عندما لا تريد واشنطن ضربة إسرائيلية ضد إيران

عندما لا تريد واشنطن ضربة إسرائيلية ضد إيران

يهدّد قائد سلاح الجو الإسرائيلي، تومار بار، إيران بضربة عسكرية تدمّر مشروع برنامجها النووي، في أي وقت. وتعمل الدبلوماسية الأميركية على مسارين مترابطين: تصعيد الضغوط على إيران لقبول شروط قاسية للعودة إلى طاولة المفاوضات لتفعيل الاتفاق النووي، والضغط على القيادة السياسية الإسرائيلية بعدم التسرع، وإعطاء فرصة لتعطيل قدرة إيران على تصنيع قنبلة نووية. كذلك فإنّ تصريحات وزير الخارجية الإسرائيلي، يئير لبيد، بأنّ إسرائيل مستعدّة لتأييد اتفاق نووي مع إيران “بشرط أن تكون صفقة جيدة”، أي أن تتضمن وقف تطوير قدرات عسكرية للبرنامج النووي الإيراني، تدل عن نجاح، ولو مؤقتاً، للدبلوماسية الأميركية في كبح جماح حليفها الأهم في المنطقة، عن تصعيد قد يقوّض مخطط الولايات المتحدة الأكبر، توسيع التطبيع العربي – الإسرائيلي وترسيخ تحالف عسكري وأمني عربي – إسرائيلي بقيادة إسرائيل في المنطقة.
بمعنى أدق، تحاول أميركا إنقاذ إسرائيل من غرور زعمائها، المستعجلين فرض الاستسلام الرسمي والمهين والمعلن على الأنظمة العربية وإنهاء حقوق الشعب الفلسطيني، فالتصعيد يضرّ بالتطبيع والمعاهدات الاقتصادية والأمنية التي يجري توسيعها بغرض ضمّ كلّ الدول العربية، سواء المرتبطة بمعاهدات مع إسرائيل أو غير الموقعة على اتفاقيات مع الدولة الصهيونية، إلى الاتفاقيات الإبراهيمية التي بدأتها إسرائيل والإمارات قبل أكثر من عام. بالتالي، تفسد أيّ مغامرة عسكرية إسرائيلية عملية متكاملة، من تغيير الخريطة السياسية في المنطقة وبشكل جذري، خصوصاً أنّ الولايات المتحدة ليست على استعداد لاستئناف “عملية سلام” جديدة، ولو خادعة، لأنّ فشلها يخرّب الخطوات الملموسة التي حققتها والخطوات القادمة لتحقق رؤيتها الاستراتيجية، وتلك نجاحات يتحدّث عنها المسؤولون الأميركيون، خصوصاً وزير الخارجية أنتوني بلينكن، لولا غطرسة الرئيس السابق دونالد ترامب، فالمرتكزات الأهم لإدارة جو بايدن مبنية على “إنجازين” للإدارة السابقة: تحقيق الاتفاقيات الإبراهيمية التي تجاوزت كلّ المعاهدات بترويجها بصفاقة الرواية الصهيونية، وقبول الإمارات تمويل المشاريع التطبيعية في المنطقة، وهذا كان جوهر مخطط المستشار السابق لترامب (وصهره)، جاريد كوشنر. وقرار ترامب نقل عضوية إسرائيل من قيادة القوات الأميركية في أوروبا إلى القيادة الوسطى للقوات الأميركية في الشرق الأوسط (السينتكوم)، فما أرادته السياسة الأميركية في عقود استطاع ترامب تحقيقه في أربع سنوات.

لم تختلف أهداف الاستراتيجية الأميركية بتحكيم الهيمنة على المنطقة والعالم، لكن من دون حروب مباشرة، بل بتفوق عسكري اقتصادي

