في يوم 25 ديسمبر (كانون الأول) 1991 في تمام الساعة 7:32 مساء، نزل العلم السوفياتي فوق الكرملين وحل مكانه علم روسيا ما قبل الثورة الذي كان يضم خطوطاً أفقية بيضاء وزرقاء وحمراء. كانت لحظة بالغة الأهمية، لكن لم يشهد عليها سوى حفنة من الأجانب ومحارب سوفياتي قديم وغاضب في الميدان الأحمر.
أعرف هذه المناسبة لأن الأجانب كانوا زوجتي وأولادي، الذين هتفوا عندما ارتفع العلم الجديد في سماء الليل، وتذكروا الوقت. في ذلك اليوم قبل 30 عاماً، ألقى ميخائيل غورباتشوف، آخر زعيم سوفياتي، خطاب الوداع ثم استقال – ولهذا لم أكن في الساحة الحمراء رفقة عائلتي.
في ذلك المساء، كتبت نعي الدولة السوفياتية في صحيفة «التايمز»: «رؤية الوعود الطوباوية الفاضلة التي خرجت من رحم الاضطرابات العنيفة لثورة تشرين الأول العظيمة لعام 1917، ليشهد الاتحاد آخر مُحققات الظلمة الرهيبة مع أواخر كانون الأول لعام 1991، مجرداً من الآيديولوجية، مقطعة أوصاله، ومفلساً، وجائعاً – لكنه يوحي بالرهبة العظيمة حتى أثناء سقوطه».
وعلى غرار العديد من الغربيين آنذاك، كنت شخصياً متفائلاً بأن انهيار الشيوعية من شأنه أن يؤذن بفترة من التحول الديمقراطي المطرد – أو «نهاية التاريخ»، كما أعلنه فرانسيس فوكوياما على نحو لا يُنسى. غير أن الأصوات الروسية التي سمعتها كانت أقل تفاؤلاً. وحذرت صحيفة «إزفستيا» اليومية الحكومية: «سيكون الانفصال عن اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفياتية طويلاً وصعباً». لقد حرمت الدولة السوفياتية الناس من الحرية، لكنها منحتهم شيئاً آخر: فخر القوة العظمى – القوة، كما كتبت «إزفستيا»، «المساوية للقومية»، وقادرة على توحيد «ملايين المؤيدين المتعصبين».
ومن المشكوك فيه أن حكومة فلاديمير بوتين وضعت الذكرى السنوية نصب أعينها في الأسبوع الذي أغلقت فيه «منظمة ميموريال إنترناشيونال»، وهي أبرز جماعة لحقوق الإنسان في روسيا، أو عندما حشد الكرملين قوات على الحدود الأوكرانية لابتزاز الغرب وحمله على البقاء بعيداً عن أوكرانيا. لكن هذه الأعمال قدمت تأكيداً محزناً على ما ذكرته «إزفستيا» سابقاً.
كانت «منظمة ميموريال» نتاجاً لآمال أواخر ثمانينات وتسعينات القرن العشرين، وهي منظمة غير متماسكة إلى حد كبير شرعت في التعرف على الملايين من ضحايا عمليات التطهير الستالينية ومعسكرات العمل وإحياء ذكراهم. فقد تغاضت عنها الحكومة في بادئ الأمر، ثم تسامحت معها على مضض مع تحول الكرملين إلى كيان قمعي على نحو متزايد، وفي النهاية أرسلها السيد بوتين إلى «مكب» المنظمات المدنية التي أصبحت الآن توصف بأنها «عملاء أجانب» وأنصار «للإرهاب». كانت الاتهامات تحمل كل السمات التي تميز الخطاب السوفياتي المزدوج، وكان الاحتفال بالذكرى بمثابة رد فعل محلي على إرهاب القمع السوفياتي.
والواقع أن إغلاق «منظمة ميموريال» في وقت يتسم بالتوتر الشديد حول حشد القوات الروسية على طول الحدود الأوكرانية ربما لم يكن متعمداً، ولكنه لم يكن من قبيل المصادفة. خلال العامين الماضيين، شدد السيد بوتين قبضته على السلطة بقوة، دافعاً من خلال تعديل دستوري بالبقاء في السلطة طيلة حياته، وسجن المعارض أليكسي نافالني، وصعد من حدة الخطاب المعادي للغرب.
تزامن الخطاب الروسي العدائي المكثف مع وصول جوزيف بايدن إلى البيت الأبيض – الذي وضع حداً للإذعان الوهمي الذي أظهره دونالد ترمب للسيد بوتين – ومغادرة أنجيلا ميركل للمعترك السياسي، التي شكلت جزءاً كبيراً من سياسات أوروبا تجاه روسيا.
منذ بداية 2021، كتب فلاديمير فرولوف، الدبلوماسي الروسي السابق في واشنطن، يقول إن الكرملين تبنى استراتيجية جديدة في التعامل مع الغرب، التي أطلق عليها على نحو لا يخلو من المفارقة «الانفراجة الثانية». وقال السيد فرولوف، في مقال على موقع «Colta.ru» الناطق بالروسية، إن أهداف السياسة الجديدة تتمثل في تحقيق الاستقرار في العلاقات مع الغرب ضمن الظروف المؤاتية لروسيا – كان حياد أوكرانيا هدفاً رئيسياً – وضمان أن تتمتع موسكو بوضع جيوسياسي مساوٍ لوضع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي في الشؤون الدولية.
