إرث الاستعمار البريطاني.. كيف فقدت الهند وباكستان الحرية

إرث الاستعمار البريطاني.. كيف فقدت الهند وباكستان الحرية

مفارقة الحرية الوطنية التاريخية والطغيان غير المعلن للإمبريالية
هل تستطيع الأمم والحضارات أن تخرج من الوحل الأخلاقي للغزوات العسكرية، وقتل الأبرياء والقسوة السياسية للإمبريالية وإخضاعها واستعبادها؟ لأكثر من 800 عام، كانت الهند، كإمبراطورية مغولية، كيانًا متكاملًا اقتصاديًا وقابلاً للحياة سياسيًا، وكانت لأوروبا الغربية علاقات تجارية وسياسية قوية معه. وبعد مؤامرات مبيتة وتقسيم مخطط، غزت بريطانيا الهند في العام 1857، وارتكبت المذابح بدم بارد في حق مليوني شخص معظمهم من المسلمين المعارضين للغزو العسكري، في ما وُصف بأنه مجرد “تمرد” في التاريخ البريطاني. وقد أطيح ببهادور شاه ظفر -آخر إمبراطور مغولي- بين عشية وضحاها في دلهي، وكان قد تم قطع رأس ابنه الأصغر ووضعه على طبق الإفطار لخنق الشاه وإجباره على الاستسلام من دون قيد أو شرط. ثم نُقل شاه على عجل إلى رانغون (بورما) وسُجن في مرآب، وتوفي فيما بعد ودُفن بعد أن عكف فقط على كتابة القصائد عن خسران حريته وبلده الحبيب. فهل حطّ البريطانيون في الهند لتكون دولة حرة مهيأة للديمقراطية أم لدعم الهيمنة الهندوسية على الهند المستقبلية؟ لقد سلب البريطانيون الهند المغولية وأصبحتة جزءاً من “بريطانيا العظمى”، وتصوروا الهند ككيان مطلق للـ”إمبراطورية البريطانية”.
على الرغم من أن قادة مثل غاندي ونهرو، والدكتور محمد إقبال، ومحمد علي جناح، ولياكوات خان قد تعلموا وفق التقاليد الفكرية البريطانية، إلى أنهم صاغوا مهمة ورؤى جديدة للحرية الوطنية كردة فعل ضد التقاليد السياسية الاستعمارية البريطانية واستمرارية الراج البريطاني في الهند. فهل كان هذا التلقين العنيف والقاسي جزءًا من التراث البريطاني أم من جهود صنع التاريخ لمحاصرة الهند إلى الأبد؟
حرص اللورد مونتباتن، آخر نائب للملك، على التأكد من أن يظل الهنود تابعين متذللين، مخلصين وملتزمين للمزيج المستقبلي مما تدعى “الحرية الوطنية” المعروفة بعد تقسيم البلد في العام 1947 إلى الهند وباكستان. وقد فشل البريطانيون في إيصال حقيقة الحرية الوطنية إلى كلتا الدولتين بروح عالمية من المسؤولية السياسية. وواصلت الدولتان الانخراط في الحروب العسكرية والصراعات العرقية، والتنافس على الهيمنة للسيطرة على بعضهما بعضا، مقوضتين بذلك مستقبلهما نفسه.
وما كان يمكن للتاريخ أن يقيد الاستبداد والقمع اللذين كرسهما مبدأ “فرق تسد” الذي وظفته الإمبريالية البريطانية ضد إرادة الجماهير الهندية. وتوضح شرائع العقلانية أن الحرية الوطنية الممنوحة لكلا الكيانين الجديدين في آب (أغسطس) 1947 كانت تسلسلًا مزيفًا للزمن والتاريخ. وقد أدت ما تُسمى “الحرية الوطنية” إلى تكريس ثقافة اجتماعية واقتصادية وسياسية مهجنة -جزء منها بشري وجزء من الكواسر- ولم يضع البريطانيون أي ترتيبات أمنية لضمان السلام والوئام المجتمعيين، ما أدى إلى مقتل الملايين من الناس في أعمال عنف عرقية بينما يهاجر الناس من أحد المكانين إلى الآخر.
