* مؤشرات التصعيد المتبادل:
فشلت القمة بين الرئيس الروسي “فلاديمير بوتين” ونظيره الأمريكي “جون بايدن” التي عقدت 7 ديسمبر 2021 عن طريق الفيديو كونفرانس، لتخفيف حدة التوتر بينهما، ومنذ ذلك الحين وتتخذ كل دولة خطوات تصعيدية تتمثل في:
– تحذيرات “بوتين”: اتهم “بوتين” يوم 21 ديسمبر 2021 خلال اجتماعه بقيادات وزارة الدفاع الروسية، واشنطن وحلف “الناتو” بالمسئولية عن تصعيد حدة التوتر في شرق أوروبا، وأكد أن قيام واشنطن بتسليح أوكرانيا والسعي لضمها لحلف “الناتو” وحثها على مواجهة روسيا يخلق تهديدات خطيرة للأمن القومي الروسي. وتعهد بالرد عسكريا عليها، وبمواصلة تطوير الجيش الروسي. بينما كشفت موسكو عن نشر واشنطن ثمانية آلاف جندي على الحدود الروسية – الأوكرانية وإطلاق قاذفات استراتيجية تجاه روسيا. وقارن “بوتين” هذه الأزمة بأزمة “خليج الخنازير” 1962 عندما تم نشر صواريخ سوفيتية بكوبا، ورفضت واشنطن ذلك باعتباره تهديدا لأمنها القومي.
– تسليح أمريكي لأوكرانيا: أكدت وزارة الدفاع الأمريكية التزامها بتقديم المساعدات العسكرية اللازمة لأوكرانيا للدفاع عن نفسها فى منتصف ديسمبر الحالي، وأعلنت واشنطن عن بدء خطة لتسليح أوكرانيا عبر تسليمها طائرات هليكوبتر قتالية ومعدات عسكرية لأوكرانيا لتعزيز دفاعاتها الجوية. وقد قدمت واشنطن لكييف 2.5 مليار دولار من المساعدات العسكرية منذ 2014، بما في ذلك 450 مليون دولار فى العام الحالي. وطلبت واشنطن من مواطنيها 20 ديسمبر الحالي، عدم السفر إلى أوكرانيا في إشارة إلى اندلاع حرب وشيكة هناك.
– رفض مقترحات روسية: رفضت واشنطن مقترحات روسية لتخفيف حدة التوتر الأمني بأوكرانيا فى 18 ديسمبر 2021، والتي تضمنت:
· إبرام اتفاقيتين منفصلتين بين روسيا وواشنطن والناتو لوضع نظام ضمانات أمنية بغية خفض التوترات الأمنية في أوروبا.
· المطالبة بضمانات قانونية ملزمة بأن حلف “الناتو” سيتخلى عن أي نشاط عسكري في جورجيا وأوكرانيا، وحال تم ذلك، يكون بالتنسيق مع موسكو.
· تعهد الناتو بعدم ضم أوكرانيا وجورجيا لعضويته، ووقف فوري لنشر أنظمة أسلحة هجومية في الدول المحاذية لروسيا.
وقد رفضت واشنطن تلك المقترحات، لأنها بمنزلة إعلان “وصاية روسية” على عمل الناتو، وهو ما دفع موسكو للتصعيد عبر إرسال قاذفات قنابل استراتيجية بعيدة المدى من طراز (تو – 22 إم 3) لحراسة المجال الجوي بالحدود المشتركة مع روسيا البيضاء الحدودية مع ليتوانيا وأوكرانيا، وأعلنت مراقبة النشاط العسكري الغربي بالبحر الأسود.
– حشد روسي: تم الإعلان عن تمركز القوات الروسية في 6 مواقع أساسية على الحدود مع أوكرانيا، وقد بدأ حشد هذه القوات في الربيع الماضي في إطار تدريبات عسكرية، وبعد انتهاء التدريبات لم تعد كل القوات إلى ثكناتها. وهذه القوات تضم مائة كتيبة، وما يقرب من 175 ألف جندي. ورغم ذلك، تنفي موسكو الاتهامات الغربية بعزمها غزو أوكرانيا، وتؤكد أن لها الحق السيادي الكامل في تحريك قواتها المسلحة على أراضيها، وتتهم واشنطن بتشكيل درع صاروخية بأوكرانيا قرب الحدود الروسية، وفرض عقوبات اقتصادية ضد موسكو.
