أقلعت طائرة “بان أميركان 103” في 21 كانون الأول (ديسمبر) 1988، في رحلة مُجَدولة من مطار هيثرو في لندن، المملكة المتحدة، متوجهة إلى مطار جون كنيدي في نيويورك. وكان على متن الطائرة 16 من أفراد الطاقم و243 راكبًا من أكثر من 20 دولة. وبعد 37 دقيقة فقط من إقلاعها، انفجرت الطائرة في الجو، ما أسفر عن مقتل جميع من كانوا على متنها و11 من السكان الأبرياء في بلدة لوكربي الصغيرة باسكتلندا. وبعد مرور أكثر من 33 عامًا، ما يزال الجناة الفعليون مجهولين، وما تزال حقيقة ما حدث مخفية عمداً.
سرعان ما اعتُقد أن السبب في الانفجار، المعروف باسم “تفجير لوكربي”، هو قنبلة مخبأة في منطقة الأمتعة بجسم الطائرة. ووقعت مهمة اكتشاف ما حدث بالفعل ومَن يمكن أن يكون المرتكب لمثل هذه الفظائع على عاتق المئات من محققي الشرطة الاسكتلنديين، والمحققين الخاصين من مكتب التحقيقات الفيدرالي الأميركي، وخبراء المخابرات من الولايات المتحدة واسكتلندا والمملكة المتحدة. وشرعت فرق تحقيق إضافية وخبراء طيران في عمليات بحث لا تنتهي عن أدلة على طول مسار رحلة “بان آم 103″ قبل وصولها إلى مطار هيثرو. وكانت الطائرة المنكوبة قد مرت بالفعل عبر مطار فرانكفورت الألماني بعد أن التقطت قطعة أمتعة من دون صاحبها من مطار مالطا الدولي. ويقال إن هذه الحقيبة الـ”سامسونايت” التي التقطتها الطائرة هي التي كانت تحتوي على القنبلة التي دمرت الطائرة.
أشارت تكهنات وسائل الإعلام المحمومة، خاصة وسائل الإعلام الأميركية الرئيسية التي تتغذى على التسريبات من إدارة جورج. إتش. دبليو بأصابع الاتهام إلى إيران، قائلة إن لدى الجمهورية الإسلامية الدافع والبراعة اللازمة لارتكاب هذا القتل الجماعي في وسط الهواء. وعلى سبيل المثال، ذكر تقرير لصحيفة “الواشنطن بوست”، نُشر في 11 أيار (مايو) 1989، أن جماعة فلسطينية متشددة، تُعرف بـ”الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين -القيادة العامة” ومقرها دمشق، سورية، هي التي نفذت الهجوم نيابة عن إيران.
ولكن، لماذا قد تعكف إيران على ارتكاب مثل هذه المجزرة؟ ظهرت للتفسير نظرية واحدة معقولة. قبل أقل من ستة أشهر من مأساة لوكربي، في 3 تموز (يوليو) 1988، أصيبت رحلة طائرة الخطوط الجوية الإيرانية 655، التي كانت في طريقها من طهران إلى دبي، بصاروخين تم إطلاقهما من “يو. إس. إس. فينسين”. وكانت هذه السفينة الحربية الأميركية تحمي ناقلات النفط التي تنقل النفط الخام من الكويت في خضم الحرب الدامية بين إيران والعراق. واعترفت البحرية الأميركية بأنها أخطأت وخلطت بين الطائرة المدنية الإيرانية وطائرة مقاتلة معادية. وأدى هذا “الخطأ البشري” إلى مقتل 290 راكباً بريئاً بينهم 66 طفلاً.