صحيحٌ أنّ التخلص من ترامب كان أولوية للحزب الديمقراطي، إذ إنّ استمراره في البيت الأبيض رئيساً مثل ترك دبّ هائج في محل تماثيل زجاجية، ويشجع التيار الفاشي المتصاعد في أميركا. لكنّ إدارة بايدن تبني، بكلّ برود، على إنجازات ترامب، ففي النهاية، لم تختلف أهداف الاستراتيجية الأميركية بتحكيم الهيمنة على المنطقة والعالم، لكن من دون حروب مباشرة، بل بتفوق عسكري اقتصادي وتقويض نفوذ الصين والاعتماد على ما تسمى “عمليات نوعية” ودبلوماسية أبعد ما تكون عن “السياسة الناعمة”. وتعتقد الكاتبة هنا أنّ واشنطن اختارت الأردن ليكون المختبر الأول لأسلوب هيمنتها الجديدة، والاختراق الرسمي الكبير الذي أحدثته الاتفاقيات الإبراهيمية في بعض دول الخليج العربي. وقد لعب التمويل الإماراتي ويلعب دوراً مفصلياً في تحقيق إحدى أهم أدوات السياسات الأميركية، وهي ربط مصادر الطاقة في العالم العربي بإسرائيل، تحت شعار “ترابط مصادر الطاقة في المنطقة ومواجهة تحدّيات التغيير المناخي” أي استخدام قضية هامة، مثل تداعيات التغير المناخي، لسلب مصادر الطاقة العربية وربطها بإسرائيل، ومشروع اتفاقية تبادل الطاقة الشمسية مقابل تزويد إسرائيل للأردن بمياه محلاة من البحر الأبيض المتوسط، هو بداية مشاريع مماثلة، لن يسلم بلد عربي منها إلّا إذا تخلى الحكام عن خذلانهم الشعوب العربية وعن خضوعهم لسطوة أميركا.
حاول السفير الأميركي في عمّان، هنري ووستر، ادعاء أن لا علاقة لأميركا بما سمّاها “اتفاقية تجارية”، لكنّه، في الوقت نفسه، بعث رسالة مفادها بأنّ الولايات المتحدة تقف مع الاتفاقية، مضيفاً، في ما بدا تهديداً مبطناً، أنّ “تنويع مصادر المياه مسألة بقاء واستقرار للأردن”. ولا يقصد السفير غير التعاون مع إسرائيل، خصوصاً أنّ المبعوث الأميركي لشؤون التغير المناخي، جون كيري، كان وراء الاتفاقية، وكان حاضراً في دبي توقيع إعلان النوايا بين الأردن وإسرائيل. ولا تقتصر القصة هنا على الأردن الذي يصرّ المسؤولون الأميركيون أنّ مصادر المياه فيه قد نفدت، في تناقض واضح مع تصريحات أهم خبراء المياه في الأردن، لكنّ تمرير الاتفاقية التي أحدثت جدلاً كبيراً في مجلس النواب محطة رئيسية في تنفيذ الرؤية الأميركية بدمج إسرائيل في المنطقة. وعليه، لن تسمح واشنطن لإسرائيل بضربة عسكرية ضد إيران تخلط الأوراق التي تقوم بترتبيها في المنطقة، فالسفير الأميركي في عمّان يتحدث وكأنّه الوصيّ على مصلحة الأردن وقراره، في مقابل صمت تام من الحكومة والقصر.

الحكومة الإسرائيلية الحالية، كالتي سبقتها، تحاول أن تثبت أنّها الآمر الناهي، فالتدرّجية التي يقودها بايدن في تحقيق أهداف الاستراتيجية الأميركية لا تروقها تماماً

أميركا منهمكة في ترسيخ نظام جديد في المنطقة لا مجاملة فيه، فإسرائيل جزءٌ من القيادة الوسطى للجيش الأميركي. والأردن، وفقاً لمعاهدة الدفاع العسكرية المبرمة في مطلع العام الحالي، أصبح قاعدة غير مرئية للجيش الأميركي، في تنفيذ ما تسميه الأوساط السياسية الرسمية في واشنطن الانتقال من مرحلة الحروب المستمرة إلى “العمليات النوعية”، لتحقيق أهدافها وإبقاء سيطرتها، وحرب إسرائيلية مباشرة على إيران تُفسد الخطة، إذ لن تتغير سياسة أميركا في احتواء إيران، وتقويض مقدّراتها النووية لن تتغير، لكنّ شنّ حربٍ عسكرية، على الأقل في الوقت الحاضر، وربما إلى أمد طويل، غير وارد، فالاتفاقيات الإبراهيمية حققت ما لم تستطع أن تحلم به أيّ من الإدارات الأميركية السابقة، وهو توظيف أموال نفط خليجية في إخضاع الدول الحليفة وغير الحليفة. أما إضعاف إيران، فيخضع لحساباتٍ استراتيجيةٍ، العمليات النوعية التي ستنطلق من الأردن أو من خلال الأردن. وتستطيع إسرائيل المشاركة فيها بكلّ سهولة، ليس لأنّها أصبحت عضواً رسمياً في “السينتكوم” فحسب، بل أيضاً لأنّ الاتفاقية تشترط عدم خضوع كوادر القواعد الأميركية لأيّ إجراءات سيادية في الدخول أو الخروج أو حمل الأسلحة، فلا تحتاج أميركا إلى حرب تقليدية ضد إيران أو أي طرف، فبعض هذ العمليات قد لا يُعلَن، وقد لا تعلن إيران أو أي هدف لها عن تضرّرها، حفاظاً على عدم اهتزاز قوتها. وهذه سياسة اتبعها ترامب، فلم يوجّه ضربة عسكرية ماحقة إلى إيران كما كان يهدّد، بل منع رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق نتنياهو من أن يشن اعتداءً عسكرياً على إيران، وفضل تنفيذ عملية إسرائيلية أميركية “نوعية”، وهي اغتيال المشرف على المشروع النووي الإيراني، محسن فخري زاده، لكنّ الحكومة الإسرائيلية الحالية، كالتي سبقتها، تحاول أن تثبت أنّها الآمر الناهي، فالتدرّجية التي يقودها بايدن في تحقيق أهداف الاستراتيجية الأميركية لا تروقها تماماً. ولذا تصعّد الإدارة الأميركية الضغوط، ويزداد مسؤولوها شراسةً مع الحكومات العربية، لكنّ هذا الازدراء المباشر في فرض المشاريع التطبيعية قد يكون له مفعول عكسي، ونشهد عودةً لوعي جمعي، أنّ إسرائيل، وليست إيران، تبقى العدو الاستراتيجي للشعوب العربية.