منذ قدوم الديمقراطي جو بايدن إلى سدة الرئاسة الأمريكية، ثمة قناعة لدى البعض بأن المفاوضات الجارية بين إيران من جهة، والولايات المتحدة وحلفائها من جهة ثانية، ستنتهي إلى اتفاق نووي جديد، بغض النظر إن كان هذا الاتفاق نسخة من اتفاق عام 2105، أو مغاير عنه. وانطلاقاً من هذه القناعة، فإن السؤال الذي يُثار وبالتزامن مع المفاوضات الجارية في فيينا بين إيران والقوى الدولية بشأن هذا الاتفاق النووي، هو ماذا لو توصلت إيران والغرب إلى اتفاق نووي جديد في عام 2022؟ خاصة إذا لم يتضمن هذا الاتفاق بنوداً تتعلق ببرنامج الصواريخ الباليستية الإيرانية وتدخلات طهران في دول المنطقة، وما هي التداعيات المحتملة لهذا السيناريو حال تحققه؟
اتفاق مُحتمل:
مع أولوية الصراع الأمريكي مع الصين، جعل الرئيس بايدن من مسألة التوصل إلى اتفاق نووي جديد مع إيران، قضية أساسية في سياسته تجاه الأخيرة ومنطقة الشرق الأوسط عموماً. ولعل تعيين بايدن مبكراً لروبرت مالي مبعوثاً أمريكياً خاصاً للملف الإيراني، جاء تعبيراً عن رغبته والديمقراطيين عموماً في التوصل إلى اتفاق منشود. وعليه، كل ما اتخذته الإدارة الأمريكية الحالية خلال الفترة الماضية من عقوبات ضد طهران، أو إجراء جولات مفاوضات معها، أو بذلها جهوداً مع الحلفاء الأوروبيين بهذا الخصوص؛ عكست هذه الرغبة الأمريكية.
وفي المقابل، فإن إيران، التي تعتمد في اقتصادها بشكل أساسي على النفط، تضررت كثيراً من العقوبات الأمريكية والأوروبية عليها على خلفية برنامجها النووي، وهي تُدرك أن هذه العقوبات حدت كثيراً من دورها وقدراتها ودبلوماسيتها ونفوذها في المنطقة والمحيط الجغرافي عموماً. ومن هنا، فإن طهران تبدو بحاجة شديدة إلى اتفاق جديد يزيح عنها كاهل تلك العقوبات، ويتيح أمامها الفرص للاستثمار السياسي والاقتصادي. وعلى الرغم من المواقف المتباعدة لكل من طهران وواشنطن، والشروط المتناقضة للطرفين، والتحفظات الخليجية، والرفض الإسرائيلي؛ فإن التوصل إلى مثل هذا الاتفاق هو سيناريو مُحتمل في عام 2022.
مضمون الاتفاق الجديد:
ثمة من يرى أن الاتفاق الجديد قد يساعد إيران على الاحتفاظ ببرنامجها النووي بمكوناته الأساسية ومخزونها من اليورانيوم، لاسيما بعد أن وصلت إلى درجات متقدمة في تخصيب اليورانيوم. ولعل الاعتقاد الإيراني يقوم على أن جل ما يمكن أن تقدمه طهران من أجل التوصل إلى اتفاق نووي يتعلق بالموافقة على وضع ضوابط وآليات لوقف أي تطور يمكن أن يؤدي إلى إنتاجها لسلاح نووي، وهي في المقابل تريد أمرين أساسيين؛ الأول يتعلق بتوفير ضمانات بأن أي إدارة أمريكية مقبلة لن تتراجع عن الاتفاق كما حصل مع إدارة الرئيس السابق دونالد ترامب في عام 2018. والأمر الثاني هو رفع العقوبات عن طهران، والإفراج عن مليارات الدولارات المُجمدة لإيران في البنوك الأمريكية والأوروبية.
