دعا الرئس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، إلى اجتماع عاجل للأمن القومي في 22 تموز (يوليو) 2021 لمناقشة برنامج التجسس الإسرائيلي “بيغاسوس” Pegasus بعد ظهور تقارير حول استخدامه في فرنسا. وأفاد تجمع من المؤسسات الإعلامية، بما في ذلك صحف “الواشنطن بوست” الأميركية و”الغارديان” البريطانية و”لوموند” الفرنسية، بأن أحد أرقام هواتف ماكرون وأرقام العديد من الوزراء في الحكومة كان على قائمة مسربة لأهداف “بيغاسوس”.
* * *
تكميم أفواه منتقدي حقوق الإنسان: قصة إسرائيلية مألوفة
قامت إسرائيل بتصنيف ست منظمات غير حكومية فلسطينية عاملة منذ وقت طويل على أنها “منظمات إرهابية”، بموجب “قانون مكافحة الإرهاب” الإسرائيلي للعام 2016 في 19 تشرين الأول (أكتوبر)، بعد يومين من اكتشاف أن الهواتف المحمولة للعديد من العاملين في هذه المنظمات قد تم اختراقها باستخدام برامج التجسس التي طورتها “مجموعة إن. إس. أو.” NSO Group الإسرائيلية.
وهذه المنظمات هي “الضمير”، و”مركز بيسان للبحوث والتنمية”، و”الدفاع عن الأطفال الدولية- فلسطين”، و”الحق”، و”اتحاد لجان العمل الزراعي”، و”اتحاد لجان المرأة الفلسطينية”. ولا يوجد أي سجل لأي من هذه المنظمات يتحدث عن نشاط عنيف. وقد تأسست منظمة “الحق”، التي ربما تكون الأكثر شهرة بين هذه المنظمات، في العام 1979 وأصدرت العديد من التقارير المدروسة بعناية حول مسائل الحقوق والقانون منذ ذلك الحين.
تم اكتشاف تثبيت برنامج التجسس في 16 تشرين الأول (أكتوبر)، بعد أن اتصلت منظمة “الحق” بمجموعة حقوق الإنسان التي تتخذ من دبلن مقراً لها، “مدافعون عن الخط الأمامي” Front Line Defenders، للاشتباه في أن برنامج تجسس قد أصاب أحد هواتف عامليها في القدس. وقد تأسست مجموعة “مدافعون عن الخط الأمامي” في العام 2001 للمساعدة على حماية المدافعين عن حقوق الإنسان المعرضين للخطر، الذين يعملون بشكل غير عنيف لتعزيز أي من -أو كل- الحقوق المنصوص عليها في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان. وأكدت “مدافعون” إصابة هاتف العامل في منظمة “الحق” وعدد آخر من هواتف موظفي المنظمات غير الحكومية الفلسطينية، وأن برنامج التجسس المستخدم يبدو أنه “بيغاسوس”، الذي تنتجه الشركة الإسرائيلية، “مجموعة NSO”.
والتقى منسق من “مدافعون” بأعضاء من المنظمات غير الحكومية الست المذكورة أعلاه في 17 تشرين الأول (أكتوبر) وأبلغهم بتسلل برامج التجسس إلى هواتفهم، وطلب المزيد من الأجهزة للفحص.
وبينما صنف وزير الدفاع الإسرائيلي، بيني غانتس، المنظمات الست “منظمات إرهابية”، فإنه لم يتم اتخاذ أي خطوة فورية لإغلاقها. ومع ذلك، سوف يتم استخدام الأمر الذي صدر في 19 تشرين الأول (أكتوبر) لتكثيف الضغط على دول الاتحاد الأوروبي والهيئات الأخرى التي كانت تقدم التمويل لها في الماضي للتوقف عن بذلك. وتقدم بعض هذه المنظمات أدلة وشهادات عن الانتهاكات الإسرائيلية لحقوق الإنسان إلى الأمم المتحدة. وقد يكون الغرض من تصنيفها إرهابية هو تحويل الانتباه بعيدًا عن قضية نشر برامج التجسس ضد المنظمات غير الحكومية. ومن وجهة نظر الرأي العام، فإن من المرجح أن يتم اعتبار المنظمات التي تُعد إرهابية أهدافًا مبررة للمراقبة التدخلية أكثر من تلك التي تؤدي أعمالًا تعد مشروعة في ظل أي نظام سياسي يدَّعي أنه ديمقراطي.
