الغرب ساعد على صنع أزمة اللاجئين ويغلق أبوابه في وجوههم

الغرب ساعد على صنع أزمة اللاجئين ويغلق أبوابه في وجوههم

أولئك الذين يقومون بالرحلات المحفوفة بالمخاطر من أجل اللجوء في أوروبا هُجِّروا بسبب الحروب والجفاف، التي يتحمل الغرب المسؤولية عنها إلى حد كبير.
* * *
سرعان ما طغى الخلاف الدبلوماسي الذي نشأ بين بريطانيا وفرنسا على مقتل ما لا يقل عن 27 شخصًا غرقًا أثناء محاولتهم عبور القنال بين البلدين في زورق مطاطي بحثًا عن اللجوء.

وفي الوقت الذي تكافح فيه الدول الأوروبية لإغلاق حدودها في وجه اللاجئين، يخوض البلدان حربًا كلامية حول المسؤول عن وقف العدد المتزايد من القوارب الصغيرة التي تحاول الوصول إلى الشواطئ البريطانية.

وقد طالبت بريطانيا بالحق في تسيير دوريات في المياه الفرنسية ووضع شرطة حدودية على الأراضي الفرنسية، مُلمحة إلى أن فرنسا ليست على مستوى المهمة.

وفي الأثناء، ألقت الحكومة الفرنسية باللوم على المملكة المتحدة لكونها نقطة جذب للعمال غير الشرعيين من خلال إخفاقها في تنظيم سوق العمل لديها.

والآن، أصبح القادة الأوروبيون في أمس الحاجة للحصول على إجابات سريعة. ولذلك، دعا الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى اجتماع طارئ لزعماء المنطقة في بدايات هذا الشهر لمعالجة أزمة “الهجرة”، على الرغم من عدم دعوة وزيرة الداخلية البريطانية، بريتي باتيل.

في المقابل، تبدو حكومة ما بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي أكثر استعدادًا للعمل من جانب واحد. وقد كثفت سياسة “البيئة المعادية” التي تنتهجها تجاه طالبي اللجوء.

ويتضمن ذلك خططًا لإعادة القوارب الصغيرة التي تعبر القنال، في انتهاك للقانون البحري والقانون الدولي، و”إبقاء اللاجئين في الخارج” باحتجازهم في معسكرات اعتقال نائية، في أماكن مثل جزيرة أسنسيون في وسط المحيط الأطلسي.

وتجري أيضًا صياغة تشريعات في المملكة المتحدة للمساعدة في ترحيل اللاجئين ومحاكمة الذين يساعدونهم، في انتهاك لالتزاماتها بموجب اتفاقية اللاجئين للعام 1951.

ليس من المستغرب على هذه الخلفية أن تكون الأحزاب المناهضة للهجرة آخذة في الصعود في جميع أنحاء أوروبا، حيث تشكك الحكومات في شرعية وجود معظم الوافدين إلى المنطقة، وتصفهم بأوصاف مختلفة، مثل “المهاجرين غير الشرعيين” و”الغزاة” و”المهاجرين الاقتصاديين”.

ولا تهدف هذه التسميات إلى نزع الصفة الإنسانية عن أولئك الذين يلتمسون اللجوء فحسب. إنها مصممة أيضًا لإخفاء مسؤولية الغرب عن خلق نفس الظروف التي دفعت هؤلاء الأشخاص إلى ترك منازلهم والإقدام على خوض رحلة محفوفة بالمخاطر بحثاً عن حياة جديدة.

ممارسة القوة
في السنوات الأخيرة، تشير التقديرات إلى أن أكثر من 20 ألف لاجئ لقوا حتفهم أثناء عبور البحر الأبيض المتوسط في قوارب صغيرة للوصول إلى أوروبا، بما في ذلك ما لا يقل عن 1.300 قضوا حتى الآن في هذا العام وحده.

ولم تظهر هوية أكثر عدد قليل من هؤلاء القتلى -أبرزهم إيلان الكردي، الطفل السوري الذي جرفت المياه جسده إلى الساحل التركي في العام 2015 بعد أن غرق هو وآخرون من عائلته بينما كانوا على متن قارب صغير أثناء محاولة الوصول إلى أوروبا.