من الغريب كما هو أنه بينما غيرت الإمبريالية البريطانية العقلية والسلوك الهنديين في غضون قرن من الزمان، فإن الهند وباكستان ما تزالان بعد 75 عامًا ملتصقتين بالأنظمة الاستعمارية البريطانية حتى يومنا هذا، سواء كان ذلك في الأفكار أو الأنظمة أو الحكم. ألا يؤشر هذا على خيال ساذج وفاسد للحرية الوطنية الذي يتبناه كلا الشعبين منذ العام 1947؟ إنهما يستمران في التفاعل مع بعضهما بعضا على أساس أن الآخر هو النقيض المكروه أكثر ما يكون حسب ترتيب الزمن والتاريخ، وتحكم علاقاتهما الحروب، وتهديد الترسانات النووية، ونزاع كشمير، والأسوأ من ذلك كله عدم وجود اتصالات مباشرة “من الناس إلى الناس” أو علاقات تجارية -وكل ذلك يحدث وكأنه جزء من سعي مختطَف وتطهيري وراء الحرية الوطنية.
القادة الهنود والباكستانيون يتبعون أجندة أنانية للمستقبل
يعكس المنظر الجوي لنيودلهي صورة إسلامية للمدينة -مسجد نيودلهي الكبير، وتاج محل التاريخي الجميل القريب، والقلعة القديمة، وغير ذلك الكثير. وهي، بالنسبة للأجانب، لا تشبه عاصمة الهند الهندوسية على الإطلاق. وإذا كانت لهذا الاستنتاج أي حقيقة، فإن مستقبل الهند وباكستان كان يجب أن يكون التعاون والصداقة الدائمة. ولكن، لطالما أرادت الهند إخضاع باكستان ومصادرة حريتها الوطنية. وقد أدى سوء حظ باكستان إلى تشهد العديد من الانقلابات العسكرية التي قوضت تكاملها وثقتها في الحرية. وخلق الجنرالات الأنانيون والحمقى سياسيين مزيفين وفاسدين يدّعون أنهم قادة صناعة المستقبل. لكنهم كانوا يفتقرون إلى القدرة الأخلاقية والفكرية لتخيل مستقبله البلد مع جيل جديد من المواطنين المتعلمين والأذكياء والنشيطين الذين كان يمكنهم المساهمة في خلق مستقبل واعد لباكستان.
كانت الأجندة السياسية للهند متماسكة عندما انفصل عنها شرق باكستان في كانون الأول (ديسمبر) 1971، وقامت بإنشاء بنغلادش السيدة إندرا غاندي -رئيسة الوزراء- من متآمري السلطة في الهند. ولن تجرؤ النخبة الحاكمة الباكستانية على الاعتراف بأن ذو الفقار علي بوتو وجنيرا يحيى خان، وكلاهما من المتآمرين الرئيسيين، هما اللذان قادا إلى هزيمة باكستان. وحتى بعد مرور نصف قرن، ما يزال الباكستانيون يعيشون مع الخاتمة الواهمة التي لا تقبل الجدل لسوء الحظ التاريخي ذاك. وكنتُ قد قابلت، كطالب دراسات عليا، الجنرال جايانتو ناث شودري (الرئيس السابق للقوات المسلحة الهندية) الذي جعلته السيدة إندرا غاندي يتقاعد قسراً وأرسلته كسفير (مفوض أعلى) إلى كندا. في حرم جامعي كندي محلي، التقينا عندما كان ضيفًا متحدثًا. وفي وقت لاحق، دعوته لحضور تجمُّع دراسي مع زملائي الطلاب وتناول الغداء. وخلال فصل الصيف أثناء عملي في محل للتصوير، دخل الجنرال شودري ومعه كاميرتان على كتفه، وتناولنا الغداء في كثير من الأحيان معًا وتمشينا ومارسنا التصوير معًا. وفي عطلات نهاية الأسبوع، في مكتبة الجامعة -غالبًا ما كنت أحصل على كتب من المكتبة وأشاركها معه ونتحدث عن الشؤون العالمية وماضيه، وحكاية الهند-باكستان.