لقتت “مجموعة NSO” الانتباه الدولي في تموز (يوليو) 2021، عندما أصدرت صحيفة “الغارديان” البريطانية و16 مؤسسة إعلامية أخرى نتائج “مشروع بيغاسوس”، وهو تحقيق رائد في الاستخدام العالمي لبرنامج القرصنة الخاص بـ(NSO)، والذي تم إنجازه بتنسيق من “قصص ممنوعة” Forbidden Stories، وهو اتحاد من الصحفيين تتمثل مهمته في التحقيق في اغتيال الصحفيين أو سجنهم أو تهديدهم. وقد اكتشف فريق التحقيق أنه عند وصوله إلى الهاتف، يوفر “بيغاسوس” من NSO وصولاً إلى جميع المعلومات الموجودة على هاتف الفرد. ويسمح البرنامج بمراقبة تحركات الشخص ومحادثاته باستمرار، كما يمكن استخدامه لتشغيل كاميرا الهاتف والميكروفون بحيث تمكن مراقبة المحادثات التي تُجرى وجهًا لوجه أيضًا.
وفقًا لمقال “الغارديان” الذي كتبته ستيفاني كيرشغيسنر ومراسلون آخرون، كشف أحد التسريبات عن أرقام هواتف أكثر من 50.000 شخص يُعدون أشخاصًا محل اهتمام لعملاء مجموعة NSO. ولم يتم اختراق كل هذه الهواتف بالضرورة، على الرغم من أنه تم اختراق بعضها بشكل واضح. ومن بين هؤلاء الأشخاص “المئات من رجال الأعمال، والشخصيات الدينية، والأكاديميين، وموظفي المنظمات غير الحكومية، والمسؤولين النقابيين والمسؤولين الحكوميين، بما في ذلك وزراء ورؤساء دول ورؤساء وزراء”.
وتم تحديد ما لا يقل عن عشر حكومات على أنها من عملاء NSO، ولا تتميز أي منها بسجل مميز في مجال حقوق الإنسان: أذربيجان، والبحرين، وكازاخستان، والمكسيك، والمغرب، ورواندا، والسعودية، والمجر، والهند والإمارات العربية المتحدة. وقد اختار عملاء NSO أرقام هواتف في 45 دولة للمراقبة.
يشير تقرير صحيفة “الغارديان” إلى أن “مجموعة NSO” أصدرت بيانًا من خلال محاميها ردًا على التحقيق، قالت فيه إنها “تبيع فقط للوكالات العسكرية ووكالات إنفاذ القانون والاستخبارات في 40 دولة لم تذكر اسمها، وتقول إنها تقوم بإجراء فحص دقيق لسجلات حقوق الإنسان لعملائها قبل السماح لهم باستخدام أدوات التجسس الخاصة بها. وينظم وزير الدفاع الإسرائيلي عمل NSO بشكل وثيق، ويمنح تراخيص تصدير فردية قبل بيع تكنولوجيا المراقبة التي تنتجها بها إلى دولة جديدة”.
تشير قائمة العملاء المعروفين إلى أن الحكومة الإسرائيلية مهتمة بضمان توافق مبيعات مجموعة NSO مع أهداف السياسة الخارجية الإسرائيلية أكثر من اهتمامها بمعايير حقوق الإنسان. وثمة نظرة عالمية مشتركة ورقابة حكومية تجعلان الحدود بين شركة مثل NSO والحكومة الإسرائيلية بلا معنى إلى حد كبير.
وليس من المستغرب، في هذه الظروف، أن يتم اكتشاف استخدام برامج التجسس NSO ضد الفلسطينيين الذين يعملون من أجل حقوق الإنسان والتنمية وحقوق المرأة والرفاه الاجتماعي. ولا شك في أن قدرات موظفي NSO قد شُحذت في الكفاح لقمع جميع أشكال المقاومة الفلسطينية والمعارضة العربية، بينما كانوا يعملون من أجل دعم الأجهزة العسكرية والاستخباراتية الإسرائيلية.
كانت إسرائيل من أوائل الدول التي استخدمت تطبيق “فيسبوك” كأداة للقمع، واستخدمته ضد الفلسطينيين. ويبدو أن لدى جميع مؤسسي NSO وممولي الشركات الناشئة روابط سابقة مع هيئة الأمن السيبراني الإسرائيلية، “الوحدة 8200″، التي تم إنشاؤها في منتصف العقد الأول من القرن الحادي والعشرين لجمع المعلومات الاستخبارية وممارسة القرصنة في المنطقة -وتحديداً ضد الفلسطينيين واللبنانيين.