في 15 تشرين الثاني (نوفمبر) 1991، ظهرت رواية أخرى، والتي ستصبح “الحقيقة” الوحيدة التي ستعتنقها الولايات المتحدة والمملكة المتحدة. وتقول هذه الرواية إن الجاني هو ليبيا، وليس إيران. وفي ذلك اليوم من العام 1991، قال النائب العام الأميركي بالنيابة، وليام بار، للعالم خلال مؤتمر صحفي، إنه وجه الاتهام إلى مواطنَين ليبيَّين باعتبارهما الجناة الوحيدين في تفجير لوكربي. وسمّى بار ضابط المخابرات الليبي عبد الباسط علي المقرحي، وزميله الأمين خليفة فهيمة، وكلاهما يعمل في مكتب مالطا لشركة الطيران الليبية المملوكة للدولة.
وبحسب لائحة الاتهام، فقد خطط المقرحي للهجوم انتقاما من القصف الأميركي لطرابلس وبنغازي قبل عامين، الذي نجا فيه الزعيم الليبي العقيد معمر القذافي بصعوبة من الهجوم الليلي الذي وقع في 15 نيسان (أبريل) 1986 على منزله، لكنه قتل ابنته المتبناة وعشرات المدنيين. ووفقًا لبار، فقد سارت الحبكة على النحو الآتي: اشترى المقرحي بضع قطع من الملابس من متجر “ماريز هاوس” الذي يملكه توني غوتشي، ومشغل راديو كاسيت نوع “توشيبا” وحقيبة “سامسونايت”. وأخفى المقرحي قنبلة صغيرة في مشغل الكاسيت، ولفه بالملابس قبل وضع الحزمة في الحقيبة. وساعده زميله، فهيمة، على الوصول إلى منطقة الأمتعة في مطار مالطا حيث وضع حقيبته المميتة في وحدة تغذية الأمتعة لرحة “بان أم 103″، والتي تم تحميلها لاحقًا على متن الطائرة المنكوبة في مطار فرانكفورت. وطالبت الولايات المتحدة ليبيا بتسليم المتهمَين ورفضت ليبيا ذلك.
بعد مشاحنات سياسية مطولة وعمليات دبلوماسية من وراء الكواليس، والتي تحملت خلالها الدولة الشمال إفريقية العقوبات والحصار الاقتصادي والحظر التام على الرحلات الجوية التجارية، قبلت الولايات المتحدة والمملكة المتحدة اقتراح أستاذ القانون الاسكتلندي، روبرت بلاك، بأن يمثل الليبيان أمام المحكمة ويُحاكما في هولندا. وقد خشيت ليبيا من أن إجراء المحاكمة في الولايات المتحدة أو المملكة المتحدة لن يكون عادلاً، لكنها رحبت بإجرائها في دولة ثالثة. وكان السكان الليبيون البالغ عددهم أكثر من ستة ملايين نسمة قد دفعوا ثمناً باهظاً لقاء جريمة أعلنوا دائماً براءتهم من ارتكابها. ومن أجل إنهاء كل هذه المعاناة الاقتصادية، وافقت ليبيا أخيرًا على تسليم مواطنَيها -اللذين لم يتوقفا أبدًا عن الاحتجاج والإصرار على براءتهما- ليواجها المحاكمة.
في 6 نيسان (أبريل) 1999، وصل الرجلان إلى محكمة مبنية خصيصًا، تقع في قاعدة أميركية مهجورة تسمى “كامب زيست”، بالقرب من مدينة أوتريخت الهولندية. وفي 31 كانون الثاني (يناير) 2001، وجد القضاة الاسكتلنديون الثلاثة أن المقرحي مذنب وحكموا عليه بالسجن المؤبد. وتمت تبرئة شريكه في التهمة، فهيمة. وكان هذا أول عيب كبير في المحاكمة والتي سرعان ما وصفها العديد من خبراء القانون بأنها “إجهاض” واضح للعدالة، بمن فيهم الرجل الذي صمم المحكمة، البروفيسور بلاك نفسه. كما انتقد هانز كوتشلر، المراقب الذي عينته الأمم المتحدة، إجراءات المحاكمة في “كامب زيست” وشكك في النتائج التي توصلت إليها.