– تحذير أوروبي: عقدت قمة أوروبية ببروكسل، فى 16 ديسمبر الحالي، وجمعت أعضاء الاتحاد الـ27 مع دول “الشراكة الشرقية”، وهي (أوكرانيا، وجورجيا، ومولدوفا، وأرمينيا، وأذربيجان)، وهي الجمهوريات السوفيتية السابقة الساعية للانضمام للاتحاد و”الناتو”. وحذرت موسكو من غزو أوكرانيا ووجددت دعمها لسيادتها ووحدة أراضيها. وتسعى باريس وبرلين لإحياء مفاوضات “صيغة نورماندي” التي تضم (أوكرانيا، وروسيا، وألمانيا، وفرنسا) لبحث الوضع بأوكرانيا. كما حذرت برلين موسكو، في 18 ديسمبر 2021، من توقف استيراد الغاز الروسي من خلال خط (نورد ستريم 2)، إذا شنت روسيا هجوما على أوكرانيا، وهو أطول خط أنابيب طوله 1200 كم يمر تحت مياه بحر البلطيق من روسيا إلى شمال شرق ألمانيا، وحال تم ذلك، فإنه سيؤدي إلى خسائر اقتصادية جمة لموسكو.
* أبعاد جيوسياسية متعددة:
– أهمية استراتيجية: ترى موسكو أن أوكرانيا تنتمى إليها لاعتبارات أمنية وجيوسياسية وثقافية. فتاريخيًا كانت الدولتان أمة واحدة، ولذا قامت روسيا عام 2014 بضم شبه جزيرة القرم واستعادت المنطقة الصناعية الرئيسية في أوكرانيا دونباس (دونيتسك ولوغانسك)؛ وتسعى لإبقاء هيمنتها على كييف عبر التحكم في مدها بمصادر الطاقة والمدخلات الصناعية. كما يرى “بوتين” أن تسليح أوكرانيا المستمر بأسلحة أمريكية يجعلها تستعد عسكريا لاستعادة منطقة دونباس (دونيتسك ولوجانسك)، التي تسيطر عليها روسيا، وتسعى للانفصال عن أوكرانيا والانضمام لموسكو. كما يعتبر بوتين أن انضمام أوكرانيا لحلف “الناتو” أو تسليحها بأسلحة أمريكية هو تعددٍ على أمنها القومي، ووصف “بويتن” ذلك بأنه “تجاوز للخطوط الحُمر مع روسيا ولن يسكت عليه”. فقد وجهت واشنطن، فى عام 2008، الدعوة إلى أوكرانيا للانضمام للحلف بيد أن المفاوضات لم تبدأ حتى اليوم. وترى واشنطن أن فرصة توسع الحلف شرقًا يقضي على أي تهديد روسي أمني مستقبلي لدول الحلف بشرق أوروبا، وهو ما تدركه موسكو جيدا، ولذا ترغب في وجود تعهد قانوني بعدم قبول عضوية أوكرانيا للحلف، لأنه حال انضمت إليه، فإن ذلك سيمثل تطويقا لموسكو وتهديدا لوجودها العسكري بالبحر الأسود، حيث توجد القاعدة البحرية الأكبر والأسطول الروسى، وكذلك سيمثل تهديدا مستمرا للأمن القومي الروسي وسيشجع عددا من الجمهوريات السوفيتية السابقة للانضمام للحلف.
