تتداول بعض التحليلات التاريخية والسياسية المعنية بالوضع الفلسطيني فرضية متخيلة، مفادها بأن الفلسطينيين قد أضاعوا فرصاً تاريخية عديدة نتيجة تعنت القيادة السياسية أولاً والشارع ثانياً، حيث تنطلق هذه الانتقادات من تمسك الشعب الفلسطيني بحقه في النضال حتى استعادة جميع حقوقه المستلبة، كحق العودة وصولاً إلى التحرير الكامل والشامل، بدلاً من القبول والإقرار والاعتراف بالقرارات الدولية، التي تضمن لهم نظرياً استعادة جزء من حقوقهم الفردية والجماعية. فوفق هذه الفرضية، شكل الموقف الرسمي والشعبي الفلسطيني عائقاً صلباً وربما وحيداً أمام تنفيذ قرار التقسيم رقم 181 الصادر عن جمعية الأمم المتحدة العامة في نوفمبر/ تشرين الثاني عام 1947، وكذلك أمام تنفيذ القرار 242 الصادر عن مجلس الأمن في يونيو/ حزيران 1967، والقاضي بانسحاب إسرائيل من الأراضي التي احتلتها في حرب 1967 مقابل السلام مع العالم العربي، وهو ما أثبت مؤتمر مدريد خطأه كما أثبته اتفاق أوسلو الناتج عن المؤتمر.
فبعد مضي 30 عاماً على انعقاد مؤتمر مدريد بمشاركة عربية رسمية وفلسطينية غير رسمية، وبعد مضي أكثر من 28 عاماً على توقيع اتفاق أوسلو، بات واضحاً أن الموقف الفلسطيني الرسمي والشعبي لم يكن في أي يوم من الأيام عائقاً أمام تنفيذ قرارات الأمم المتحدة والقرارات الدولية المتعلقة بالحقوق الفلسطينية، فها نحن اليوم نقف على بعد أكثر من ربع قرن على التزام الجسم الفلسطيني الكامل بالقرارات الدولية، بل وبأقل مما تقره القرارات الدولية وفق اتفاق أوسلو، ونرى بأعيننا نتيجة ذلك واقعاً غير قابل للشك، فرضته الصهيونية وداعموها الدوليون، يكرس الاحتلال ويقوض إمكانات تنفيذ أي حل يعيد للفلسطينيين حقوقهم أو حتى جزءاً منها، من تواصل جريمة حصار قطاع غزة وقصف المناطق المدنية داخله (مستشفيات ومدارس ومنازل سكنية وتجارية) بشكل دوري، إلى تقطيع وقضم أراضي الضفة الغربية، بما فيها مدينة القدس، وصولاً إلى الإقرار الأميركي (في ظل ولاية ترامب الرئاسية بالحد الأدنى) بصفقة القرن قولاً وفعلاً، ومروراً بتقويض إمكانيات عودة وتعويض مجمل اللاجئين الفلسطينيين.
إذاً ما قبل مؤتمر مدريد مختلف تماماً عما بعده، فالمؤتمر يجب أن يصبح بمثابة مثال عملي على ثمن التنازل عن أي حق من حقوقنا الكاملة، ونموذج واضح عن مسؤولية الصهيونية في إدامة الصراع المختلق على أرض فلسطين، وقاعدة ثابتة على تسويف وعدم مبالاة المجتمع الدولي بالحقوق الفلسطينية وربما بمجمل حقوق الشعوب المضطهدة والمظلومة. فقد ثبت بعد مدريد أن المجتمع الدولي، ممثلاً بالهيئات الدولية وبالدول العظمى المسيطرة، غير معني بتطبيق القانون الدولي، سواء قبل أو بعد الاعتراف الفلسطيني الرسمي بالقرارات الدولية، وهو ما تم إثباته منذ زمن بعيد عبر تجاهل المجتمع الدولي المتكرر لجميع الجرائم والانتهاكات الصهيونية منذ مرحلة الانتداب البريطاني، ويعاد إثباته يومياً حتى اللحظة بذات الممارسة التي تتجاهل مجمل جرائم الصهيونية، وعلى رأسها تطهير شعب وأرض فلسطين عرقياً، وتهجير الفلسطينيين قسرياً، والتمييز العنصري تجاه شعب فلسطين الأصلي.
وعليه لم ولن تقدم المشاركة الفلسطينية (غير الرسمية) والعربية في مؤتمر مدريد أو سواه من المؤتمرات الشكلية شيئاً على صعيد استعادة الحقوق، كما لم تضف الاتفاقات والالتزامات التي وقعتها منظمة التحرير الفلسطينية أي جديد يذكر أيضاً، وكذلك لن يضيف تمسك محمود عباس؛ رئيس السلطة وحركة فتح الحالي؛ بجميع الالتزامات الأمنية مع الدولة الصهيونية شيئاً يذكر أيضاً، سوى تحوله وتحول أجهزة سلطته الوهمية إلى خط دفاع أول عن الصهيونية ومؤسساتها ومستوطناتها غير الشرعية. وعليه يمكن القول إن مسار استعادة حقوقنا المستلبة تتطلب تعزيز مسار النضال التحرري والتقدمي الفلسطيني على جميع الأصعدة الميدانية والثقافية والإعلامية والاقتصادية والسياسية، بما فيها على الصعيدين الدولي والعالمي، أي على
صعيد المؤسسات الدولية وعلى صعيد شعوب العالم، على قاعدة التعريف بالحقوق الفلسطينية والضغط من أجل الإقرار والاعتراف الكامل بها، والعمل على تعزيز قوة وجهود تحالف القوى الشعبية التحريرية والتقدمية الرافضة لجرائم الدولة الصهيونية ومستوطنيها وداعميهما الدوليين، بدلاً من التعلق بأوهام كاذبة وخادعة، وعوضاً عن تحميل الضحية (شعب فلسطين) وزر ومسؤولية تقاعس المجتمع الدولي عن نصرة الحق وحماية الحقوق الإنسانية والوطنية الفلسطينية، فجميعنا نعلم ماهية قدرات المجتمع الدولي التي تمكنه من وقف الجريمة الصهيونية المرتكبة بحق شعب وأرض فلسطين منذ النكبة، في حال امتلك الإرادة الحقيقية في ذلك، فالحق الفلسطيني ساطع كضوء الشمس تماماً.
العربي الجديد