وقد استأنف المقرحي الحُكم، لكنه خسر استئنافه الأول في 14 آذار (مارس) 2002 وتم نقله إلى اسكتلندا لبدء قضاء عقوبته. لكنه ظل يحتج مطالباً ببراءته لمن يستمع. وكان هناك شخص واحد على وجه الخصوص والذي لم يكن يستمع إلى المقرحي فحسب، بل إنه صدقه أيضًا. لن يصبح الدكتور جيم سواير، الذي كانت ابنته فلورا على متن الرحلة المشؤومة، صديقاً لمدان لوكربي الوحيد فحسب، وإنما سيبدأ حملة تدعو إلى إعادة المحاكمة أيضاً.
المدعي العام وليام بار يعلن لائحة اتهام جديدة
استأنف المقرحي الحكم مرة أخرى، ولكن تم تشخيص حالته بأنه مصاب بالسرطان وقيل له إن لديه بضعة أشهر فقط للعيش. وفي مواجهة الاحتمال الرهيب للموت في السجن، كان عليه أن يقرر إما مواصلة استئنافه أو إسقاطه والمطالبة بالإفراج الرحيم الذي ينص عليه القانون الاسكتلندي في حالات السجناء المصابين بأمراض مميتة.
في 20 آب (أغسطس) 2009، تم إطلاق سراح المقرحي لأسباب إنسانية وطار عائداً إلى ليبيا حيث تم استقباله بحرارة. وقوبل إطلاق سراحه بالغضب من قبل بعض أسر الضحايا الأميركيين -ولكن ليس من قبل العديد من العائلات البريطانية التي شككت في إدانته منذ البداية. (أجرى السفير أندرو كيلغور، ناشر “تقرير واشنطن”، مقابلات منتظمة مع الدكتور سواير وكتب العديد من المقالات حول هذا الموضوع. ولم يشك كيلغور قط في براءة المقرحي).
بمجرد وصوله إلى ليبيا، لم يتوقف المقرحي أبدًا عن المطالبة بإعادة المحاكمة، لأنه كان يعتقد هو ومئات الخبراء القانونيين أن إعادة المحاكمة ستظهر براءته، نظرًا للأدلة المتزايدة التي تشير إلى إجهاض العدالة أثناء المحاكمة الأولى. وتوفي المقرحي في منزله، محاطًا بأسرته، في 20 أيار (مايو) 2012 -بعد ما يقرب من ثلاث سنوات لم يصبح خلالها أقرب إلى تبرئته.
ومع ذلك، واصل الدكتور سواير والعديد من الأشخاص الآخرين في اسكتلندا حملتهم، وضغطوا على حكومة المملكة المتحدة للإفراج عن وثائق معينة من شأنها أن تظهر براءة المقرحي. ولكن، على مدار سنوات رفض رؤساء الوزراء البريطانيون المتعاقبون جميع الدعوات إلى إجراء تحقيق عام في الكارثة ورفضوا كل طلب قدمه فريق الدفاع لرفع السرية عن بعض الوثائق.
لكن الدكتور سواير الذي لم يستسلم أبدًا، وتعاون مع المحامي الاسكتلندي المتطوع عامر أنور، وابن المقرحي، علي، اللذين قدما التماسًا إلى لجنة مراجعة القضايا الجنائية في اسكتلندا لمراجعة ما إذا كان المقرحي قد حصل على محاكمة عادلة. وفي العام 2007، قررت اللجنة إحالة القضية إلى أعلى محكمة جنائية في اسكتلندا. وهذا يعني أنها كانت هناك بالفعل أسباب لتوجيه الاتهام إلى المحكمة بإجهاض العدالة. ثم خاطب فريق الدفاع اللجنة مرة أخرى، وطالب بتبرئة كاملة للمقرحي بناءً على أدلة جديدة جمعوها على مر السنين.