– تنسيق روسي إقليمي: قام الرئيس “بوتين” بزيارة للهند في 8 ديسمبر 2021، وكذلك عقد قمة افتراضية مع نظيره الصيني “”شي جين بينغ” فى 17 ديسمبر 2021، واتفقا على استمرار التنسيق بينهما وحماية الأمن الدولي والإقليمي، حيث يسعى لتشكيل توافق إقليمي روسي – صيني – هنديحول المواقف الدولية المختلفة بغية إبعاد واشنطن عن إدارة بعض الملفات الاستراتيجية الخاصة بالدول الثلاث. كما عزز “بوتين” تحالفه العسكري والسياسي مع روسيا البيضاء الطريق الأمثل جغرافيًا لأي هجوم بري أوروبي على روسيا. وأعلنت مينسك فى نهاية نوفمبر الماضي عن إمكانية استقبال أسلحة نووية روسية على أراضيها، حال قيام “الناتو” بنشر مثلها في بولندا الحدودية معها. لذا، فإن موسكو تستغل الأزمة الأوكرانية لتحقيق مصالحها وتوسيع دائرة نفوذها الإقليمية، حيث ترى أن الانسحاب العسكري الأمريكي من أفغانستان فرصة استرتيجية لها لتعزيز نفوذها السياسي ووجودها العسكري في منطقة وسط وجنوب آسيا، وهو ما يقوم به “بوتين” من خلال تعزيز تعاونه مع دول آسيا الوسطى وباكستان والهند وفتح قنوات تواصل مع حركة “طالبان” الحاكمة بأفغانستان دون الاعتراف بشرعيتها. كما أنه يرى أن توسع “الناتو” شرقا باتجاه أوكرانيا تهديد استراتيجي للأمن القومي الروسي لن يسمح به، ويسعى لاتخاذ خطوات تصعيدية للضغط على واشنطن والناتو للتخلي عن انضمام أوكرانيا وجورجيا للحلف.
-مخاوف أوروبية: رغم الدعم الأمريكي والأطلسي الواضح لأوكرانيا إلا أن حلف “الناتو” يرفض بدء مفاوضات انضمامها له خشية رد الفعل الروسي، مما دفع وزير خارجية أوكرانيا “دميتري كوليبا” لمطالبة الحلف بحسم مسألة انضمام بلاده. بينما حذرت دول مجموعة “الشراكة الشرقية”” من أن الاتحاد الأوروبي سيتعرض لهجوم متعدد الجبهات من جانب روسيا. ودعت أوكرانيا وبولندا وليتوانيا بفرض عقوبات اقتصادية شاملة على روسيا فى 21 ديسمبر الحالي. وأبدت ليتوانيا مخاوفها من احتمال شن ضربات عسكرية روسية من بيلاروسيا. وأعلنت دول البلطيق (ليتوانيا، ولاتفيا، واستونيا) مخاوفها من احتلال روسيا لها، نظرًا لضعف البنية العسكرية لها ولحلف الناتو فيها. لذا، تسعى دول شمال أوروبا للضغط على واشنطن والناتو لضمان أمنها، لأنها تعلم فشلها في مواجهة أي تصعيد عسكري روسي ضدها.
* السيناريوهات المستقبلية:
– الأول .. التهدئة وبدء الحوار: أعلن وزير الخارجية الروسي “سيرجي لافروف” فى 22 ديسمبر 2021، أن بلاده ستبدأ حوارا أمنيا استراتيجيا مع واشنطن وحلف “الناتو” في يناير 2022، ونفى رغبة موسكو في شن أي حرب ضد أي دولة ودعا واشنطن بأخذ المخاوف الروسية من تسليح أوكرانيا بجدية. هذا الموقف يتوافق مع مواقف الناتو وواشنطن الأخيرة، مما ينذر بقرب احتواء الأزمة عبر الحوار والتهدئة. وربما يتم عقد قمة رئاسية روسية – أمريكية بشكل شخصي أو عقد قمة افتراضية جديدة، على أن يتابع جولات الحوار وزراء الخارجية ومستشاري الأمن القومي. ومن المتوقع أن يسفر الحوار عن تخفيف التصعيد الأمني وإعادة إحياء مفاوضات “صيغة النورماندي” حول أوكرانيا، وربما انضمام واشنطن لها. كما يمكن بحث مجمل القضايا الخلافية بين موسكو وواشنطن، والتي تشمل المخاوف الروسية من توجيه ضربة نووية لها بعد تنفيذ واشنطن تدريبات على قاذفات استراتيجية أمريكية على إطلاق أسلحة نووية ضد روسيا من الاتجاهين الغربي والشرقي، وقلق موسكو من إمكانية نشر صواريخ متوسطة وقصيرة المدى في أوروبا، فضلا عن الخلافات التقليدية حول ملفات الشرق الأوسط (السوري، والليبي، والإيراني) والوضع بكوريا الشمالية، وإثارة قضية الهجرة غير الشرعية في الآونة الأخيرة، وتوتر العلاقات الروسية – الأوروبية.
