استراتيجية أميركا لحقوق الإنسان والديمقراطية في الميزان

استراتيجية أميركا لحقوق الإنسان والديمقراطية في الميزان

اختُتمت القمة الدولية، التي دعا إليها الرئيس الأميركي جو بايدن، حول الديمقراطية، وشارك فيها عدد كبير من الدول، معظمها غربية، واتسمت بضعف التمثيل العربي، حيث جرى الاكتفاء بالعراق، الذي لم يتمكن من إعلان نتيجة انتخاباته منذ أشهر، وكذا التمثيل الأفريقي إلا من عدد قليل جداً من الدول، على رأسها جنوب أفريقيا والكونغو الديمقراطية. وبالطبع غاب عنها الخصوم المستهدفون: روسيا والصين.

وبشكل عام يمكن النظر إلى هذا المؤتمر، بوصفه تدشيناً لاستراتيجية واشنطن لمحاصرة هذين الخصمين، وإعلان المكون الأيديولوجي للاستراتيجية الأميركية.

لكن، في حقيقة الأمر، إن هذا المكون ليس كالسوابق بالضبط، كما أنه ليس جديداً تماماً في الوقت نفسه، وقد استبقت بكين هذا التطور بإصدار وثيقة مهمة حول رؤيتها بالنسبة إلى قضية حقوق الإنسان تعكس إدراكها أنها المستهدف الرئيس للتحرك الأميركي، الذي يأتي في إطار تقاليد أميركية، لكنه يعكس تطوراً جديداً في الوقت نفسه.

تاريخ طويل وملتبس

لم تكن مفاهيم حقوق الإنسان اكتشافاً أميركياً، لكنها بالطبع تراث إنساني عالمي، لعبت فيه الأديان، وكذا الحضارات القديمة أدواراً مختلفة لبلورته، لكنها لم تتحول إلى مفاهيم متبلورة بشكل حقيقي إلا منذ عصر النهضة الأوروبية، ثم الثورة الفرنسية، وليس موضوعنا هنا البحث في تاريخ المفهوم وتطوراته.

لكن، يمكن القول إن الطفرة الحقيقية للمسألة في تاريخ العلاقات الدولية كان في مبادئ الرئيس الأميركي وودرو ويلسون عام 2014، التي مهدت لإنشاء التنظيم الدولي الحديث ممثلاً في عصبة الأمم، ولاحقاً الأمم المتحدة عقب الحرب العالمية الثانية، ثم تلى ذلك الإعلان العالمي لحقوق الإنسان 1948، الذى نقل المفهوم إلى أفق غير مسبوقة، وكان بداية التطورات التالية.

المؤكد أن مسيرة العالم بعد انتهاء الاستعمار التقليدي، واستقرار كثير من المجتمعات الغربية قد أدى إلى تطور حقيقي وتدريجي في ممارسات حقوق الإنسان. لكن الطفرة التي صعدت بتوظيف المفهوم في المجال الدولي كانت في مسارين.

الأول كان في عملية هيلسنكي، التي تضمنت مفاهيم لحقوق الإنسان، اعتبرت بداية بهذا الصدد، وإحدى الأدوات التي أسهمت في انهيار الكتلة الشيوعية من خلال التشجيع الغربي لقضايا الديمقراطية وحقوق الإنسان في مجتمعات كتلة شرق أوروبا.

والثاني، الرؤية التي عرضها الرئيس الأميركي السابق كارتر كغطاء أيديولوجي، لكن تخلت عنه الإدارة الجمهورية التالية لرونالد ريجان، ومن ثم على مدى عقود كانت هذه المفاهيم تستخدمها واشنطن والقوى الغربية بشكل انتقائي بتركيز خاص على دول شرق أوروبا، وتجنب دول أخرى في البداية وغيرها.

لكن، بعد سقوط الاتحاد السوفياتي وانهيار النظم الشيوعية في شرق أوروبا، بدأ قدر من التوسع في التطبيق، واستهداف دول بعينها، وتجاهل دول أخرى صديقة، بحسب الأحوال.

تيار أصيل في الفكر السياسي الأميركي

من الموضوعية الأخذ في الاعتبار أن السياسة الأميركية كانت تاريخياً صراعاً بين تيارات وتوجهات متداخلة، محافظة في مواجهة الليبرالية، عنصرية في مواجهة التسامح والتعددية، انعزالية في مواجهة الانفتاح والمسؤولية الدولية، وأن هذه الثنائيات ليست بالضرورة متطابقة، بل تمارس بشكل كبير من التداخل إلى حد التناقض في مراحل زمنية مختلفة.

ودون شك، فإن تراث ومفاهيم حقوق الإنسان متأصلة لدى تيارات اجتماعية وسياسية واسعة النطاق في المجتمع الأميركي منذ حتى ما قبل وودرو ويلسون، وإنها صاحبت التوجه الليبرالي المنفتح في كثير من مراحل هذه السياسة، وتقاطعت معها أحياناً.

على أن التحليل الموضوعي يجب أن يفصل ما بين هذا التوجه كتيار سياسي أصيل في السياسة الأميركية، وما بين استخدام الدولة الأميركية لهذه الأداة في السياسة الخارجية ضد الخصوم، الذين يواجهون تحديات في ما يتعلق بممارسات الديمقراطية وحقوق الإنسان.