بينما كانت المحكمة الاسكتلندية تنظر في استئناف المقرحي، بعد 32 عامًا من تفجير لوكربي، في 21 كانون الأول (ديسمبر) 2020 أعلن ويليام بار نفسه، النائب العام للرئيس دونالد ترامب حينها، عن لائحة اتهام جديدة خلال مؤتمر صحفي يُذكّر بذلك الذي كان قد عقده في العام 1991، ضد ليبي آخر هذه المرة، يدعى أبو عقيلة محمد مسعود. وفي إعلانه المفاجئ، زعم بار بأن مسعود هو عضو في جهاز المخابرات الليبي ولديه خبرة في صنع القنابل، وبأنه هو الذي اشترى الملابس من محل ملابس غوتشي، حيث تم لفّ مشغل كاسيت توشيبا المتفجر ووضعه في الحقيبة التي أسقطت رحلة “بان أميركان 103”. كيف عرف بار كل هذا بعد 32 عامًا من حدوث الواقعة؟ وزُعم أن مسعود أدلى بهذا الاعتراف الذي يجرم فيه نفسه في العام 2012 للمحققين الليبيين الذين يحققون في قضية السيارات المفخخة التي استخدمت في الحرب الأهلية في البلاد في العام 2011، والتي أنهت، بمساعدة حلف الناتو، حكم القذافي.
في ذلك الوقت، كان مسعود مسجونًا في سجن سيئ السمعة يسيطر عليه خالد الشريف، أحد كبار قادة الجماعة الإرهابية السابقة المعروفة باسم “جماعة ليبيا الإسلامية المقاتلة”. وكان الرئيس السابق للشريف هو عبد الحكيم بلحاج، الذي أمضى بضع سنوات في سجن أميركي أسوأ سمعة في خليج غوانتانامو. ما مدى المصداقية التي يمكن أن يتصف بها اعتراف إذا تم انتزاعه من شخص معتقل في مكان يشتهر بتعذيب مسؤولي القذافي السابقين؟
وثمة سؤال آخر يتعلق مباشرة بمزايا تفجير لوكربي هو: كيف يمكن لشخصين مختلفين جسديًا (المقرحي ومسعود) أن يشتريا الملابس نفسها من المتجر نفسه في اليوم نفسه؟
ومن المحير أيضًا أن بار اختار توجيه لائحة الاتهام الجديدة هذه في الأسبوع الأخير من فترة توليه منصب المدعي العام. وقد يكون أحد الأسباب هو أنه يريد أن يكون “دائرة كاملة”، كما قال في إعلانه -لأنه كان أول من أعلن رسميًا لائحة الاتهام ضد الرجلين الليبيين في العام 1991.
بينما كانت الذكرى السنوية الثالثة والثلاثين لمأساة لوكربي تقترب، كان ثمة شك متزايد في تورط المقرحي وبلده ليبيا في التفجير. وبينما ينتظرون نتيجة المحكمة العليا في المملكة المتحدة، يفكر عامر أنور، وجيم سواير، ونجل المقرحي، علي، في خياراتهم في حالة رفض المحكمة الاستئناف للمرة الثالثة.
ومع ذلك، هناك ثلاث حقائق تحيط بمأساة لوكربي ما تزال ماثلة اليوم. أولاً، أننا لم نصبح الآن أقرب إلى اكتشاف حقيقة تفجير لوكربي مما كنا عليه قبل ثلاثة عقود. ثانيًا، لقد انهار سرد المملكة المتحدة/ الولايات المتحدة تقريبًا، وكانتا تعرفان كل الوقت أن رجلاً بريئًا قد سُجن وأن عقاباً جماعياً فُرض على الأمة الليبية بأكملها. والأهم من ذلك، ثالثًا، أن الولايات المتحدة والمملكة المتحدة لم تكونا صادقتين مع عائلات ضحايا لوكربي.