ويعد هذا السيناريو المرجح، لأن موسكو حققت هدفها من التصعيد ووضعت روسيا الاتحادية في موضع المنافس الدولي للولايات المتحدة الأمريكية رغم تفوق الثانية عسكريا واقتصاديا وتقنيا، وهو ما يسعى “بوتين” لتحقيقة لتعزيز مكانة روسيا الإقليمية. كما أن واشنطن لا ترغب في خوض أي مواجهة عسكرية حالية، نظرا لحسابات داخلية، حيث تستعد لانتخابات الكونجرس في 2022، وحسابات خارجية، حيث يشتعل التنافس مع الصين اقتصاديا وسياسيا وعسكريا، وأكدت بعض التقارير المخابراتية أن بكين ستكون مستعدة لاستعادة تايوان باستخدام القوة عام 2025، وهو الأمر التي أعلنت واشنطن رفضه.
– الثاني .. تصعيد عسكري محدود: حال فشل الحوار الأمني المرتقب، في يناير 2022، ربما تلجأ القوات الروسية المحتشدة على الحدود الأوكرانية لاحتلال مناطق محددة بأوكرانيا، مثل (دونباس) لأن حجم القوات الروسية المحتشدة لا تسمح باجتياح دولة كاملة، وهذا سيوفر لموسكو موقعا عسكريا هجوميا ضد قوات الناتو بشرق أوروبا، كما يمكن لموسكو الاعتراف باستقلال “دونباس” ودعمها للانفصال عن أوكرانيا، أو الانضمام لموسكو كما حدث بشبه جزيرة القرم 2014. وسيكون الرد الأمريكي هنا تشديد العقوبات على موسكو.
– الثالث .. استمرار التوتر وتشديد العقوبات: يقضي هذا السيناريو باستمرار الحشد العسكري والتصعيد الأمني من قبل موسكو وواشنطن بشرق أوروبا، مما يؤدي لاستمرار التوتر الحالي. كما ستتخذ واشنطن والاتحاد الأوروبي خطوات تصعيدية كفرض عقوبات اقتصادية شاملة على روسيا، وربما يتم وقف خط (نوردستريم2) للغاز، مما يمثل عنصر ضغط على موسكو لتخفف من حشدها على الحدود الأوكرانية.
– الرابع والأخير .. التصعيد العسكري: رغم كونه سيناريو مستبعدا إلا أنه مازال قائما فحال قرر الناتو انضمام أوكرانيا له، ربما تقوم موسكو برد فعل كغزو أوكرانيا كنوع من الدفاع عن النفس، لانه بعد انضمام أوكرانيا لحف الناتو لن تتمكن روسيا من اتخاذ أي خطوة تصعيدية ضدها، لأنها بذلك ستكون فى عداء مع دول الحلف مجتمعة، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية.
خلاصة القول، إن التوتر الحالي بين موسكو وواشنطن لن يكون الحلقة الأخيرة في العلاقات بينهما، بل سيستمر بصور شتى وفي أقاليم مختلفة لكثرة الملفات الخلافية بينهما، بيد أنه من الصعب حدوث مواجهات عسكرية موسعة بين الطرفين، نظرا لتكلفتها المادية والبشرية المرتفعة. إن محصلة هذه التفاعلات ستحدد معالم النظام الدولي الجديد، لاسيما في ظل التنافس الصيني – الأمريكي، مما ينذر بالتحول لنظام دولي متعدد الأقطاب، وإنتهاء عهد القطب الواحد.
مجلة السياسة الدولية