ايران بعيدا عن التشيع
قد تكون هذه المقالة واحدة من الاف المقالات والكتب التي الفت عن موضوع التشيع الصفوي، وتحدثت عن مهارة الفرس في توظيف المذهب في خدمة السياسة الايرانية ، ولكن اهمية المقالة تأتي من كونها تميط اللثام عن مشاهدات عيانية تثبت مدى سطحية التشيع في السايكولوجية الايرانية، وان ساسة ايران غير مهتمين بالتشيع كنمط للقيم والاخلاق والعقيدة ، مقابل تغلغل واضح للتشيع في الشخصية العراقية ودون معرفة مسبقة من العراقيين ان ذلك التغلغل الذي ينم عن سذاجة وانفلات بل عن تطرف في المشاعر واحيانا تماهي فطري في حب ال البيت قد استغل في لحظات الهيمنة الايرانية على العراق لتعزيز النفوذ الايراني في العراق حتى على حساب الشيعة العراقيين .
المشاهدات والروايات التي يحكيها العراقيون الزائرون لايران للعلاج والسياحة والدراسة من الكثرة مايغني عن التطرق اليها جميعا ، فنسبة كبيرة منهم تجمع على ان ايران فارسية الطبع وقومية الهوى بامتياز، وهي بعيدة في نهجها وسياستها وسلوكها عن مظاهر التشيع الذي يتشبث به العراقيون .
حكى لي احد الاصدقاء انه زار قبل سنوات ايران واستقر في ايام عاشوراء في العاصمة طهران ، وهذه المناسبة يعلم العراقيون جميعا ان ايامهم فيها تتوقف و احساسهم بالزمن يتجمد ، لانشغال الناس عن دوائرهم وانغماسهم بعادات اللطم والمشي لكربلاء وطبخ اطعمة الثواب على روح الامام الحسين ( رض ) ما يجعل البلد اقرب الى النفير العام .
صديقي هذا زار العاصمة طهران حيث مقر صنع القرار ومكان بث الايدلوجيا، ومركز زرع السلوك والتنشئة السياسية والاجتماعية في عقول الاجيال الايرانية التي ولدت بعد الثورة الايرانية 1979، وتجول في شوارعها وزار معالمها التاريخية، ومراكزها الثقافية والتقى الكثير من ناسها واساتذتها ، مفكريها وعوامها فهاله انه لم يلحظ اية مظاهر للاحتفال بعاشوراء ، عدا عن لافتات صغيرة مكتوبة على ابواب بعض الحسينيات تشير الى انه عند الساعة الفلانية سيقام اجتماع لاحياء عاشوراء .
زائرنا الكريم هذا لم يلحظ اي رايات سوداء مرفوعة ولا سرادق عزاء منصوبة ولا خيام مبنية لتوزيع اطعمة القيمة والتمن ولا قطع للجسور والطرقات ولا اعلان للعطل ولا ترويج اعلامي ولاتهييج عاطفي لمشاعر الناس بطريقة استفزازية ولا تطبير ولازناجيل ولا مشي لملايين الناس في برد الشتاء وحر الصيف ولم يجد قنوات مخصصة لبث الكراهية وتوظيف هذه المناسبة لاثارة الاحقاد وبث الضغائن بين ابناء الشعب.
صديقنا وجد طهران من انظف العواصم في المنطقة واجملها تخطيطا وعمرانا وتنمية ، ووجد الشعب الايراني منضبطا في سلوكاته الدينية، محبا للعمل ومقدسا للوقت ومنتميا لايران القومية التي يسعى قادتها الدينيون اوالمحافظون كما نسميهم الى رفع شأنها بين دول المنطقة علما وتصنيعا وقوة في الاقتصاد والعسكر حتى باتت اليوم ايران من اقوى دول الاقليم واكثرها وضوحا في مشروعها الاقليمي .
ولعل اهم مايذكره ضيفنا الزائر انه زار البانوراما الايرانية التي تسلسل مراحل التاريخ الفارسي ، فوجدها مليئة بالشواهد وصور الملاحم التي تعلي من قيمة الامة الفارسية قبل الاسلام حتى اذا وصل الى واقع بلاد فارس في ظل الحضارة الاسلامية لاحظ زائرنا ظلا اسود على هذه المرحلة ، ولا حاجة لتأكيد ان هذا الظل يمثل اجماعا ايرانيا على ان دخول فارس في الاسلام هو من المراحل السوداء التي مرت بها الحضارة الفارسية ، فالإسلام يعده المتعصبون الفرس انه حطم عنفوان الامبراطورية الفارسية وازاح المجد عنها وسلم راية الحضارة لقبائل العرب الرعوية والبدوية، التي لاتملك ادنى مقومات الحضارة، بل انها كانت في الاصل جزءا من الحضارة الفارسية حسب مؤرخي الفرس القوميين.