ومن جانبها، فإن الولايات المتحدة، التي لا تُبدي تجاوباً كاملاً مع هذين الشرطين الإيرانيين، تحاول اتباع سياسة تدريجية مع طهران، ولعلها تهدف من وراء ذلك إلى الحصول على أكبر قدر ممكن من التنازلات من إيران، لاسيما منسوبها من اليورانيوم المُخصب، ووضع سقف لمعدلات التخصيب، وفتح المنشآت النووية الإيرانية أمام مفتشي الوكالة الدولية للطاقة الذرية؛ وذلك في إطار استراتيجية تفاوضية معقدة، تسعى الولايات المتحدة منها إلى جلب الضغط الصيني والروسي على إيران إذا استمرت في خطابها المتشدد ونهجها القديم في التفاوض. إذ إن الإدارة الأمريكية تقول إنه لم يعد من الممكن الاستمرار في المفاوضات حتى ما لا نهاية، ولعل حديث وزير الدفاع الأمريكي، لويد أوستن، في المنامة قبل فترة، وتأكيده قدرة بلاده على نشر قوة ساحقة في الشرق الأوسط، واستعدادها اللجوء إلى الخيار العسكري إذا لزم الأمر؛ يعكس هذا التوجه في الضغط على إيران لدفعها نحو اتفاق نووي جديد.
تهديد إسرائيل:
تجمع الأوساط السياسية والأمنية والإعلامية في تل أبيب على أن البرنامج النووي الإيراني يمثل تهديداً وجودياً لمستقبل إسرائيل، وفي هذا الإطار ينبغي النظر إلى الرؤية الإسرائيلية الرافضة للبرنامج النووي الإيراني، وتأكيد رئيس الوزراء نفتالي بينيت أن إسرائيل غير معنية بأي اتفاق يتم التوصل إليه في فيينا بين إيران والقوى الدولية. وانطلاقاً من هذه الرؤية، تقوم استراتيجية إسرائيل تجاه الملف النووي الإيراني على التخلص منه، إن لم يكن بالمفاوضات، فمن خلال الخيار العسكري. وبالتالي تزايد وتيرة الحديث في تل أبيب عن هذا الخيار لضرب المفاعلات النووية الإيرانية، خاصة في ظل الخطوات التي اتخذتها الحكومة الإسرائيلية مؤخراً في هذا الشأن، مثل اقتناء مزيد من الأسلحة المتطورة، وتخصيص ميزانية ضخمة للضربة العسكرية المُحتملة.
بيد أن إسرائيل تدرك جيداً حجم الصعوبات التي تعترض ذلك الخيار العسكري؛ لأسباب تتعلق بطبيعة المفاعلات النووية الإيرانية الكثيرة، فضلاً عن قوة الردع التي تمتلكها طهران، ودور أذرعها الإقليمية، لاسيما حزب الله اللبناني في ظل قدرته على إطلاق آلاف الصواريخ ضد إسرائيل. كما أن إسرائيل باتت ترى في الرهان الأمريكي على المفاوضات مع إيران للتوصل إلى اتفاق نووي جديد ليس سوى عبث، وعليه تركز جهودها على إقناع الإدارة الأمريكية بعدم جدوى المفاوضات مع طهران إلى ما لا نهاية، وضرورة الانتقال إلى الخيار العسكري ضدها؛ لأن الوقت لم يعد لصالح تل أبيب والغرب عموماً، وإنما لصالح إيران التي خصبت كميات كبيرة من اليورانيوم بدرجة عالية من النقاء، وهو ما وضعها على حافة النووي، وربما المُضي نحو إنتاج سلاح نووي خلال فترة قصيرة إذا قررت ذلك.
وعليه، يمكن القول إن النقاش في تل أبيب ليس عن الخيار العسكري، وإنما عن كيفية تنفيذ هذا الخيار، وعن كيفية إشراك الولايات المتحدة فيه من أجل تأمين الحماية اللازمة لإنجاح الضربة العسكرية؛ كي لا تكون الردود مدمرة لإسرائيل. وفي المُجمل، ثمة قناعة إسرائيلية بأن الولايات المتحدة والغرب عموماً لن يتركون إسرائيل لوحدها إذ اندلع حرب بينها من جهة، وإيران والوكلاء التابعين لها من جهة ثانية. وبالتالي هناك من يرى أنه حتى لو نجحت المفاوضات النووية في فيينا خلال الجولة المقبلة (الثامنة)، فإن اللحظة التي ستلي هذا الاتفاق قد تكون مُحملة بتطورات أمنية كبيرة ربما تغير وجه المنطقة، فإسرائيل ترى أنه لا يمكن التعايش مع إيران نووية، وأن تكلفة الخيار العسكري ضدها ستكون أقل من هذا التعايش المُهدد لإسرائيل ولباقي دول المنطقة.