ونفى الجنرال أي مؤامرة مزعومة ضد السيدة غاندي للإطاحة بها والقيام بانقلاب عسكري في الهند. وقد استمر تواصلي مع الجنرال شودري لمدة عامين تقريبًا. وبعد انتهاء مهمته الدبلوماسية، عينته جامعة ماكجيل محاضراً، وكان ذلك هو المكان الذي توفي فيه في العام 1975. كان شخصًا بسيطًا يبلغ طوله 6.5 قدم تقريبًا، متواضعًا ويتحدث بصراحة وصدق كما أتذكره. كقائد عسكري كبير في الهند، ربما كان طاغية، لكنه كان كإنسان ودبلوماسي شخصًا محترمًا. وقد خاض حروبا مع باكستان وعرف معظم المؤسسات العسكرية. وإليكم ما أفصح عنه خلال العديد من الأحاديث التي دارت بيننا والذي ينبغي أن يكون إنكاره مقلقًا للباكستانيين:
الذي عيّن ذو الفقار علي بوتو والشيخ مجيب هي السيدة إندرا غاندي
قبل هزيمة شرق باكستان واستسلامه في العام 1971، كان ذو الفقار علي بوتو على اتصال مباشر بالسيدة غاندي وأراد مساعدة الهند ليصبح الزعيم التالي لباكستان. وكانت الهند تبحث عن مثل هذه الفرصة وأرادت أن تصبح باكستان الشرقية كيانًا جديدًا -بنغلاديش. وكان الشيخ مجيب الرحمن قوميًا، لكنه كان متحمسًا لوطن جديد باستثناء أن يصبح الزعيم المنتخب القادم لباكستان. وكان بوتو ويحيى خان يتنافسان على السلطة حتى من دون انتخابات. وأراد ذو الفقار علي بوتو السلطة السياسية حتى لو هُزمت باكستان، وإلا لكان الشيخ مجيب ويحيى سيصبحان القادة الحاكمين التالين. كان بوتو فردًا متعطشًا للسلطة من دون أي قدرة سياسية على أن يكون زعيماً. وساعدت السيدة غاندي كلاً من ذو الفقار علي بوتي والشيخ مجيب، وكان الثمن هو هزيمة باكستان واستسلامها. وعينت السيدة غاندي بوتو في منصب الرئيس المقبل، ومدير الأحكام العرفية ورئيس وزراء باكستان، والشيخ مجيب الرحمن ليكون الرئيس المقبل لبنغلاديش.
قد يلقي بعض الباكستانيين باللوم على الجنرال نيازي في الاستسلام، ولكن في الواقع كان يحيى وبوتو والجنرالات الباكستانيون هم الذين ينبغي أن يواجهوا المساءلة الكاملة، وربما فرق الإعدام، بسبب خيانتهم وعدم إخلاصهم للحرية الوطنية وسلامة باكستان. ولم يحدث شيء من هذا في باكستان. وللاطلاع على المزيد، يمكن الاطلاع على مقالات الكاتب: “باكستان: القادة الذين طعنوا الأمة” (2009)، “باكستان: زعيم أم مجرمون” (2014)؛ “باكستان: تأملات في يوم الاستقلال التاسع والستين المضطرب”؛ “باكستان: كيفية تغيير ثقافة الفساد السياسي وإعادة بناء المستقبل” (2014)، و”زعيم باكستان والهند يحتفل بمناسبة التحرر من الحكم الاستعماري البريطاني، لكن الجماهير تبحث عن تغيير ذي معنى” (2020).
حسب الجنرال شودري، لو أن الهند استولت على باكستان بأكملها باستثناء مقاطعة السند، لأصبح ذو الفقار بوتو بكل سرور رئيس وزراء السند للتعايش مع الهند. وكشف أنه كان هناك خمسة أو ستة جنرالات باكستانيين “رقيقي القلوب” على استعداد للتحالف مع، وعدم تحدي، خطة الهند بشأن بنغلاديش. ومن الصادم كما هو أن القادة الباكستانيين المستقبليين لم يحاسبوا أي شخص على الجرائم المرتكبة ضد الأمة. هل كان ذو الفقار بوتو ويحيى خان أكثر أهمية من الوجود والحرية الوطنية والسلامة بباكستان واحدة؟ وكتب الدكتور اشتياق قريشي (محرر موقع “أوردو دايجست”) كتاباً في العام 1972، وصف فيه تفاصيل كيف خان بوتو ويحيى خان باكستان الأمة وطعناها. وقامت حكومة بوتو بسجن الدكتور قريشي. وما تزال هذه الحقيقة غير معترف بها ومقموعة من قبل النخبة الباكستانية الحاكمة حتى يومنا هذا.
هل ما يزال الباكستانيون يعيشون في أي حالات إنكار عقلاني للفصل الذي كتبوه هم أنفسهم من التاريخ؟ يتفشى الفساد الأخلاقي والفكري في كلا البلدين. وتُجبَر الجماهير بشكل منهجي على رشوة المسؤولين للحصول على الخدمات الأساسية والضروريات الرسمية، مثل بطاقات الهوية وجوازات السفر ورخص القيادة وغير ذلك الكثير من شؤون الحياة. وقد تغير مفهوم “الحرية الوطنية” بسبب النطاق الموسع للفساد والاستغلال -إرث الإمبريالية البريطانية. ويبحث المستعمرون الجدد في الهند وباكستان عن الهروب من الواقع ولديهم حساسية تجاه النظر في مرآة الحاضر والمستقبل. لم يعِش العلامة إقبال (رائد الحرية الوطنية الباكستانية) ليرى حلمه يتحقق في باكستان. وقُتل الماهتاما غاندي على يد متطرف هندوسي، ومات نهرو موتًا طبيعيًا. وتوفي محمد علي جناح في سيارة إسعاف معطلة في أحد شوارع كراتشي، وقتل لياقت علي خان (أول رئيس للوزراء) على يد السياسيين الباكستانيين آنذاك. وقُتلت السيدة غاندي على يد حارسها الشخصي من السيخ. وقتل الشيخ مجيب على يد قائده العسكري وشُنق بوتو لقتله معارضا سياسيا.
