عراق ما بعد مئة عام

عراق ما بعد مئة عام

أعلن الدكتور برهم صالح، رئيس الجمهورية، أن العراق خسر تريليون دولار منذ 2003 بسبب الفساد، وأكد “عدم إمكانية التعامل مع الفساد محلياً”. ثم دعا إلى “تشكيل تحالف دولي لمكافحة الفساد”، مبيناً أن “الفساد هو الاقتصاد السياسي للعنف”، وأن “الفساد لا يقل خطورة عن الإرهاب”.

طبعا لم يُضفْ الرئيس إلى الأموال التي خسرها الشعب العراقي مجموع الأموال التي بعثرها المتنفذون في إقليم كردستان، وبالأخص أسرة مسعود بارزاني، من عوائد النفط المهرب وموارد المنافذ الحدودية التي تحولت إلى قصور ومزارع وشركات وعمارات في أوروبا وأميركا ودول الخليج العربي. كما لم يُضف الأموال التي سوف تختلس أو تهدر في السنوات القادمة التي يبدو أن العراق فيها لن يتعافى من أمراضه المستمرة منذ 2003.

بالمقابل تعالوا ندقق في المصانع التي كانت شغالة وتوقفت، والمدارس والمعاهد والجامعات التي طالها الخراب في أبنيتها وفي مستواها التربوي والتعليمي، والأنهار التي جفَّف ماءَها الأشقاء الإيرانيون والأتراك متعمدين، والمؤسسات الصحية التي تدهورت في عموم العراق. والأهم من كل ذلك ضياعُ هيبة الدولة وانتشار الجريمة وهيمنة السلاح.

طبعا لم يكن العهد الملكي الذي اخترعته المواطنة البريطانية مس بيل ملائكيا ولا مثاليا في النزاهة والعدالة والديمقراطية والوطنية، بل كان نظاما بنصف ديمقراطية، ونصف عدالة، ونصف نزاهة، بدون شك، ولكنه كان دولة عازمة على استكمال الديمقراطية وتحقيق العدالة وضمان النزاهة، وقد ثبت ذلك بالدليل والإنجازات العديدة التي حققها العهد الملكي يوم كانت ميزانية الدولة زهيدة لا تقارن بما أصبحت عليه في عهود الثوار والمجاهدين.

لقد كان نظاما أقرب إلى العلمانية؛ فلم يسمح لرجل دين ولا لشيخ قبيلة أو لضابط جيش بأن يكتب الدستور ويشرع القوانين وفق مفاهيمه ومقاييسه وعقائده ومصالحه ثم يفرضها على المجتمع رغما عنه.

والأهم من كل ذلك أنه كان عهد الإنجاز والعمران والجري بسرعة، ولكن بحكمة ودراية، من أجل اللحاق بحضارة القرن العشرين، وجعل العراق دولة حديثة متقدمة متحررة من ثقافة كهوف القرون المظلمة الماضية.

ولو استمر العهد الملكي بالوتيرة المتصاعدة في الإنجاز والإعمار إلى العام 2021 لكان من المؤكد أن المواطن العراقي اليوم هو غير المواطن الحالي، والدنيا غير الدنيا، والطقس غير الطقس، والوجوه غير الوجوه

ولو استمر العهد الملكي بالوتيرة المتصاعدة في الإنجاز والإعمار إلى العام 2021 لكان من المؤكد أن المواطن العراقي اليوم هو غير المواطن الحالي، والدنيا غير الدنيا، والطقس غير الطقس، والوجوه غير الوجوه، وحتى الهموم غير الهموم التي أوجدها الثوار.

ولو قارنا عدد المعدومين والمغدورين والمسجونين والمنفيين من رجال السياسة والعلم والفكر والثقافة والفن في مجمل سنين العهد الملكي بعدد الذين أعدموا أو سجنوا أو تم نفيهم إلى خارج الوطن في سنوات العهود الجمهورية المتعاقبة، وصولا إلى العراق الإيراني الحالي، لكانت النتيجة توجب البكاء.

يقول المفكر القومي ساطع الحصري في كتابه “مذكراتي في العراق” إن مرونة فيصل الأول مع البريطانيين لم تجعله أداة لهم، بقدر ما كان يجاريهم فقط إلى الحد الذي يناسب أهدافه، أو “عندما لا يجد أمامه خياراً آخر”، كما يرى حنا بطاطو في كتابه “العراق – الطبقات الاجتماعية والحركات الثورية”.