الصورة المقلوبة :
عكس الصورة المثالية التي رسمها زميلنا الزائر عن ايران يرسم صورة مشوهة حين عودته الى العراق الذي رجع اليه قافلا عبر الطريق البري ، فما ان حطت قدماه ارض العراق حتى داهمته مناظر الرايات ، وسرادق العزاء وجموع الزائرين الحفاة ومناظر التطبير واللطم . لقد وجد الدولة معطلة بكل مفاصلها فطوال ايام شهر محرم تجد دوام الموظفين ( نص ردن ) كما يقول المثل العراقي ، اما الشوارع فمقطعة لمرور الزائرين وحينما تهم بمراجعة دائرة ما فانك تجد نصف موظفيها في زيارة المراقد المقدسة، وويل للمدير ان فكر في معاقبتهم او قطع رواتبهم، وصارت مظاهر الحزن ورفع الصور والشعارات الطائفية في داخل الدوائر تشكل امرا معتادا في صورة العيش النمطية التي اعتادها العراقيون بعد سقوط نظام صدام حسين 2003 ، لم يعد شك في ان المقاربة التي قدمناها لمظاهر التشيع في ايران والعراق ، انما تعكس توظيفا ايرانيا ذكيا للتشيع باعتباره استراتيجية سياسية، غايتها احتواء العراق وجعله مجالا حيويا للمصالح الايرانية ، فالتشيع بات ركنا من اركان الامن القومي الايراني ومصلحة قومية، يسعى ملالي ايران الى استمرار زخمها في العراق من خلال ادامة مظاهر التشيع التي يعلم قادة ايران، انها ضد التقدم والحداثة والتنمية وضد المؤسساتية ولكنها ضرورية لادامة الجهل والتخلف والانقسام الطائفي في المجتمع العراقي .
المذهب في خدمة السياسة :
معلوم ان توظيف التشيع في السياسة الايرانية لم يكن وليد احداث مابعد احتلال العراق 2003، انما وليد لحظة دخول ايران في المذهب الشيعي على يد اسماعيل الصفوي، الذي مارس كل اشكال القوة والبطش لفرض التشيع على عموم سكان بلاد فارس في القرن السادس عشر ، فمنذ ذلك الحين بات التشيع يشكل احدى علامات التصادم مع الدولة العثمانية التي رفعت هي الاخرى شعار الدفاع عن بيضة الاسلام السني .
ومع بدايات الثورة الايرانية 1979 اخذ التشيع يشكل اصلا من اصول تصدير الثورة الايرانية الى دول المنطقة، وبقي ساسة ايران يحافظون لعقود خلت على الصلات المذهبية بشيعة العالم في الهند وباكستان وافغانستان واذربيجان ودول الخليج وافريقيا، وكان لشيعة العراق حصة الاسد في ذلك، فالعراق هو الجار العدو الحاوي على اعداد كبيرة من الشيعة، وهو الحديقة الغربية لايران والتي يشكل احتواؤها احد اهم اهداف ايران السياسية. ولذلك رسمت ايران سياسة تواصل منضبط مع مختلف الفعاليات الشيعية العراقية الحزبية والعشائرية، وعلى الصعد السياسية والامنية والاقتصادية، وارتفع حجم الدعم السياسي والمالي للاحزاب الشيعية المعارضة لنظام صدام حسين مع بداية الحرب العراقية الايرانية 1980-1988، حيث رعت بقوة شخصيات وتنظيمات سياسية شيعية عراقية واقنعتها بقوة لتبني خطاب المظلومية الشيعية كاحد واجهات الحصول على الدعم الايراني.
وادت المرجعية الشيعية ورجال الدين ذوو الاصول الايرانية دورا مؤثرا في ابقاء الشعور والسلوك الجمعي لشيعة العراق حيال ايران، كدولة راعية وحامية للمشروع الشيعي في العراق. كما ادى العراقيون من ذوي الاصول الايرانية الذين استقروا منذ قرون خلت في العراق واندمجوا بالقبائل العراقية العربية وتصاهروا معها واخذوا عاداتها وتقاليدها، ادوا دور الطابور الخامس في الترويج للمشروع الايراني في العراق، واسهم طرد الكثير منهم الى ايران في بداية الحرب العراقية الايرانية الى انخراطهم في قيادة التنظيمات السياسية والعسكرية التي شكلتها ايران، واستلمت السلطة في العراق بعيد سقوط صدام حسين 2003 .
كان احتلال العراق من قبل الولايات المحدة فرصة ذهبية لايران لبسط هيمنتها العلنية على العراق، ولم يكن ذلك ممكنا او مقبولا بطبيعة الحال دون مبررات ايدلوجية ودينية، فكان الحفاظ على مصالح الشيعة وتكريس وجودهم في السلطة والحديث عن مظلومية الشيعة في ظل حكم البعث والعمل على تفكيك منظومة الدولة العراقية وفق اسس الطوائف والملل، والذي يظهر الشيعة كاغلبية حاكمة والعمل على نشر التشيع في العراق بمختلف الوسائل والاليات، الذي يشكل احد اهم اركان استراتيجية ايران للحفاظ على مصالحها القومية في العراق، والتي تمثلت بشكل واضح في الهيمنة على اقتصاد العراق من خلال صادرات البضائع الايرانية والاستثمارات المتنوعة ومشاريع اعادة الاعمار وتصدير الكهرباء والاسلحة والسيارات والمشتقات النفطية والمعدات الصناعية والزراعية، الامر الذي اوصل الميزان التجاري الايراني مع العراق الى عشرات مليارات الدولارات.