موقف الخليج:
ربطت دول الخليج العربية منذ البداية التوصل إلى أي اتفاق نووي مع إيران بجملة شروط؛ تعكس مخاوفها من السياسة الإقليمية لطهران، وعليه طالبت مراراً بمشاركتها في مفاوضات النووي، وتضمين بنود أخرى في هذا الاتفاق، فضلاً عن البرنامج النووي الإيراني، وهي تتعلق بالبرنامج الإيراني للصواريخ الباليستية، وتغيير سلوك إيران إزاء الملفات الإقليمية الساخنة في المنطقة، لاسيما في اليمن والعراق وسوريا ولبنان. إذ تدرك دول الخليج أن السياسة الإيرانية تجاه هذه الملفات، أصبحت تشكل تهديداً كبيراً لأمنها القومي والداخلي، ولعل ما يزيد من قلق دول الخليج بهذا الخصوص، هو موقف واشنطن الذي يركز على المصالح الأمريكية التي تتجاوز قضية الملف النووي الإيراني إلى الصراع مع الصين دون أخذ الهواجس الخليجية بعين الاعتبار، خاصة أن مثل هذا الاتفاق يعطي إيران أوراقاً جديدة في المُضي بسياستها الإقليمية المُهددة لأمن دول الجوار.
ولعل رفض طهران ربط أي ملف إقليمي بالاتفاق النووي، قد يعكس هذه الرغبة الإيرانية الدفينة في اللعب بملفات المنطقة، وزيادة وتيرة تدخلاتها في الشؤون الداخلية لدولها والعمل على تغيير النسيج السياسي والاجتماعي لدولها، والتصعيد ضد الفواعل السياسية فيها، لاسيما دول الخليح العربية التي تشكل عقبة في وجه المشروع الإيراني تجاه المنطقة. إذ إن الطموحات الإيرانية الإقليمية قد تصبح أكثر جموحاً إذا سمح الاتفاق النووي الجديد بتدفق المليارات من دولاراتها المُجمدة في البنوك الأمريكية والأوروبية، وكذلك بتدفق الشركات الغربية والآسيوية إلى إيران للاستثمار في مجالات الطاقة والخدمات والنقل وغيرها من المشاريع التي توقفت بفعل العقوبات الغربية.
وعليه، فإن تداعيات الاتفاق النووي الإيراني بنسخته السابقة ربما تزيد من النزعة العسكرية في المنطقة، حيث ستجد دول الخليج نفسها أمام الاستعداد لهذه المرحلة، خاصة إذا واصلت طهران سياستها القديمة في توتير القضايا المتفجرة في المنطقة لاسيما اليمن. وعلى المستوى السياسي، فإن مثل هذا الاستحقاق ربما يدفع دول الخليج إلى إعادة النظر في تحالفاتها وعلاقاتها الدولية، وربما التوجه نحو روسيا والصين وبعض الدول الأوروبية، لاسيما فرنسا لتحقيق نوع من التوازن في علاقاتها الدولية.
ختاماً، من الواضح أنه في حالة التوصل إلى اتفاق نووي جديد بين إيران والغرب في عام 2022، وبصيغة مشابهة لاتفاق عام 2015؛ فإن طهران ما بعد هذا الاتفاق المُحتمل لن تكون كما قبله، وقد يؤثر ذلك على منطقة الشرق الأوسط بأكملها. فالواقع الجديد في مرحلة ما بعد الاتفاق، سيفرض على الجميع إعادة النظر في حساباته تجاه إيران وسياستها وسلوكها وممارساتها في المرحلة التي ستلي الاتفاق. وهنا تبدو الأمور أمام استحقاقين؛ إما التكيف مع إيران نووية بأجندة سياسية تطمح إلى المزيد من الهيمنة والنفوذ الإقليمي، أو رفض هذه السياسة والتأسيس لعوامل جديدة من المواجهة، لاسيما في ظل القناعة الإسرائيلية بأن أي اتفاق نووي جديد سيجعل من إيران أخطر على أمنها القومي والمنطقة، وأنه لا يمكن التعايش مع هذا الخطر إلى ما لا نهاية، بما يعني أن “أبواب المجهول” قد تُفتح على المنطقة في ظل غموض صورة المستقبل الذي يتطلع إليه الجميع.
مركز المستقبل للدراسات