كما أن أعداد اللاجئين التي تحاول الوصول إلى المملكة المتحدة عبر القنال، على الرغم من أنها أصغر، آخذة في الارتفاع أيضا –وكذلك حال الوفيات.

وكان السبع والعشرون شخصاً الذين غرقوا قبل نحو أسبوعين هم أكبر خسارة فردية في الأرواح في معبر القنال منذ أن بدأت الوكالات في حفظ السجلات قبل سبع سنوات.

وبالكاد أشارت وسائل الإعلام إلى حقيقة أن الناجيَين الوحيدَين قالا بشكل منفصل أن حرس السواحل البريطاني والفرنسي تجاهلوا مكالماتهم الهاتفية لطلب المساعدة عندما بدأ قاربهم في الغرق.

مع ذلك، لا يبدو أي زعيم أوروبي مستعداً لمعالجة الأسباب الأعمق لموجات اللاجئين التي تصل إلى شواطئ أوروبا –أو الاعتراف بدور الغرب في التسبب في “أزمة الهجرة”.

ذكرت التقارير أن الرجال السبعة عشر، والسبع نساء، بينهن امرأة حامل، والأطفال الثلاثة الذين لقوا حتفهم في الحادثة كانوا في أغلبهم من العراق. أما الآخرون الذين يحاولون الوصول إلى أوروبا فهم في الغالب من إيران، وسورية، وأفغانستان، واليمن وأجزاء من شمال إفريقيا.

وليس هذا التشكيل من قبيل الصدفة. ربما لا يوجد مكان تم فيه الشعور بإرث التدخل الغربي -بشكل مباشر وغير مباشر- بطريقة أكثر حدة من الشرق الأوسط الغني بالموارد.

ويمكن إرجاع جذور ذلك إلى أكثر من قرن، عندما قامت بريطانيا وفرنسا وقوى أوروبية أخرى بتقسيم المنطقة وحكمها ونهبها كجزء من مشروع استعماري لإثراء نفسها، خاصة من خلال السيطرة على النفط.

وقد اتبعت هذه الدول الاستعمارية استراتيجيات فرق تسد لإثارة التوترات العرقية وتأخير الضغط المحلي من أجل بناء الأمة والاستقلال.

كما حرم المستعمرون دول الشرق الأوسط عمدًا من المؤسسات اللازمة للحكم بعد الاستقلال.

ومع ذلك، كانت الحقيقة أن أوروبا لم تغادر المنطقة حقًا، وسرعان ما انضمت إليها الولايات المتحدة، القوة العظمى العالمية الجديدة، لإبقاء المنافسين، مثل الاتحاد السوفياتي والصين، بعيدين.

ودعمت هذه القوى طغاة فاسدين وتدخلت للتأكد من بقاء حلفائها المفضلين في أماكنهم. كان النفط مكافأة ثمينة جداً لدرجة أنه لا يمكن التخلي عنه للسيطرة المحلية.

السياسات الوحشية
بعد سقوط الاتحاد السوفياتي قبل ثلاثة عقود، تمزق الشرق الأوسط مرة أخرى بسبب التدخل الغربي -هذه المرة متنكراً في صورة “الإنسانوية”.

قادت الولايات المتحدة أنظمة عقوبات “الصدمة والرعب”، والضربات الجوية، والاجتياحات والاحتلالات التي دمرت دولًا كانت مستقلة عن السيطرة الغربية، مثل العراق وليبيا وسورية.

ربما كان الذين أبقوا هذه الدول متماسكة أوتوقراطيون، لكن هذه الدول قدمت –إلى أن تم تفكيكها- بعضًا من أفضل خدمات التعليم والرعاية الصحية ونوعية العيش في المنطقة.

لاقت وحشية السياسات الغربية، حتى قبل الإطاحة بالرجال الأقوياء في المنطقة، صدى لدى شخصيات مثل مادلين أولبرايت، وزيرة خارجية الرئيس الأميركي السابق بيل كلينتون.