من الواضح أن هذا الاستخدام تجاوز الإدارات الجمهورية والديمقراطية معاً إلى آليات تستخدمها مؤسسات الدولة الأميركية بشكل يتضمن درجة عالية من الانتقائية، بل إن الشواهد تشير إلى وجود روابط وثيقة بين بعض أجهزة الدولة الأميركية، بخاصة الخارجية والمخابرات، وبعض منظمات المجتمع المدني في الولايات المتحدة ودول كثيرة، ويجري توظيفها بالشكل الذي تركز عليه هذه الأجهزة الأميركية.

الاستراتيجية الجديدة تطور هيكلي

لا تعني هذه الخلفية السابقة التطابق مع ما هو مطروح حالياً، فواضح من العرض السابق، أن الممارسة كانت انتقائية وجزئية، وليست على وتيرة واحدة، ففي زمن الحرب الباردة مع موسكو تغافلت واشنطن بتعمد كبير عن الممارسات الصينية، بخاصة أن استراتيجيتها آنذاك كانت جذب بكين بعيداً عن موسكو.

اقرأ المزيد

تدهور الديمقراطية الأميركية سيتصاعد في 2022

عندما تصبح الديمقراطية سلاح دمار شامل

بايدن يختتم قمة حول الديمقراطية
كما أن سجل تحالفاتها عبر العالم شاهد على هذا المنطق الانتقائي، الذى لا يسير على وتيرة واحدة تجاه الدولة نفسها أحياناً، إلا أن ما هو مطروح حالياً مصاغ في شكل أيديولوجي أكثر تكاملاً، بوصفه أساس التمييز والتباين مع الطرفين الروسي والصيني، وأنه سيكون المحور الذي تريده على الأقل الإدارة الأميركية الراهنة مركز الصراع والتباين.

وقراءة وثائق وبيانات هذه الإدارة والخطب الرئيسة التي أدلى بها بايدن ووزير خارجيته بلينكن، تكشف عن تصميم واضح في طرح هذا التصور كأساس للتباين مع موسكو وبكين، وأن التخطيط أن يكون هذا المعول الذي يجري به استهداف هذه النظم والاستقطاب والحشد ضدها، والهدف بالنهاية إضعاف تماسكها، وليس دفعها إلى التطور الديمقراطي، بما يحول دون تهديدات مكانة الصدارة للولايات المتحدة.

تحديات الاستراتيجية الجديدة

المشكلة أن هناك تحديات عميقة تعوق هذه الرؤية الأميركية التي تبلورت أخيراً، ربما كان أبسطها أنه لا دليل على أن حلفاء واشنطن الأوروبيين نفسهم ذوي النظم الديمقراطية سوف يتبعون الخطى الأميركية ضد الصين وروسيا، وحتى ضد الدول التي حرمتها واشنطن من جنتها، ولم تدعُها إلى هذه القمة الافتراضية، سواء كان السبب لكثير من المصالح المتناقضة، أو لوجود كثير من الشكوك في جدارة واشنطن لهذه القيادة، وسنعود إلى هذا لاحقاً.

وتأتي بعد ذلك معضلة العدد الكبير من الدول التي لم تدعُها واشنطن، وكأنها تدعوها لتعميق صلاتها وروابطها مع المعسكر الآخر، في وقت يشكل كثير من هذه الدول حلفاء مهمين ليس فقط لواشنطن، لكن لكثير من الدول الغربية.

وتأتي المعضلة الأكبر، وهي مدى جدارة واشنطن ذاتها لهذه المهمة، في ضوء التساؤلات التي تركتها إدارة ترمب من ممارسات داخلية وخارجية يحيط بها كثير من التساؤلات، وكان آخرها المشهد البائس لرفض ترمب الاعتراف بهزيمته وتأليبه أنصاره على التظاهر واقتحام مؤسسات العاصمة الأميركية، وهو مشهد يضرب الفكرة الديمقراطية في مقتل.

وكذلك سجل ترمب في كثير من قضايا حقوق الإنسان، وبالنسبة إلى حقوق غير البيض، واستمرار موقفه الرافض خروجه من البيت الأبيض، والشكوك في احتمال عودته، على الرغم من استبعادي شخصياً لذلك، فضلاً عن سجل الولايات المتحدة في تجاهل الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني.

في الواقع، إن السنوات الأخيرة وما عرفته من استقطاب داخلي أميركي غير مسبوق، ارتبطت بنشوء مخاوف حقيقية في تعرض هذا المجتمع لنكسات في كثير من القضايا المحورية في حقوق الإنسان، وهي كلها مسائل جادة، ولا يمكن التهوين بصددها، وترتبط ارتباطاً وثيقاً بهذه الازدواجية الأميركية سابقة الذكر.

من هنا، فإن مزيداً من انغماس واشنطن في توظيف هذه الأداة قد يفتح الباب لتساؤلات جادة حول جدارة واشنطن بهذا الصدد، وهي تساؤلات قد تفوق في أهميتها ما أعلنته الصين في شأن رؤيتها لقضية حقوق الإنسان، وقد يشكل مصادرة ومراهنة على إدارة أميركية مقبلة، ليس من السهل الآن التيقن في شأنها.

العربي الجديد