والآن، تواجه NSO إجراءات قضائية من قبل شركتي “ميتا” META (فيسبوك سابقاً)، و”واتس-أب” -ولكليهما تطبيقات تستخدمها على نطاق واسع مجموعات حقوق الإنسان، والصحفيون، والمنظمات غير الحكومية في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا- بسبب اختراق المجموعة قواعد بيانات مستخدمين هذه التطبيقات.
وفي الرد، نشرت “مجموعة NSO” تقرير الشفافية الذي تضمن مقتطفات من العقود التي تنص على أنه يجب على العملاء استخدام منتجاتها فقط في التحقيقات الجنائية وقضايا الأمن القومي.
وليس هذا دفاعاً، لأن الأنظمة القمعية -بل معظم الحكومات- تميل إلى أن يكون لديها تعريفات مرنة وواسعة النطاق لما يشكل مسائل جنائية أو قضايا أمن وطني، والتي يمكن أن تشمل إفشاء الأسرار التي تفضل الحكومة الاحتفاظ بها لنفسها، والسعي إلى تغيير الحكومة أو السياسة بوسائل سلمية يجرمها القانون.
وفي الرد على العاصفة التي أثارها ما تم كشفه عن NSO، أنشأت الحكومة الإسرائيلية لجنة للنظر في ما إذا كانت منتجاتها قد أسيء استخدامها.
في بداية شهر تشرين الثاني (نوفمبر)، وضعت إدارة بايدن مجموعة NSO على القائمة السوداء، وهو ما سيكون من شأنه أن يزيد من صعوبة شراء المجموعة للتكنولوجيا أو الخدمات التي منشؤها الولايات المتحدة. وكانت أسباب هذه الخطوة هي أن NSO تصرفت “بما يتعارض مع السياسة الخارجية ومصالح الأمن القومي للولايات المتحدة”.
كما أُضيفت شركة برامج تجسس إسرائيلية أخرى، “كانديرو” Candiru، إلى القائمة السوداء للولايات المتحدة في تشرين الثاني (نوفمبر) بعد أن وجد باحثون مقيمون في مونتريال من شركة “إيسيت” ESET السلوفاكية لأمن الإنترنت، أنه تم نشر تكنولوجيا برامج التجسس التي تنتجها ضد أجهزة الحاسوب الخاصة بأهداف في الشرق الأوسط وبريطانيا.
ووفقًا لمقال آخر، نشرته كيرشغيسنر في تشرين الثاني (نوفمبر) في صحيفة “الغارديان”، كشف تقرير “إيسيت” عن معلومات جديدة حول ما تُسمى بـ”هجمات حفرة الماء”. وفي مثل هذه الهجمات، يقوم مستخدمو برامج التجسس بإطلاق برامج ضارة ضد مواقع الويب العادية المعروفة بجذبها القراء أو المستخدمين الذين يعتبرهم مستخدم البرامج الضارة “أهدافًا محل اهتمام”. وتسمح الهجمات المتطورة لمستخدم البرامج الضارة بتحديد خصائص أجهزة الأفراد الذين زاروا الموقع، بما في ذلك نوع المتصفح ونظام التشغيل الذي يستخدمونه. وفي بعض الحالات، يمكن لمستخدم البرامج الضارة فتح ثغرة تسمح له بالاستيلاء على جهاز حاسوب الفرد المستهدف.
وقالت “إيسيت” إنها تعتقد أن هجمات القرصنة قد انتهت في تموز (يوليو) 2021، بعد أن أصدر باحثون في “مختبر المواطن” Citizen Lab، بالتعاون مع “ميكروسوفت”، تقريرًا عن أنشطة شركة “كانديرو”. وقد اتُّهمت “كانديرو” ببيع برامج تجسس لحكومات كانت تدير مواقع وهمية لحركة “حياة السود مهمة” ومواقع لـ”منظمة العفو الدولية”، والتي من شأنها جذب زيارات من الأشخاص المهتمين أو الداعمين لقضاياها، ثم السماح باختراق أجهزة الحاسوب الخاصة بهم. وتعتبر إسرائيل كلتا المنظمتين تهديداً بسبب ارتباطهما بالقضية الفلسطينية.
من خلال التقنيات التي قامت بتطويرها وبيعها شركات مثل “مجموعة NSO” و”كانديرو”، فإن أناساً في العديد من البلدان من الذين قد لا يكون لديهم اهتمام شخصي معين بما يحدث في الشرق الأوسط، لكنهم يتعارضون ببساطة مع نظام قمعي يحدث أنه يقيم -أو أنه يريد إقامة- علاقات جيدة مع إسرائيل، يمكن أن يكونوا قد خضعوا للتجسس، وفي بعض الحالات، تعرضوا لخطر الاضطهاد أو ما هو أسوأ.
الغد