وعندما سُئلت في العام 1996 عن العقوبات الاقتصادية التي قُدر في ذلك الوقت أنها قتلت نصف مليون طفل عراقي في محاولة فاشلة للإطاحة بصدام حسين، أجابت: “إننا نعتقد أن هذا الثمن يستحق دفعه”.

وسرعان ما تحركت مجموعات مثل “القاعدة” وما تسمى بـ”الدولة الإسلامية” (داعش) لملء الفراغ الذي نشأ بعد أن دمر الغرب البنية التحتية الاقتصادية والاجتماعية المرتبطة بهذه الحكومات الأوتقراطية.

وجلبت هذه الجماعات نوعها الخاص من الاحتلال، فتشتت المجتمعات وقمعتها وأضعفتها، وقدمت ذرائع إضافية لتدخل الغرب، إما مباشرة أو من خلال العملاء المحليين في المنطقة.

وما تزال دول المنطقة التي تمكنت حتى الآن من الصمود أمام سياسة “القطع والحرق” الغربية هذه، أو تمكنت من طرد محتليها -مثل إيران وأفغانستان- تعاني من العقوبات العقابية المعوقة التي تفرضها الولايات المتحدة وأوروبا.

وتجدر ملاحظة أن أفغانستان خرجت من احتلالها الذي قادته الولايات المتحدة على مدى عقدين كاملين في وضع أسوأ حتى مما كانت عليه عندما تعرضت للغزو.

وفي أماكن أخرى، ساعدت بريطانيا وآخرون في استمرار حروب المنطقة، مثل حرب اليمن. وأشارت التقارير الأخيرة إلى أن ما يصل إلى 300 طفل يمني يموتون كل يوم بسبب الحرب.

ومع ذلك، بعد عقود من الحرب الاقتصادية على هذه البلدان الشرق أوسطية، ما تزال الدول الغربية تمتلك الجرأة للتنديد بأولئك الفارين من انهيار مجتمعاتهم ووصفهم بأنهم “مهاجرون اقتصاديون”.

أزمة المناخ
حولت تداعيات التدخل الغربي الملايين في جميع أنحاء المنطقة إلى لاجئين، وقد أجبروا على ترك منازلهم بسبب تصاعد الخلافات العرقية، واستمرار القتال، وفقدان البنية التحتية الحيوية، والأراضي التي أصبحت ملوثة بالقذائف.

واليوم، يعيش معظمهم في معسكرات الخيام في المنطقة، ويعيشون على المساعدات الغذائية والقليل من الأشياء الأخرى.

وكان هدف الغرب هو إعادة الاندماج المحلي: إعادة توطين هؤلاء اللاجئين وإعادتهم إلى حياة قريبة من المكان الذي كانوا يعيشون فيه سابقًا.

لكن زعزعة الاستقرار التي سببتها الأعمال الغربية في جميع أنحاء الشرق الأوسط تتفاقم بفعل ضربة ثانية يجب أن يتحمل الغرب نصيب الأسد من اللوم عنها أيضاً.

لم تكن المجتمعات التي دُمرت وانقسمت بسبب الحروب التي يشنها ويغذيها الغرب والعقوبات الاقتصادية في وضع يمكنها من تحمل درجات الحرارة المرتفعة والجفاف المستمر، اللذين يعاني منهما الشرق الأوسط الآن مع انتشار أزمة المناخ.

ويؤدي نقص المياه المزمن وفشل المحاصيل المتكرر –اللذان يتفاقمان بسبب ضعف الحكومات العاجزة عن المساعدة- إلى إبعاد الناس عن أراضيهم بحثًا عن حياة أفضل في أماكن أخرى.

في السنوات الأخيرة، ذُكر أن حوالي 1.2 مليون أفغاني أجبروا على ترك منازلهم بسبب مزيج من الجفاف والفيضانات. وفي آب (أغسطس) من هذا العام، حذرت منظمات الإغاثة من أن أكثر من 12 مليون سوري وعراقي فقدوا سبل الوصول إلى الماء والغذاء والكهرباء.

وقال كارستن هانسن، المدير الإقليمي لمجلس اللاجئين النرويجي: “الانهيار الكامل لإنتاج المياه والغذاء لملايين السوريين والعراقيين بات وشيكًا”.