اما على الصعيد السياسي فقد تمكنت الاحزاب والمليشيات التي رعتها ودربتها ايران من الوصول الى حكم العراق وبسبب طائفيتها ونفسها الإقصائي، فقد تمكنت من اخراج العراق من معادلة الصراع الاقليمي واصبح العراق دولة فاشلة بامتياز على الصعد السياسية والعسكرية والاقتصادية، الامر الذي اراح ايران لعشرات السنوات المقبلة، حيث عطل قدرات اهم دولة اقليمية ناكفتها العداء ورفعت امامها مشروعا قوميا استقطب تاييد مئات ملايين العرب، واسقط طوال سنوات خطط ايران في تصدير ثورتها الى المحيط الاقليمي العربي، واليوم باتت الساحة العراقية متصحرة عن اي مقاومة للمشروع الايراني بعد ان بات النفوذ الايراني على اشده، واصبحت الاذرع الايرانية المتمثلة بالمليشيات ومرتزقة فيلق القدس تعبث بامن الوطن والمواطن وشكلت اداة ايرانية لتقسيم العراقيين على اساس الانتماء والهوية الطائفية .
الهوية الفارسية اولا واخيرا
الحكومة الايرانية التي تبث اليوم الفرقة وتنفث سموم الحرب الاهلية بين العراقيين وتدعم المليشات الطائفية التي تقتل وتهجر السنة في العراق، هي من جابهت بالقوة المفرطة المظاهرات التي اطلقها التيار الاصلاحي بقيادة المرشح مير حسين موسوي في 2010 ، وقتلت العشرات وسجنت المئات من المتظاهرين باعتبارهم مؤيدين لقوى الاستكبار العالمي وانهم يسعون لشق وحدة الامة الايرانية، ايران التي تدعم الحوثيين الشيعة في اليمن للوصول الى السلطة، وتدعم شيعة البحرين للاستيلاء على الدولة، وقلب نظام الحكم السني ترفض اعطاء تقرير المصير لاكرادها وسنتها وتواجه كل يوم الحركات المسلحة، التي يقوم بها الاكراد والبلوش بالقوة المسلحة حيث تعدم العشرات بل المئات منهم على اعتبار انهم خونة وعملاء لقوى الاستكبار العالمي.
ايران التي تساند اليوم وبقوة العراقيين الشيعة للحفاظ على هويتهم الطائفية، هي التي تحرم العراقيين الشيعة في المحافظات الايرانية العربية من ممارسة هويتهم القومية والتحدث بلغتهم العربية وتجبرهم على الحديث والكتابة باللغة الفارسية.
ايران التي تدعي التشيع هي من وقفت ضد جارتها اذربيجان الشيعية في حربها مع ارمينيا المسيحية على اقليم ناغورنو كارباخ في 1989، بسبب مطالبة اذربيجان ببعض الاراضي الاذربيجانية التي تحتلها ايران، ايران التي تدعي انها دولة شيعية تقتل وتحاصر وتعادي المراجع الشيعة العرب الذين يحاولون استنهاض الوعي العربي لشيعة العرب والعراق حيال الهيمنة الايرانية، كما حصل في معاداة اية الله محمد حسين فضل الله في لبنان وتشويه سمعة صبحي الطفيلي الامين العام السابق “لحزب الله” الذي فضح عنصرية وفارسية الدولة الايرانية المعاصرة، واعتقال رجل الدين العراقي المعتدل احمد القبانجي في 2013 .
اما حادثة محاصرة المرجع الشيعي العربي احمد الحسن الصرخي وقتل وتعذيب وسجن العشرات من انصاره في مظاهرات تموز 2014 ، فهي شاهد اخر وليس اخيرا على ان التباكي الايراني على الشيعة في العراق وفي المنطقة انما هو غطاء يخفي وراءه مصالح ايرانية واضحة في الهيمنة والنفوذ .
وبلا شك، فان شيعة السلطة في العراق ورؤساء التنظيمات والمليشيات الشيعية المتطرفة في العراق واليمن والبحرين والسعودية وغيرها، يدركون حقيقة المقاصد الايرانية في توظيف التشيع خدمة لمصالحها الاستراتيجية، الا انهم موغلون في ملذات السلطة وشهواتها، ولكن عوام الشيعة وبسطاءهم مازالوا بعيدين كل البعد عن ادراك هذه الحقيقة التي تسعى ايران بكل وسائلها الاعلامية والسياسية والفكرية الى طمس معالمها.
محمد العزاوي