لا “حمائم” في واشنطن، لا في البيت الأبيض، أو في الكونغرس، في ظرف ضبابي عالمي عالي التوترات. وعلى الرغم من الانقسام السياسي غير المسبوق في الولايات المتحدة، بين الجمهوريين والديمقراطيين، ما انعكس تباطؤاً لأجندة الرئيس الديمقراطي جو بايدن الداخلية في العام الأول من عهده، أثنى الجانبان أخيراً، على التمرير السلس لميزانية الدفاع الضخمة لعام 2022، والتي وقّعها بايدن أول من أمس الإثنين، بزيادة ملحوظة عن الرقم الذي خصّصه سابقاً لميزانية وزارة الدفاع.
وتعدّ الميزانية الدفاعية الأميركية للعام المقبل، أول انتكاسة معتبرة للجناح التقدمي في الحزب الديمقراطي، وللجماعات المعارضة للحروب ولزيادة الإنفاق الحربي، والتي كانت استبشرت خيراً لأجندتها بعد الانسحاب الأميركي من أفغانستان. وتبدو الانتكاسة متعددة الأوجه، مع تقييد استخدام أموال لنقل معتقلين من معتقل غوانتانامو، وفشل عودة تفويض الحروب الذي كان سمح بغزو العراق، من البيت الأبيض إلى يد الكونغرس.
وتريد الولايات المتحدة في ميزانية بايدن، التي خصّصت أموالاً إضافية لزيادة التسليح الجوي والبحري، التشديد على سياسة الردع، ومواكبة اللغة المتحدية للهيمنة الأميركية لكل من الصين وروسيا، بعد عقدين أميركيين من محاربة الإرهاب. وككل مرة، يبدو لوبي صناعة السلاح في الولايات المتحدة، أكبر الفائزين، مع تحريك إضافي لماكيناته ما يستدعي رفع يده العاملة، لتلبية الاحتياجات الدفاعية المتزايدة التي نصّت عليها الميزانية، ما يرضي أيضاً النواب والشيوخ المقبلين على انتخابات نصفية للكونغرس في العام المقبل.
تسمح الميزانية بإنفاق دفاعي يصل إلى حوالي 770 مليار دولار
ووقّع بايدن، كما كان متوقعاً قبل نهاية العام الحالي، قانون تفويض الدفاع الوطني للسنة المالية 2022، أي الميزانية الدفاعية الأميركية للعام المقبل، والتي تبقى الأعلى في العالم، ومحط رصد، نظراً لما توضحه حول الاستراتيجية الدفاعية للولايات المتحدة، خصوصاً مع وصول أي رئيس جديد إلى البيت الأبيض.
وقبل توقيع بايدن، كان مجلسا النواب والشيوخ قد مرّرا تباعاً، وبأغلبية ساحقة، الميزانية في وقت سابق من ديسمبر/كانون الأول الحالي، وبسلاسة في المجلسين، مع اختصار مهل التعديلات والنقاشات التي غالباً ما تستهلك أوقاتاً إضافية وأخذاً وردّاً بين “النواب” و”الشيوخ”.
واتخذت العملية شكل مفاوضات في الكونغرس وراء الكواليس، لتمرير القانون الذي صاغه النواب، من دون أن يصوغ الشيوخ هذا العام قانونهم الخاص، ما أسقط إخضاع الميزانية للكثير من التعديلات المتبادلة.
ورأى السيناتور الجمهوري مايك تورنر، لدى تمرير القانون في الكونغرس، أن أعداءنا يطورون أكثر من أي وقت مضى قدراتهم الدفاعية، وتؤمن الميزانية الجديدة التمويل اللازم لتحديث الثالوث النووي وبرنامج الدفاع الصاروخي”. ومفسّراً السلاسة التي مرّ بها القانون، اعتبر السيناتور الجمهوري الأعلى في لجنة القوات المسلحة في “الشيوخ”، جيم إنهوفي، أن “مسألة الدفاع ليست أولوية للرئيس بايدن، ولكن الوضع الأمني مع الصين وروسيا قد ساء أكثر مما كان عليه حين طرحت اللجنة القانون في يوليو/تموز الماضي. لا أجد قانوناً أكثر أهمية لتمريره اليوم”.
وتسمح الميزانية بإنفاق دفاعي يبلغ حوالي 770 مليار دولار، بعدما رفض الجمهوريون طلب بايدن الأساسي بتخصيص 715 مليار دولار لميزانية البنتاغون، مطالبين بزيادتها إلى 740 مليار دولار، لا سيما لمواكبة التقدم العسكري المتسارع للصين وروسيا. ووصلت الميزانية النهائية إلى 768 مليار دولار، موزعة بين البنتاغون، وبرامج الأسلحة النووية التي تشرف عليها وزارة الطاقة، وهي تعكس نظرة الولايات المتحدة إلى التحديات الجيوسياسية حول العالم، والعودة إلى دعم التسليح التقليدي.
