانخراط معك.
ومع انتهاء الحرب الباردة، بقيت المنطقة نقطة استراتيجية في عالم ما بعد الاتحاد السوفييتي – عالم أصبح مشتعلاً عندما غزا صدام حسين الكويت في عام 1990. وسرعان ما أصبح هذا الصراع وتداعياته محور تركيز بيكر، حيث أدّى انتصار التحالف بقيادة الولايات المتحدة ضدّ صدام إلى دعم واسع للدور الأمريكي في المنطقة.
وأدرك بيكر أيضاً أن إعادة الاصطفاف في ميزان القوى العالمي أتاحت له فرصة لممارسة أقصى قدر من الميزة لإحلال السلام. فقد عقد “مؤتمر مدريد” عام 1991 وسعى بلا كلل إلى جمع الإسرائيليين والعرب معاً. وعلى الرغم من أنه لم يحقق اتفاقية سلام رئيسية في الشرق الأوسط، إلا أنه أرسى الأسس وإثبات المفهوم لمفاوضات مستقبلية.
وكان بيكر مقرباً جداً من الرئيس جورج بوش الأب. فقد كان الرجلان يحترمان بعضهما البعض بشكل كبير كنظيرين – فمتى تحدث بيكر، كان المستمعون يعلمون أنه يتحدث نيابة عن بوش (على عكس ما كان عليه الأمر عندما حاول سايروس فانس، على سبيل المثال، التحدث باسم الرئيس كارتر). وعلى غرار نهج كيسنجر، استخدم بيكر نفوذه لجعل إسرائيل تقبل الطلبات الأمريكية، بدءاً من تجنب التدخل العسكري في الحملة ضد صدام وصولاً إلى حضور “مؤتمر مدريد”.
وفي النهاية، انتهى تدخل بيكر في الشرق الأوسط كما بدأ، عبر أحداث غير متوقعة كانت خارج سيطرته إلى حدّ كبير. فصحيح أن انهيار الاتحاد السوفييتي وغزو صدام للكويت أدخلاه إلى المنطقة، لكن اغتيال إسحاق رابين وعدم قدرة بوش على الفوز بولاية ثانية أبعداه عن المشهد في وقت أبكر مما كان يتوقّعه.
معهد واشنطن