ووفقًا لبحث حديث، “تشهد إيران مشاكل غير مسبوقة تتعلق بالمناخ، مثل جفاف البحيرات والأنهار والعواصف الترابية ودرجات الحرارة القياسية والجفاف والفيضانات”.

وفي تشرين الأول (أكتوبر)، أشار الاتحاد الدولي لجمعيات الصليب الأحمر والهلال الأحمر إلى أن تغير المناخ يعيث فساداً في اليمن أيضا، مع تعاقب الفيضانات الشديدة وزيادة مخاطر الأمراض المنقولة بالمياه.

لا يمكن للدول الغربية أن تتهرب من مسؤوليتها عن ذلك. كانت هذه البلدان نفسها هي التي جردت الشرق الأوسط من أصوله خلال القرن الماضي واستغلت الثروة الناتجة عن الوقود الأحفوري لتكثيف التصنيع وتحديث اقتصاداتها.

وسجلت الولايات المتحدة وأستراليا أعلى معدلات استهلاك الوقود الأحفوري للفرد في العام 2019، تليهما ألمانيا والمملكة المتحدة. وتحتل الصين أيضا مرتبة عالية، لكن الكثير من استهلاكها النفطي ينفَق على إنتاج السلع الرخيصة للأسواق الغربية.

ترتفع درجة حرارة كوكب الأرض بسبب أنماط الحياة الغربية المتعطشة للنفط. والآن، يُحرم الضحايا الأوائل لأزمة المناخ –أولئك في الشرق الأوسط الذين قدموا ذلك النفط- من الوصول إلى أوروبا من قبل نفس الدول التي تسببت في أن تصبح أراضيهم غير صالحة للسكن والعيش على نحو متزايد.

حدود منيعة
الآن، تستعد أوروبا لجعل حدودها منيعة أمام ضحايا تدخلها الاستعماري وحروبها وأزمة المناخ التي ولّدتها اقتصاداتها القائمة على الاستهلاك.

ولا تبدي الدول مثل بريطانيا أي اهتمام على الإطلاق بعشرات الآلاف من الطلبات التي تتلقاها كل عام للحصول على اللجوء، والتي يقدمها أولئك الذين خاطروا بكل شيء من أجل حياة جديدة.

وهم أناس يتطلعون إلى المستقبل. وتتعرض مخيمات اللاجئين مسبقاً إلى ضغوط شديدة في جميع أنحاء الشرق الأوسط، وعلى نحو يختبر قدرات البلدان المضيفة -تركيا والأردن ولبنان والعراق- على التأقلم والمواكبة.

وتعرف الدول الغربية أن تأثيرات تغير المناخ ستزداد سوءًا، حتى بينما تتشدق بمعالجة الأزمة من خلال “صفقة خضراء جديدة”. وسوف يطرق الملايين، بدلاً من الآلاف الحالية، أبواب أوروبا في العقود القادمة.

بدلاً من مساعدة أولئك الذين يطلبون اللجوء في الغرب، قد تكون اتفاقية اللاجئين للعام 1951 واحدة من أكبر العقبات التي يواجهونها. فهي تستثني أولئك الذين نزحوا بسبب تغير المناخ، وليست الدول الغربية في عجلة من أمرها لتوسيع نطاق الاتفاقية.

بدلاً من ذلك، تعمل الاتفاقية كوثيقة تأمين خاصة لهذه الدول.

في الشهر الماضي، مباشرة بعد غرق اللاجئين السبعة والعشرين في القنال الإنجليزي، أخبرت باتيل زملاءها المشرّعين بأن الوقت قد حان “لإرسال رسالة واضحة مفادها أن عبور القنال بهذه الطريقة المميتة، في قارب صغير، ليس هو السبيل للوصول إلى بلدنا”.

لكن الحقيقة هي أنه إذا تمكنت الحكومة البريطانية والدول الأوروبية الأخرى من مواصلة السير في الطريق الذي تسلكه الآن، فلن يكون هناك طريق شرعي لدخول القادمين من الشرق الأوسط الذين دمر الغرب حياتهم وأوطانهم.

الغد