وقد استغل الملك فيصل الأول علاقته الحسنة بالإنجليز فانتزع من تركيا الاعتراف بعراقية الموصل، وأجبر إيران على عقد اتفاقية الاعتراف بعراقية الأراضي الواقعة حول شط العرب.

ولكي ننصف العهد الملكي تعالوا نعدّد منجزاته التي لا ينكرها إلا المغالطون والمُكابرون. أولها فصل الدين عن الدولة ورفع شعار “الدين لله والوطن للجميع”. ثم كان البلد أول دولة عربية تنضم إلى عصبة الأمم عام 1932.

وفي العهد الملكي تم افتتاح أول محطة تلفزيون عام 1957، وأول مطار في محافظة البصرة، ومشروع سد الثرثار، وسد الرمادي، وبحيرة الحبانية، وسد دوكان، وسد دربندخان، وسد سامراء، وجسري الحلة والهندية.

كما تم إنشاء دار المعلمين عام 1923، ومعهد الفنون الجميلة عام 1936، ومعهد الملكة عالية للفنون البيتية عام 1932، ومعهد الملكة عالية للبنات عام 1946، ومعهد الهندسة الصناعية عام 1950، ومعهد التربية البدنية عام 1954، وكلية الطب وكلية التجارة عام 1927، وكلية الصيدلة عام 1938، والكلية التوجيهية في الأعظمية عام 1938 لإعداد وتأهيل الطلبة لدخول الجامعات، وكلية الآداب والعلوم عام 1949، وكلية الزراعة عام 1950، وكلية طب الأسنان عام 1953، وكلية الطب البيطري عام 1955، وجامعة بغداد عام 1957، وضمت الهندسة والطب والصيدلة والزراعة والطب البيطري والآداب والتربية والتجارة والحقوق، وفُتحت لهذه الكليات فروع في البصرة والموصل. ثم أقيم سد أسكي في الموصل، وسد بخمة على الزاب الكبير عام 1958، ومشروع الري المسيب الذي أنجز سنة 1957، وجسر المأمون (جسر الشهداء) الذي يربط بين شارع حيفا وشارع الرشيد عام 1939، وجسر الأحرار عام 1941، وجسر مود الحديدي الرابط بين الصالحية والرصافة، و3 جسور عائمة، هي جسر الأعظمية وجسر الكرادة وجسر ثالث مقابل شارع المتنبي.

ثم افتتاح جسر الصرافية الحديدي للسيارات والقطارات عام 1951، وجسر بغداد المعلق عام 1956 الذي لم يكتمل في عهد الملك فيصل الثاني واكتمل في عهد عبدالكريم قاسم عام 1963 وسمي بجسر 14 تموز، ثم جسر الملكة عالية (جسر الجمهورية) عام 1957 للربط بين ساحة التحرير ومنطقة الكرخ، وجسر الأئمة الرابط بين الأعظمية والكاظمية عام 1957، ثم جسر السماوة المعلق عام 1958، وهو أول جسر معلق في العراق، ثم إنشاء المتحف العراقي الجديد في الصالحية عام 1957 الذي تم استكماله وافتتاحه في عهد عبدالكريم قاسم، وإنشاء التعاونيات والشركات الزراعية، ووضْع قانون تثبيت ملكية الأراضي، وإنشاء مصانع الألبان والنفط والسكر والإسمنت والنسيج والغاز ومحطات الطاقة الكهربائية في جميع أنحاء العراق، واستكمال مشروع السكة الحديد، وتسيير أول قطار من بغداد إلى كركوك عام 1925، ومن بغداد إلى إسطنبول عام 1940.

وفي مجال الزراعة كان العراق منتجا للحنطة والشعير والفواكه، وكان يصدّر التمر والحنطة إلى إسبانيا وبريطانيا وفرنسا. وفي عهد الملك فيصل الثاني تمَّ افتتاح مصفى الدورة الذي كان يعد من أكبر مصافي النفط آنذاك في المنطقة. وأخيرا تم إنشاء مدينة الطب في بغداد بعد موافقة مجلس الإعمار.

ورغم كل هذا لا يخلو التقويم الموضوعي لسيرة العهد الملكي من ملاحظات ومآخذ على أساليب الحكم وإدارة الدولة. ولكن أين الثرى من الثريا، كما يقولون؟

العرب