استعراض قوة في تايوان وأوكرانيا
وتبدو الزيادة في التسليح، الذي يشمل المقاتلات الجوية والسفن، أكثر ميلاً لأن تكون “استعراض قوة” أميركية ومحاولة إظهار أن أميركا تسير في الاتجاه الصحيح للاستدارة شرقاً. ويسمح القانون بزيادة الإنفاق العسكري بنحو 5 في المائة مقارنة بالعام الماضي (وصل إلى 740 مليار دولار في آخر عام من عهد الرئيس السابق دونالد ترامب).
وتضمّن القانون 7.1 مليارات دولار لمبادرة الردع في المحيط الهادئ إظهاراً لدعم الكونغرس الدفاع عن تايوان (بزيادة مليارين عما طلبه بايدن لهذه المبادرة)، وتقديم 300 مليون دولار (بزيادة 50 مليوناً عن طلب بايدن) لمبادرة المساعدة الأمنية الأوكرانية، إظهاراً للدعم في مواجهة التحركات الروسية، بالإضافة إلى 4 مليارات دولار لمبادرة الدفاع الأوروبية، و150 مليون دولار للتعاون الأمني مع دول البلطيق.
ويتضمن القانون زيادة في أجور القوات بنسبة 2.7 في المائة، وشراء مزيد من الطائرات والسفن لسلاح البحرية، إضافة إلى استراتيجيات للتعامل مع المخاطر السياسية لا سيما ما يتعلق بروسيا والصين.
وبحسب المشروع، فقد دعا المشرعون إلى رفد البنتاغون بـ12 مقاتلة إضافية عمّا طلبها بايدن من طراز “أف/آي ـ 18” سوبر هورنيت التي تصنعها شركة “بوينغ”، و5 مقاتلات إضافية (عن الـ12 مقاتلة المخصصة في ميزانية بايدن الأصلية)، من طراز “إف 15 إي إكس” (بوينغ) التي تتميز بزيادة القدرة على المناورة ومدى أكبر، وحمولة أسلحة أعلى، والتي تمّ تصميمها كأول مقاتلة أميركية جوية مع القدرة على حمل أسلحة فرط صوتية.
ورفعت الميزانية عدد السفن الحربية التي طلبها بايدن، من 8 إلى 13، بزيادة 5 سفن، بينها غواصتان هجوميتان ومدمرتان. كما سمحت بتصنيع 85 مقاتلة جديدة من طراز “أف 35” (لوكهيد مارتن).
وكان التصويت في الكونغرس قد أبرز حماسة الجمهوريين المعتادة للإنفاق والمبادرات الحربية، في وقت لا يزالون معترضين على أي زيادة على البرامج الاجتماعية. وعكست الميزانية التناغم بين الجناح الديمقراطي التقليدي والحزب الجمهوري المحافظ حول المسألة.
وقال رئيس لجنة القوات المسلحة في مجلس الشيوخ، السيناتور الديمقراطي جاك ريد، إن “أمتنا تواجه طيفاً واسعاً من التحديات الأمنية، وإذا ما قيس هذا الهدف، فإن القانون يشكل تقدماً ملحوظاً، لأنه يعالج طيفاً كبيراً من المسائل الضاغطة، بدءاً من التنافس الاستراتيجي مع الصين وروسيا، إلى التكنولوجيات المزعزعة (مثل الأسلحة فرط الصوتية) إلى تحديث السفن والآليات العسكرية”.
ترفع الميزانية الإنفاق على المبادرات الردعية في الهادئ وأوروبا
وتتفق الميزانية مع استراتيجية بايدن التي أعلن عنها مع إعلان الانسحاب من أفغانستان، لجهة تحويل التركيز في المعارك على الأرض، من الشرق الأوسط إلى التركيز على الصين وروسيا. لكن بايدن لم يطلب زيادة في التسليح، إلا أن المشرعين رأوا أنه العامل الأساسي لتحقيق الردع وإبقاء التوفق.
تركيز على الصين وروسيا
ويأتي تركيز ميزانية الدفاع الأميركية للعام المقبل على الصين وروسيا، فيما تدور عجلة عمل تشريعي آخر في الكونغرس، أكثر طموحاً تجاه الصين. والمقصود “قانون التحديث والمنافسة الأميركي” (يوسيكا) بقيمة 255 مليار دولار، الذي فشل رئيس الأغلبية الديمقراطية في الشيوخ تشاك تشومر بربطه رسمياً بميزانية الدفاع السنوية.
ويعد القانون الذي وضعه مجلس الشيوخ، الأكثر تقدماً حتى الآن في الولايات المتحدة لناحية ضمان التفوق الأمني والتكنولوجي الدفاعي على الصين. ويضمن زيادة الاستثمار الفيدرالي في الأبحاث والتسريع في الانتقال من أفكار وتصاميم المختبرات إلى السوق. ووضع مجلس النواب قانونه الخاص أيضاً في هذا الإطار، حيث يجري العمل للوصول إلى قانون “وسط” بين الجانبين لمواكبة الطموحات الصينية المتسارعة، لا سيما تكنولوجياً.
العربي الجديد