وزعم السيد فرولوف أن وراء هذا التغيير اقتناع السيد بوتين بأن الجهود الرامية إلى الاقتراب من الغرب وقبول القيم الغربية لحقوق الإنسان لا تؤدي إلا إلى تقويض الدولة الروسية. وعلاوة على ذلك، كان الكرملين يعتقد أنه على النقيض من الأوضاع قبل ثلاثين عاماً، كانت الولايات المتحدة وحلفاؤها الآن في انحدار وتلهف للالتفاف حول الصين، وبالتالي كانوا على استعداد لسداد ثمن الانفراج مع روسيا. وكتب فرولوف قائلاً: «استراتيجيتنا هي أن روسيا دائماً على حق».
وإذا كان هذا هو ما يؤمن به حقاً السيد بوتين وجماعته، ربما يجدون أنفسهم في خطأ عميق. روسيا اليوم ليست الاتحاد السوفياتي بالأمس. ذلك أن اقتصادها أكثر عرضة للعقوبات الغربية، وتظل الولايات المتحدة وحلفاؤها، أياً كانت تحدياتهم الداخلية، قادرين على إلحاق قدر أعظم من الضرر الاقتصادي بالبلاد. وروسيا لا يمكنها التحكم في المعلومات أو التعرض للعالم الخارجي بالطريقة نفسها التي كانت للاتحاد السوفياتي – وعلى غرار الكثير من بلدان العالم، يحصل المواطنون الروس الآن على أغلب معلوماتهم من الإنترنت، ويسافرون بحرية نسبية.
علاوة على ذلك، تفتقر روسيا برئاسة بوتين إلى السند الآيديولوجي الذي عرضه الاتحاد السوفياتي على قادته لاحتكارهم السلطة – فهو مُلزم بالتمسك بالمعايير الديمقراطية حتى مع مواصلة انتهاكها في تمثيلية يستطيع معظم الروس رؤيتها. وأياً كان عدد المواطنين الروس الذين قد يشاطرون بوتين ادعاءه بوجود رابطة أخوية خاصة مع أوكرانيا، فليس هناك من سبيل إلى الجزم بالكيفية التي قد يتجاوبون بها مع التوغل العسكري الروسي العلني في أوكرانيا.
لكن يجب على الغرب أيضاً إدراك أن تهديدات ومطالب روسيا ليست فارغة تماماً، وأنه بعد استبعاد الرد العسكري، لديه نفوذ محدود على روسيا. ومع ذلك، هناك طرق يمكن من خلالها للولايات المتحدة نزع فتيل التوترات من دون قبول مطالب روسيا المستحيلة بإبرام معاهدة رسمية تعترف فيها بنطاق النفوذ الروسي على الأراضي السوفياتية السابقة.
بعد محادثة هاتفية استمرت 50 دقيقة، قال المتحدثان باسم كل من الرئيسين بايدن وبوتين إنهما أكدا مجدداً على تهديداتهما القاسية. لكن حقيقة المكالمة، وهي الثانية هذا الشهر، وخطط المحادثات الأمنية بين الولايات المتحدة وروسيا، وروسيا وحلف الناتو في الأيام المقبلة، هي خطوات في الاتجاه الصحيح – أي توجيه الأزمة إلى الدبلوماسية، وإظهار أن الغرب مستعد لأخذ المصالح الأمنية الروسية على محمل الجد.
ويمكن لواشنطن أيضاً حث أوكرانيا على اتخاذ بعض الخطوات في اتجاه تخفيف التوتر. وقد اقترح صامويل شاراب من مؤسسة «راند» البحثية، أن تحث الولايات المتحدة، أوكرانيا، على اتخاذ بعض الخطوات نحو الوفاء بالتزاماتها بموجب اتفاق «مينسك الثاني» الذي أبرم قبل ستة أعوام. وقد دعا الاتفاق أوكرانيا إلى تفويض بعض السلطات للمناطق التي يسيطر عليها المتمردون في شرق أوكرانيا، والاعتراف فعلياً بمركزهم الخاص في مقابل انسحاب روسيا من الحدود. الواقع أن مقاومة أوكرانيا للاتفاق أمر مفهوم، ولكن بعض التحركات بشأنها قد تحول المواجهة الحالية نحو القنوات الدبلوماسية.
إن القوة العظمى، كما ذكرت صحيفة «إزفستيا» قبل ثلاثة عقود، عادة ما يصعب التخلص منها، وعلى الغرب أن يحرر السيد بوتين من إساءة استغلال الأوهام الإمبراطورية. لكن توصيف تحركاته إزاء أوكرانيا بالمخادعة سوف تكون مقامرة خطيرة من قبل الغرب، مستذكرة مبدأ إدارة أوباما بأن «القوى العظمى لا تُخادع».
الشرق الاوسط