هل هناك أي بصيص أمل في حدوث تغيير موجه نحو الأجيال الجديدة؟
لدى الهند مشاكلها المتعددة بشأن التنوع الاجتماعي-الاقتصادي والسياسي. وهي غير قادرة على مواجهة حركة الحرية الوطنية لأمة السيخ من أجل “خالستان” مستقلة. ولم يكن إقليم كشمير أبدًا جزءًا من الهيمنة البريطانية الهندية، وما تزال جماهيره تسعى إلى التحرر من الاحتلال الهندي وانتهاكات حقوق الإنسان الأساسية. وتتعرض الأقليات المسلمة والمسيحية والأقليات الأخرى للاضطهاد في ظل هند يسيطر عليها الهندوس. ومن جهتها، فشلت باكستان فشلا ذريعا في اتخاذ مبادرات استباقية لدعم حركة الحرية لشعب كشمير. ولم تستطع النخبة القديمة التي يقودها رجال الخدمة المدنية السابقون تخيل استراتيجيات جديدة ومبتكرة لتنظيم المؤتمرات الدولية أو التواصل بشكل فعال مع العالم الغربي لمشاركة تطلعات الجماهير الكشميرية.
الآن، يسير تدهور الثقافة الأخلاقية والفكرية الهندية-الباكستانية على قدم وساق. وما يزال جوهر ومعنى وهدف الأنظمة الاستعمارية البريطانية التاريخية يعمل في جميع الشؤون والسياسات والممارسات العامة في البلدين. وتبقى القوات المسلحة، والخدمة المدنية والفقه القانوني جميعها تحت التأثير المشؤوم والواقع المشوه للدولتين اللتين تسميان أمماً حرة. وما تزال الشرطة تضرب المحتجين وتفتح النار على المتظاهرين السلميين، سواء في نيودلهي أو كشمير أو إسلام أباد. والحرية الوطنية لا تمكِّن المجتمعات المستقبلية، لتقوم بدلاً من ذلك بإرساء العبث السياسي، والانحلال الأخلاقي والفكري والظلم السياسي. ويعيش عامة الناس في كلا البلدين محاصرين في أنظمة حكم سياسية عفا عليها الزمن، باستثناء المُلاك والأثرياء الذي يتنافسون في الانتخابات ويكسبون السلطة.
وما مِن تغيير بالنسبة للناس في المشهد المستعمَر باستثناء النطاق الموسع للفساد الأخلاقي والفكري المقنَّع بالحرية. وإذا سألت النخبة في كلا الجانبين، التي لديها العديد من القيم المشتركة مع الراج البريطاني، فسوف ينكرون أن يكون هناك أي خطأ في تفكيرهم، ولعبهم الأدوار، وإدارتهم الشؤون العامة. وقد أصبح الجيل الجديد والشباب الذي لم يتخيلوا مستقبلًا جديدًا مستدامًا يختفون بسرعة ويهاجرون إلى أوروبا وأميركا بحثًا عن فرص أفضل. وتدير الأجيال القديمة من المُلاك والمسؤولين العسكريين المدنيين المتقاعدين الهيئات الحاكمة، بينما يُحرَم الجيل الجديد والمتعلم من أي مشاركة عملية ويهاجرون إلى أوروبا وأميركا الشمالية ولا يعودون أبدًا إلى بلدانهم الأصلية.
ومحور الثقافة السياسية منقسم وتكتنفه الأوهام حول الحرية الوطنية وصنع المستقبل المستدام. وليس ثمة حروباً تقليدية يخوضها أبناء شبه القارة، لكنهم يخوضون حروباً على جبهات عدة بلا سبب- معروفة ومجهولة. وتتطلب مواجهة الحقائق القاهرة عبر شبه القارة المحاصرة تفكيرًا جديدًا، وقيادات ذات رؤى جديدة، ورجالاً ذوي أفكار وخطط جديدة للتعامل مع الاستغلال غير المبرر للجماهير، والوفيات المجتمعية، والتدمير المتعمد للثقافة التاريخية، وملايين الأشخاص الذين يبحثون عن التغيير وبداية جديدة للحدود والعلاقات الودية.

الغد